تثير المناقشات الدائرة حول مشاريع واحتمالات توطين الفلسطينيين في لبنان ردود فعل غاضبة بين قيادات فلسطينية. فالنقاش لا مبرر له، في تقدير اولئك المسؤولين، لأنه ليست هناك مشاريع توطين. ان هذه المشاريع هي، في تقدير القيادات الفلسطينية المعنية، من صنع خيال اللبنانيين وحدهم. وإذ تحول النقاش حول التوطين الى مناسبة لتوجيه الاهانات الى الفلسطينيين، والمطالبة بالتخلص منهم، يخشى بعض المسؤولين الفلسطينيين أن يكون الجدل حول مشاريع التوطين جزءاً من مؤامرة لتهجير الفلسطينيين بصورة قسرية الى خارج البلاد العربية. تجنباً لمثل هذه المؤامرة تطالب تلك القيادات الفلسطينية بإنهاء النقاش الدائر حول مسألة التوطين في لبنان. ردة الفعل هذه صحيحة في حدود تعبيرها عن أسف فلسطيني مشروع بسبب تجدد الحملات السياسية ضد الفلسطينيين. وردة الفعل هذه ليست فلسطينية فحسب بل هي أيضاً لبنانية أيضاً. ذلك ان أوساطاً لبنانية متعددة ترفض ان تنزلق المناقشات حول احتمالات التوطين الى فرصة للاساءة الى الفلسطينيين عموماً أو الى فلسطينييلبنان بصورة خاصة. ما عدا ذلك، فإن الكثيرين يعتقدون ان السكوت عن احتمالات التوطين - لا مناقشتها - مضر بالفلسطينيين، مضر بقضية فلسطين، مضر بلبنان وبالقضية العربية عموماً. ان فكرة التوطين ليست وهماً وخيالاً بل هي من الاحتمالات التي لم تسقط يوماً من حسابات اسرائيل ولا من حسابات الدول المؤيدة لها. ففي عام 1951 مثلاً، وبعد أعوام قليلة من توقيع الهدنة بين الدول العربية واسرائيل، ارسلت حكومة دولة غربية تعليمات الى سفاراتها في الدول العربية التي لجأ اليها عدد كبير من الفلسطينيين، ومنها لبنان بالطبع، تطلب اليها الاتصال بحكومات هذه الدول وبلفت نظرها الى ضرورة "تثقيف" اولئك اللاجئين الفلسطينيين على قبول فكرة التوطين. إذا كان هذا هو موقف حكومة غربية عندما كان الرفض العربي لاسرائيل في أشده، وإذا كان هذا الموقف معبراً عما كان سائداً في دول الغرب آنذاك، فإنه من المستبعد أن يكون هذا الموقف قد تغير اليوم بعد أن بدأت "عملية السلام" العربية - الاسرائيلية. وإذا كان هذا هو موقف دول الغرب التاريخي من قضية التوطين، فإنه ليس من المنطقي ان يتوقع المرء موقفاً مغايراً لاسرائيل، خاصة عندما يعلن رئيس وزرائها ايهود باراك انه لن يقبل بعودة اللاجئين الفلسطينيين الى بلادهم، وعندما تقترب مفاوضات الحل النهائي التي ستتمحور حول القضايا الرئيسية وفي المقدمة منها قضية اللاجئين الفلسطينيين. ان هذه المعطيات تجعل من بحث مسألة التوطين والتشاور والتداول في كيفية مواجهة هذا الاحتمال وضمان حق الفلسطينيين في العودة الى بلادهم أمراً سليماً بأي مقياس. انه سليم بمعيار الشرعية الدولية طبقاً للقرار الدولي 194 وللاعلان الدولي لحقوق الانسان الذي ينص على حق الانسان في العودة الى بلده. وهو سليم بالمقياس العربي الذي يدعو كل عربي الى مقاومة المظالم التي لحقت بالفلسطينيين ومنها تشريدهم من بلادهم. ان اقتصار بحث الموقف من مشاريع التوطين واحتمالاته على لبنان يرجع لأسباب لا تغيب عن مسؤولي السلطة الفلسطينية الذين عاشوا ردحاً من الزمن في لبنان وعرفوه عن كثب وادركوا أوضاعه مثلما يدركها أي لبناني. من هذه الأسباب ما لخصه بدقة الأستاذ شفيق الحوت، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان لسنوات قليلة إذ قال ان احتمالات التوطين "... تثير في لبنان حساسية خاصة، تميزه عن غيره من "الدول المضيفة" للاجئين، وذلك لأسباب معروفة ومشروعة، تمس مصير النسيج المجتمعي في لبنان وتركيبته الطوائفية، ووضعه الاقتصادي المحدود الموارد، والمعتمد على الخدمات والسياحة بشكل خاص". من ناحية أخرى فإن المناقشات الواسعة حول التوطين تعكس معطيات أخرى منها ان لبنان يضم أكبر تجمع للفلسطينيين خارج فلسطينالأردن، ومنها أيضاً طبيعة المجتمع اللبناني المفتوح حيث تطرح القضايا الساخنة للمناقشات العامة، والتداخل التاريخي بين قضيتي لبنانوفلسطين، ونمط الالتزام