"لن يتعدى موعدك منتصف شهر شباط". قالت بيقين شديد، وهي تقرض مجروش الثلج الممزوج مع شراب البرتقال. أطلقت تنهيدة طويلة تشي بسعادتها من البرودة المتسرّبة الى جوفها، بينما كان وجهها لا يزال يحمل حمرة سخونة الشمس في الخارج، بعد مضي عشرين دقيقة على دخولها. جاءت لزيارتي بعد ان عرفت بخبر الحمل من أحمد مساء امس، عندما مرّت عليه في محله بسوق اسطنبول. "لو رأيت مقدار الفرح على وجه أبو فادي"! رشفت من الشراب، استبقت بعض الثلج في فمها، ثم أعادت الكأس الى الطرابيزة أمامها. "حقه ان يفرح، لم تنجبي له سوى ولد واحد". "والبنتان"؟… "البنات غير محسوبات من الخلفة، مآلهن لرجل غريب". ردّت بحدة تعودتها منها. ثم التقطت مجلة كانت قربها، وراحت تهزها كي تجلب لها المزيد من الهواء. "مراوح القش القديمة لا عوض عنها، هذا الجيل لا يحبها". لم أكن مهيأة نفسياً لزيارتها، واكثر ما احتاجه صحبة الصمت، كانت عمتي كثفت علاقتها بي بعد وفاة والديّ، فأنا البنت الوحيدة بين ثلاثة ذكور، وهي أورثت نفسها سلطة عليّ. "موعد ولادتك سيكون مناسباً، بداية الربيع، هذا افضل لحليبك"… نفضت قميصها القطني الابيض من ياقته، فبانت مساحة أكبر من تجاعيد رقبتها وصدرها، نظرت الى المروحة السقفية "علّيها شويّ"! أبتليت عمتي بهبّات ساخنة في جسمها، منذ دخلت سن اليأس قبل أربع عشرة سنة، وهي هبّات تزيد مع حرارة الصيف، وتجعلها عصبية المزاج. "صحيح من قال شوب تموز"… قالت وهي تتطلع بتململ الى المروحة، فنهضت غير متحمسة لهوائها الصناعي، وخطر لي ان فتح التلفزيون في هذه اللحظة سيكون فكرة جيدة. كانت رفضت الدخول الى صالون الضيوف المكيّف، بحجة انها ليست غريبة، قالتها بإصرار، وادركت قصدها، فهي شديدة التعلّق بالتلفزيون. "تتابعين المسلسل اليومي في القناة المصرية"؟ "أحياناً". أجبت باقتضاب، وذهني منشغل بالخبر الذي سرّبه صاحب المخبر لأحمد. كنت أجريت الاختبار منذ يومين، بعد ان شعرت بأعراض غريبة في جسمي، متيقنة من ان النتيجة سلبية. أردت حسم الامر فقط، لكن مدير المخبر، قريب زوجي أكده، بشّره، وقال انني حامل! اللعينة نسبت طفلاً غريباً لزوجها"! علّقت على المسلسل قد أدارت وجهها باتجاهي، فضبطتني بعينيّ الزائغتين. "كأنك منزعجة من هذا الحمل؟"… هززت رأسي بالإيجاب. "جنون نسوان هذا الزمن، أنجبت أنا سبعة، وأمك أربعة، ما عدا الذي أجهضناه"! قالت متفاخرة، ثم أدارت وجهها مرة اخرى باتجاه المسلسل. تذكرني نبرتها بنبرة زوجي في الحديث، الزوج الذي رحل قبل عشر سنوات، كانت ترتجف من قسوته. هي على النقيض من أمي المرحومة. ملامحها دقيقة، صوتها رفيع، وجسدها نحيل أميل الى الطول. كانت أمي قصيرة، بجسد ملفوف وبشرة ملساء ناعمة. امي كانت اكثر انوثة منها. "لم أشرب قهوتي اليوم" أسعدني ايحاؤها فنهضت باتجاه المطبخ القريب من غرفة الجلوس. سأرتاح قليلاً من تعليقات لا تقبل المساومة، أوامر حفظتها من دون نقاش، وتعيدها عليّ بالصيغة ذاتها. لو انها تسارّ، كنت فضضت لها قلبي، وألقيت أمامها بتشوشي الذي لا اجرؤ على مفاتحة أحد به. لو ان أمي لا تزال حيّة! ربما صدمتها المفاجأة، لكنها كانت ستسمعني من دون اتهامات. امي الضعيفة المستسلمة لأبي واهله، ولكل من احاط بها. امي التي لم تجد الصراخ يوماً ولا التأنيب. تهديدها لنا كان يثير ضحكنا، ويجلعنا نمعن الذنب والمخالفة. بينما كان وجود أبي الحازم في البيت، بحدّ ذاته، تهديداً وتحذيراً لنا بالتزام الهدوء. تجمعت الرغوة على وجه القهوة، سكبت بعضها في الفنجان لاحافظ عليها كما تحبها، "قهوة بوش، والا سيتضح الامتعاض على وجهها". قلت لنفسي وأعدت الركوة مرة اخرى لتغلي على نار هادئة. لن يطول الامر سأواجهها مرة اخرى، ستحاصرني بالاسئلة، وأنا أجبن من ان أبوح لها بما في رأسي. هل أحكي لها عن الرجال الذين يزورنني، أحبتي المفتونين بي؟ ازدادت خفقات قلبي من الفكرة وشعرت بسخونة خديّ. فارت القهوة، وانتشر اللون المحروق على سطح البوتوغاز الابيض، انشغلت بمسح البن المبلول قبل ان يجفّ. أنجزت ذلك بجسد بدأ يظهر انهاكه ورغبته في الجلوس. منذ سنتين وأنا أنجز اعمال البيت من دون ملل، افعل ذلك كأنني أطير. قبلها، كنت على وشك الانهيار. التف حبل الروتين حول رقبتي وكاد يقتلني لولا احلامي التي بدأت تنتج الأحبّة. أغلق الباب صباح كل يوم خلف أحمد والاولاد، واستعيد تفاصيل الليلة السابقة، انا وهو بمفردنا، زائر الليل الفائت! لا احد يرانا. لا الجارة المتلصصة على هسيس الاصوات في البناية، ولا المعارف والأقارب الذين ينبعون في الشوارع. انا وهو بمفردنا، الرجل الذي يأتي بألف لبوس ولبوس. يتشكل بملامح جديدة من حلم الى آخر. لا اذكر كيف كنت انتهي من اعمال البيت. حال كان يذكرني بحال "أمّون"، المرأة التي سكنت حارة اهلي القديمة، أمّون، التي حكوا ان من خاوتهم من الجن كانوا ينجزون لها اعمال البيت بلمح البصر. عمتي شهدت مرة انها زارتها مبكراً: "وكان البيت يضوي مثل لؤلؤة، الغسيل على الحبل والطبخة جاهزة".
