وقفت مذهولة ،شاردة، ثم في حركة سريعة،أمسكت جوالها القديم اللعين، وقذفته بعصبية شديدة ليرتطم بالحائط، فتناثرت أجزاؤه في أرضية الصالة ، هذا الجوال الذي كان سبب تعارفها بأحمد، وهو نفسه سبب دموعها ونحيبها اليوم.تملكتها حالة هيستيريا شديدة وهي تفتح النافذة مطلقة صرخة ارتجت لها جدران الغرفة,وجعلت كل المارين في الشارع يلتفتون. لم تفق إلا وهي ممددة علي سريرها،تحاول فتح عينيها في بطء ،للتعرف علي الرؤوس التي أحاطت بها. تناهت إلي مسمعها أصوات خافتة ، لم تتبين منها كلمة واحدة. مدت يدها تمسح دمعة حارقة،ثم أغمضت عينيها كأنما تريد الإحتفاظ ببعض الصور التي راحت ترتسم أمامها في تزاحم و اطراد . ( يا سعد اللي عرف مرة حنان الحب وقساوته ويا قلبه اللي طول عمره ما داق الحب وحلاوته تشوفه يضحك وفي قلبه الأنين والنوح عايش بلا روح وحيد والحب هو الروح ) كان يوما مشمسا جميلا،تزينت فيه المدينة لاستقبال الربيع،بعد شتاء قاس جثم علي صدرها طويلا. وهي تهم بمغادرة صالون التجميل الذي تعمل به،سألت صديقتها العاملة معها إن كانت تعرف محلا مختصا في تصليح الهواتف،فدلتها علي واحد يقع في آخر الشارع،سبق لها التعامل معه، حيث وجدت الجودة في العمل،والرقي في التعامل. غادرت سريعا وهي تلعب بحقيبتها اليدوية، وتتحرك في رشاقة،رغم السمنة البادية علي جسدها،وعدم تناسق أجزائه.لكن الروح المرحة،والجميلة التي تسكنه ،جعلته خفيف الحركة لا يشكل لها عقدة،أو هاجس. – السلام عليكم – وعليكم السلام ورحمة الله تعالي وبركاته رد الشاب الجالس وراء إحدي الطاولات ،وقد انتشرت أمامه أشكال متعددة من الهواتف،تشبه في منظرها الأجساد المتقطعة ،والمتناثرة علي الأرض بعد حرب ضروس. أخرجت هاتفها من حقيبتها،وقدمته له وهي تحاول أن تشرح له الخلل الذي أصابه. التقطه من يدها وهو يتفحصه تفحص الجراح لجسد منهك،تمدد علي طاولة الجراحة ،ينتظر إخضاعه لعملية جراحية معقدة. أخرج من الدرج شريطا ألصقه علي ظهر الهاتف،ثم طلب منها إسمها، ورقم هاتفها حتي يتم الاتصال بها،حين إصلاحه. -امممم لا أملك هاتفا آخر لتتصلوا بي . قالتها متلعثمة ،قبل أن يأخذ الشاب ورقة يدون عليها إسما ورقما قائلا: هذا رقم التقني صاحب المحل، يمكنك الإتصال به ابتداء من الغد -إن شاء الله-ليطلعك علي الجديد. وضعت الورقة في جيبها ،ثم غادرت متوجهة إلي بيتها. كان ليلها رتيبا كالعادة .فلياليها كلها تتشابه في جزئياتها.مطبخ، تلفزيون، ثم نوم عميق لا أحلام فيه. وحتي فترة العمل الصباحية، كانت كسابقاتها التي لا جديد فيها،إلا ما تنقله ألسنة بعض النسوة وهن يجلسن علي كرسي الحلاقة الذي أصبح يشبه كرسي الإعتراف. وهي تغادر لشراء ساندويتش ، ومشروب تقاوم بهما التعب ،وحرارة الجو.تحسست جيبها لتخرج ورقة مكتوب عليها:أحمد،رقم الهاتف…….. لحظتها تذكرت هاتفها ،فاتجهت نحو هاتف عمومي -ألوووو.من معي؟ -ألوووو.مساء الخير.أستاذ أحمد؟ -نعم أنا أحمد من معي؟ -معك إيمان .قالتها بسرعة وبلاهة كأنما يعرفان بعضهما من زمان. -إيمان من؟جاءها الصوت من الطرف الآخر ليوقظها من غفوتها المفاجئة. -آ..آ..عفوا أستاذ أحمد أنا تركت هاتفي عندكم لتصليحه،وأردت الإستفسار. -ما نوع هاتفك أستاذة إيمان؟ -آه..آه..نوعه….(…) -انتظري دقيقة من فضلك. كانت تتساءل عن سبب الإرتباك الذي أصابها،وسر هذا التلعثم الذي كاد يعقد لسانها وهي تحدثه.لم يكن صوته غريبا عليها،كان فيه حزم يدل علي رجولة،ولكن ذراته كانت معبأة برقة خفية أحست بها وهي تكلمه. -أستاذة إيمان ،يمكنك المرور في أي وقت لاستلام هاتفك. هو جاهز . ( وبعد الليل يجينا النور وبعد الغيم ربيع وزهور اهو من ده وده الحب كده مش عايزه كلام ) لم تفهم ماالذي حدث لها،دفعت ثمن المكالمة،وخرجت مسرعة ،قاصدة المحل.كان في نفسها فضول لاكتشاف التقني،صاحب الصوت الحازم الرجولي. أسرعت في مشيتها حتي لا يغادر ،فتجد من استقبلها يوم أمس. ما أن دخلت وسلمت،حتي تسمرت في مكانها . لقد كل غض الشباب ،ينطق جسده رجولة،تماما كما رسمته في خيالها،حين كانت تحدثه،وتحاول رسم صورة في خيالها مطابقة للصوت! وكمن لدغتها أفعي،فقد أصابها الخرس وهي تدفع له أجره ،وتستلم هاتفها لتغادر سريعا. في منعطف الشارع،توقفت تملأ رئتيها بالهوي. فقلبها يخفق بقوة،ورقبتها تتعرق.كانت في حال لم تعهدها من قبل. مدت يدها وفتحت زر قميصها العلوي، فقد أحست بالاختناق.مشت خطوات،ثم توقفت ، وفي حركة لم تفكر في عواقبها اتصلت برقمه . -ألوووو.من معي؟ أنا ..أنا إيمان.إيمان التي استلمت منك هاتفها منذ قليل -آه نعم.هل هو يعمل بطريقة جيدة؟ -نعم أنا جيدة…أنا…أنا… -هههه ما بك أستاذة إيمان؟ أنا سألتك عن الهاتف ،إن كان يعمل جيدا. -نعم ..نعم…وأنا كلمتك لأجربه ، وفي نفس الوقت أشكرك.سلا…سلام. وأغلقت الخط دون انتظار رده،ولم تفق إلا وهي تضم الهاتف إلي صدرها. ( وبعد الغيم ما يتبدد وبعد الشوق ما يتجدد غلاوته فوق غلاوته تزيد ووصله يبقى عندي عيد ) ولحديث القلوب شجون لا تنتهي