توفّر لنا وسائط الاتصال الحديثة تناول معارض وأحداث تشكيلية كانت بعيدة المنال، خصوصاً اذا كانت بشمولية أو أصالة المعرض الاستعادي الذي يكرم فيه المتحف «موما» في نيويورك وحتى نهاية حزيران 2009، الفنانة مارلين دوما، هو المعرض النجم الذي ملأ صداه الملفات النقدية في باريس، بعد عبوره منذ أشهر من هيوستن الى لوس أنجليس قبل أن يحط رحاله في نيويورك. ليست هي المرة الأولى التي تثير فيها الفنانة مارلين دوما الاهتمام، شهدنا حضورها المتميز في مهرجان دوكومنتا السابع عام 1980 في كاسيل (ألمانيا)، واحتلت الموقع المركزي نفسه عندما كانت شريكة في متحف الفن الحديث لمدينة باريس عام 1994، وذلك ضمن مهرجان: «من المفاهيمية الى الصورة»، ثم كرمتها باريس بمعرض شخصي بالغ العناية في متحف الفن المعاصر في مركز بومبيدو عام 2001. يعكس تباعد عروضها سمتها الشمولية وأصالة معاناتها من الشروط الانسانية التي صدّعت تجربتها العاطفية في خريطة مجتمع التمييز العنصري في «جنوب أفريقيا». ولدت في جنوب أفريقيا عام 1953 قبل أن تهرب مع عائلتها عام 1976 وتستقر في هولندا، حيث تدرس في الوقت نفسه الفن التشكيلي والعلوم النفسية (البسيكولوجيه) الجامعية. تصرّح اليوم بخصوص تصويرها الخاص للوجوه بأنها عندما تصوّر وجهاً أفريقياً تعبر الى مشهد غارق في دياجير الليل، وسواء أكان الرأس أبيض أم أسود، هندياً أم آسيوياً، يتحول الى مطلق إنسان مبني للمجهول يعاني المصير التراجيدي العام، محكوماً بالقهر والعذاب. والتصوير عندها شاهد استفزازي لأنه يعكس الشروط الانسانية الفاجعية التي يعاني منها إنسان العصر. بالنسبة اليها اللوحات ما هي إلا مجاميع من الجثث أو عذابات العاهرات، أو سادية خلع أعضاء الأطفال، لذلك توسم لوحاتها بأنها مقلقة تعاني أشد حالات الصراع الانفعالي احتداماً. قد تكون مارلين من أشد التعبيريين المعاصرين حدة مأسوية خانقة، تحشر الرأس في سجن اللوحة حتى يبدو مختنقاً في أنفاسه وحركته الزنزانية. في المعرض حشد من التجارب الاكتئابية: سبعون لوحة زيتية و35 ورقية مائية، ومئة «بورتريه» بالغة التميز حتى إن بعض النقاد يعتبرها من أشهر مصوري البورتريه في عصرنا الراهن. تستلهم مارلين في شكل عام الصور الوثائقية والصحافة والمجلات أكثر من الموديلات الحية، ذلك أنها تسترجع من خلالها انجذابها العريق الى سلوى المجلات والصحافة اليومية حتى عمر الثالثة والعشرين وضمن مناخ عزلة التمييز العنصري، ومشاهدها المروّعة والرعب المسيطر على الشارع، مما قادها الى الانكفاء على الذات والتقوقع الانطوائي الفجائعي. تستلهم في إحدى لوحاتها المعروضة صورة صحافية لأحد المنتحرين بالسقوط من أعلى برج في نيويورك. لعلها الصورة الأصدق تعبيراً عن الغثيان المعاصر الذي تعتمده تقنيتها الشاحبة المتسارعة النزقة والتي تقنع بأشد الرسوم خطورة وتراجيدية من خلال شفافية اللون والخط. من المؤسف أن تجربة مارلين دوما على أصالتها وقربها من هواجسنا التعبيرية شبه مجهولة ضمن أوساط الفنانين العرب، مع أن شهادتها التصويرية تستحق المتابعة ولو من طريق الطباعة والشاشة.