السائد بالقضية الفلسطينية بين كثرة اللبنانيين. هذه المعطيات جعلت لبنان "متفرداً" دوماً في علاقته بالقضية الفلسطينية. جعلته يتفرد عندما تحول طيلة عقدين من الزمن تقريباً الى ساحة العمل الفلسطيني الرئيسية، وهي تجعله يتفرد اليوم اذ تدور مناقشات واسعة فيه حول أخطار التوطين وسبل مقاومته والتمسك بحق الفلسطينيين في العودة الى ديارهم. وإذا كان هناك من خطأ على هذا الصعيد فهو ان تنحصر هذه المناقشات في لبنان وحده بدلاً من أن تمتد لكي تشمل الدول العربية الأخرى وان تتبلور في تحرك واسع النطاق بقصد الحفاظ على حقوق الفلسطينيين الانسانية والوطنية والتاريخية. ان تحويل المناقشات حول احتمال التوطين الى فرصة للحط من الفلسطينيين أمر غير مقبول، وهو لا يخدم الفلسطينيين ولا يخدم اللبنانيين أيضاً. ولكن المناقشات حول هذا الاحتمال لها وجهها الايجابي على أكثر من صعيد. من هنا فانها بدأت بين فلسطينييلبنان الذين يخشون ضياع حقهم في العودة قبل أن تبدأ بين اللبنانيين. وهذه المناقشات كانت فرصة للفت الأنظار الى أوضاع الفلسطينيين المتردية. ففي المؤتمر الذي نظمه مركز الدراسات اللبنانية في مدينة اوكسفورد البريطانية قبل أربع سنوات حول الفلسطينيين في لبنان، والذي حضره عدد من المسؤولين في المنظمات الدولية المعنية ومن دول الغرب، أشار باحثون لبنانيونوفلسطينيون الى تفاقم الأوضاع الصحية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية بين فلسطينييلبنان ودعوا المجتمع الدولي الى تحمل مسؤولياته على هذا الصعيد. وفي اطار المناقشات حول احتمالات التوطين في لبنان تقوم قيادات لبنانيةوفلسطينية بجهود من أجل تكوين موقف مشترك يمكن أن يتأسس عليه تحرك هادف يخدم القضية الفلسطينية. بدلاً من الخوض في المناقشات الواسعة حول مسألة التوطين واحتمالاته، يقترح بعض المسؤولين الفلسطينيين نهجين آخرين لمتابعة هذا الموضوع، أو بتعبير أدق لمتابعة موضوع اللاجئين الفلسطينيين. النهج الأول، هو ترك القضية للسلطة الفلسطينية باعتبارها هي المؤتمنة على القضية الفلسطينية لكي تدافع عن حق العودة وتلزم اسرائيل بالقبول به. الثاني، هو كما تقول د. حنان عشراوي، عضوة المجلس التشريعي الفلسطيني، ابتعاد الدول المضيفة للاجئين عن المواقف الفردية والاتجاه الى الاهتمام الجماعي بهذه القضية في اطار التنسيق المحكم والتحرك السياسي والديبلوماسي العربي المتناغم والقوي والمنسجم. النقاش حول موضوع التوطين في لبنان لا يتناقض مع أي من هذين النهجين. ان رفض التوطين لا يضعف موقف المفاوض الفلسطيني، بل انه، بالعكس، يعززه. المفاوض الفلسطيني يستطيع الاستناد الى ردود الفعل السلبية، في لبنان وغيره، على فكرة التوطين في سياق اصراره على حق العودة. بالمقابل فإن سكوت اللبنانيينوفلسطينييلبنان عن هذه المسألة قد يعتبر نوعاً من التسليم الواقعي بها، وهو ما يضعف موقف المفاوض الفلسطيني ويعزز موقف المفاوض الاسرائيلي الذي يعارض حق العودة. اما التنسيق والتعاون بين الدول المضيفة للفلسطينيين، فإنه لا يتعارض البتة مع المناقشات التي يشهدها لبنان حول مسألة التوطين وحق العودة. ان الذين يسعون الى مثل هذا التنسيق لن يجدوا عقبة على الاطلاق في اقناع اللبنانيينوالفلسطينيين المقيمين في لبنان في جدوى التنسيق بين الدول العربية. بالعكس ان هؤلاء يدركون ان تنسيقاً حقيقياً بين الدول العربية يعزز أمل الفلسطينيين في العودة الى ديارهم. كذلك يدرك هؤلاء اللبنانيينوالفلسطينيين ان الأصوات التي ترتفع بينهم لكي تعلن تمسكها بحق العودة تخدم أية استراتيجية عربية مشتركة للحفاظ على هذا الحق. انه حري بالمقتنعين بأهمية التنسيق بين الأطراف العربية ان يحثوا السلطة الفلسطينية على الالتزام بهذا النهج. اما الكثرة من الذين يشتركون في المناقشات الدائرة حول مشاريع التوطين في لبنان، فانها كانت ولا تزال في مقدمة الذين يشددون بالفكر والعمل على ضرورة التنسيق والتضامن والتعاون بين الدول العربية. * كاتب لبناني.