اعتاد العرب والاسرائيليون ان يكونا عدوين، ورغم مرور عقدين على أول معاهدة سلام بين الدولة العربية الكبرى واسرائيل، ومرور نحو عقد على أول مؤتمر للسلام من نوعه بين الدول العربية واسرائيل في مدريد، يبدو هذا الاعتياد على العداوة مستمر حتى وهما يبحثان عن سلام بينهما، فهما على طرفي نقيض بالنسبة لجوهر السلام وبالنسبة لتوقيت احلاله: العرب مع استعجال السلام واسرائيل مع استبطاء السلام، وبين الاستعجال العربي والاستبطاء الاسرائيلي تدور معركة رهانات تكتيكية واستراتيجية وتتخفى اهداف كبيرة. نجح الاستبطاء الاسرائيلي حتى الآن في فرملة الاستعجال العربي وإضعاف قوته ودافعيته وتبديد الكثير من اهدافه، ونجح في فرض برنامج السلام الاسرائيلي ومنهجيته لجهة المضمون والتوقيت الى حد بعيد، ونتيجة لذلك لا احد يعرف حتى الآن متى يتم التوقيع على السلام المتوقع، فهو سلام متأخر كثيراً وقد يتأخر اكثر. فاسرائيل لم تستعجل السلام منذ اقامتها حتى الآن، ولم تستعجل حتى وقف اطلاق النار في كل الحروب مع العرب سوى مرة واحدة، كانت في بداية حرب عام 1948 حين حثت المجتمع الدولي ممثلاً بالأمم المتحدة على فرض الهدنة الأولى عبر قرارين اصدرهما مجلس الأمن منذراً فيهما الدول العربية بالاسم في حال عدم الموافقة، آنذاك استعجلت وقف اطلاق النار ولم تستعجل السلام. لقد رفضت اسرائيل الاستجابة لقرارات وقف النار في حينها ورفضت بعدئذ التوجه الى السلام فوراً، وبسبب انتصارها وقوتها، وعدم قدرة العرب على استرجاع ما احتلته من ارضهم بالقوة العسكرية وسعيهم الى استعادتها بالقوة الديبلوماسية، فقد رفضت وكبحت اي توجه عربي ودولي لاستعجال التوصل الى السلام ولجأت الى كل تكتيك وسبيل ممكن من اجل استبطاء السلام ودفعه الى أبعد مدى زمني ممكن. في المقابل، استعجل العرب السلام، ولكن من دون جدوى، منذ حرب 1948 حين أقروا مبدأ التقسيم ووافقوا على بروتوكول لوزان، وبعد حرب 1967 حين وافقوا على القرار 242 ومبادرة روجرز، واستعجلوه اكثر بعد حرب تشرين وانعقاد مؤتمر جنيف والتوقيع على اتفاقات فصل القوات، ثم استعجلوه ثانية بعد غزو لبنان في صيف 1982 حين اقروا ما عرف بالمبادرة العربية في قمة فاس الثانية في ايلول سبتمبر 1982، ومنذ انتهاء حرب الخليج الثانية وانعقاد مؤتمر مدريد في نهاية تشرين الأول اكتوبر 1991 وحتى الآن وهم يستعجلون السلام العادل والشامل والدائم من دون طائل، فاسرائيل تزداد قوة وتمترساً وتمسكاً بمبدأ او استراتيجية استبطاء السلام نظراً لما حققته وما يمكن ان يحققه لها من مكاسب كبيرة طالما ان العرب يزدادون ضعفاً على ضعف، وطالما ان استعجالهم للسلام ليس الا نتيجة لضعفهم وخوفاً من مزيد من الضعف قد يحل بهم وقد يدفع بهم للقبول بما هو أسوأ، وهي تعتقد جازمة ان استبطاء السلام سيدفع العرب الى تقديم تنازلات اكبر وللقبول غداً بما لا يقبلونه اليوم، تماماً كما هم الآن يقبلون بما لم يقبلوه بالأمس. تعي اسرائيل جيداً، وكذلك العرب، ان السلام عبر التاريخ، وعبر تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي، هو محصلة موازين قوى، وتدرك ان موازين القوى اليوم هي لصالحها: فهي الأقوى عسكرياً وتتمتع بقوة اقتصادية وتقنية كبيرة، وهي الأقرب الى الولاياتالمتحدة القوة العظمى في عالم اليوم، والحليفة الاستراتيجية لها في المنطقة، وتقيم علاقات افضل وأوسع مع كل القوى والعواصم الدولية الكبرى والصغرى، وعلى عكس ذلك حال العرب: 1 - تراجع مستمر في العمل العربي المشترك بكل مستوياته من القمة الى القاعدة وافتقاد يتزايد الى أدنى اشكال التضامن العربي. 2 - رسوخ القطريات العربية وتقدم الهم القطري على الهم القومي. 3 - اختراق اطراف عربية عدة للمحظور سابقاً مع اسرائيل لجهة اقامة علاقات معها قبل احلال السلام العادل والشامل. 4 - الافتقاد الى الحليف الدولي السابق والى حلفاء جدد بعده. 5 - الازمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تهدد أمن واستقرار ووجود اكثر من دولة عربية. 6 - زيادة التواجد العسكري الغربي في المنطقة. وأبرز صور او حالات الاستعجال العربي للسلام حتى الآن هي: 1 - زيارة السادات للقدس المحتلة في تشرين الثاني نوفمبر 1977 والتي لم تحل دون استبطاء اسرائيل للسلام مع مصر حيث لم يتم التوصل الى اتفاقات كامب ديفيد الا في ايلول 1978 والى معاهدة السلام معها الا في آذار مارس 1979 والانسحاب الكامل من سيناء عدا طابا حتى عام 1981. 2 - موافقة الدول العربية عام 1991 على المشاركة في المفاوضات المتعددة الاطراف وعقد مؤتمرات القمة الاقتصادية مع اسرائيل ورفع بعض المقاطعة عنها. 3 - موافقة الجانب الفلسطيني على اتفاق اوسلو والفصل زمانياً بين مرحلتي الاتفاق: الموقت والنهائي من دون ضمانات كافية. 4 - اقامة دول عربية علاقات ديبلوماسية وتجارية مع اسرائيل قبل انهاء الاحتلال الاسرائيلي للأراضي العربية. 5 - الترحيب العربي الواسع بايهود باراك رئيساً للحكومة الاسرائيلية فور انتخابه في ايار مايو الماضي وتصويره وكأنه رجل السلام الاسرائيلي. ويبدو التلويح الاسرائيلي الحالي بإمكانية انسحاب القوات الاسرائيلية من الجنوب اللبناني حتى من دون التوصل الى اتفاق سلام مع سورية او لبنان، تأكيداً لمبدأ استبطاء السلام وسعياً من اجل: 1 - توجيه رسالة الى المجتمع الدولي بأن لا اطماع لاسرائيل في الأراضي اللبنانية. 2 - اظهار انها تنسحب من أراض عربية حتى وإن لم يتم التوقيع على السلام كثمن مقابل. 3 - اظهار ان الدول العربية تريد الانسحاب وتكتفي به ولا تريد السلام. 4 - تشكيل حالة ضاغطة على سورية لسحب قواتها من لبنان وإظهارها وكأنها الرافضة للمبادرات السلمية الاسرائيلية. وتراهن اسرائيل، كما يبدو حالياً، على افشال مقولة ان لا سلام بدون سورية وذلك عبر الفوز بمزيد من الاعترافات والعلاقات مع دول عربية اخرى. والسؤال المطروح بالأمس ولا يزال مطروحاً اليوم هو: هل يملك العرب، فرادى او مجتمعين، القدرة على استعجال اسرائيل للسلام معهم كما يستعجلون هم السلام معها؟ حتى الآن، فإن رهان العرب لتحقيق ذلك هو على واشنطن أياً كانت الادارة الموجودة في البيت الأبيض، ولكن واشنطن، كما تل أبيب، لا تستعجل السلام، رغم رغبتها المعلنة به. والملاحظ حتى الآن ان اسرائيل تعرف احوال العرب وتدرس خياراتهم اكثر مما يعرفه العرب عن حالهم والخيارات الواقعية والممكنة والمستقبلية، وهي تضع خياراتها في مواجهة كل الخيارات العربية الممكنة لمحاصرتها وإجهاضها ولجعل العرب امام خيار واحد: التوجه الى اسرائيل وليس الى واشنطن، والقبول بما تعرضه اسرائيل والتسليم بأنها القوة المهيمنة، فهل يستفيق العرب ويستدركون احوالهم ويستعجلون السلام مع الذات لإعادة بناء قوتهم قبل استعجال السلام مع من يريد تدمير ما بقي لدى العرب من قوة؟ * كاتب فلسطيني - دمشق