"بلغت"؟ أشارت الى ابنتى علا التي احضرت لها للتو سجادة الصلاة. "ليس بعد". قلت ولم أنظر في وجهها. وضعت الصينية والفناجين على الطاولة الصغيرة، بينما كانت هي ترتدي تنورة الصلاة الطويلة وغطاء الرأس الابيض. "أليست من عمر حفيدتي سميّة؟ أربع عشرة سنة ولم تبلغ بعد"! قالت مستنكرة، ثم تفحصتها بنظرات سريعة "طالعة على عماتها لا تشبهك". علقت من دون رضا، وهي المنحازة للبشرة البيضاء بشدة، فقد زوّجت ابناءها الثلاثة بنساء شقروات، زرقاوات العيون، لينجبوا لها احفاداً بالمقاييس نفسها، ولتمعن هي في ممارسة عقدة التفوق على من حولها. غمغمت بكلام من دون ان انظر في وجهها، سمعتها تنوي للصلاة. تبادلنا انا وعلا نظرة اتفاق سري، قبل ان تتسلل من الغرفة. لا احد يعرف بالخبر، لا ابوها ولا الاهل. سأؤخر اعلانه قدر الامكان. كنت أصغر منها بسنة، عندما فرض والدي وأخوتي الحجاب عليّ: قالوا إن جسدي يشي بكوني امرأة، ولن يسمحوا لي بالمرور في الحارة سافرة. يومها حدقت على جسدي، وعلى الدماء التي زفّت لي أمي معها انني بلغت مبلغ النساء. "صرت امرأة" قالت لي. واشتروا لي الايشارب لأغطي به رأسي. ارتديت الجوارب البيضاء السميكة التي تغطي كل سيقاني. لم أعارض، كان ذلك سيكلفني حرماني من المدرسة. سلمتْ وبدأت ابتهالاتها. "لتقم من ولادتها بالسلامة يا رب". مسني صوتها وهي تشملني بالدعاء الطويل المهموس، تيار أعاد وصل عاطفتي بها. مثلث من الخشوع يجمعنا، أنا وهي والرب في وحدة اتصال، ارتجفت رغبة بالبكاء. "هل تحدث المعجزات مع البشر العاديين يا عمتي"؟ خرج صوتي مخنوقاً. رمقتني وهي تملص رأسها من غطاء الصلاة، وكان لسانها لا يزال يستكمل بقية دعاء. "زوجي لم يقربني الشهر الماضي، كان مسافراً أغلب الوقت" قلت. ثم توقفت عن الحكي وعيناني على وجهها، كان فمها لا يزال يردد تمتمة خفيضة. "وممن سيكون الحمل"؟ قالتها بصوت رفيع زادت من حدته ليلائم نبرة التهكم. تناولت كأس الماء البارد من الصينية، وطلبت أن أرفع صوت المسلسل الذي كان قد بدأ على القناة السورية. "في الحلم"... بدأ صوتي يغوص، وكانت دقات قلبي تتسارع. "بعض النساء تتعب أعصابهن من الحمل فيهذين". قالت بحدة من دون أن تنظر في عيني، ورشفت من فنجان القهوة بصوت مرتفع. امسكت بالمجلة، وراحت تحركها مرة أخرى أمام وجهها، "صلّي. صلّي. هذه وساوس شيطان". كانت تجلس على "الشوزلونة" بموازاتي إلى اليسار، تتابع باهتمام أحداثاً لم أكن قادرة على استيعاب تفاصيلها. لو أن أحلامي حلقات مسلسل لأهتمت بها. "سيعرف أنها أمه اليوم يا ترى"؟... سألت من دون ان تلتفت إليّ، واستمرت تبحلق في الشاشة، مشدودة. منذ بدأت أشك بأمر الحمل، غابوا عني، زوار الحلم الذين يتوافدون كل على انفراد، يتقاسمون الليالي. مع كل واحد أذوق فرحة مختلفة، تذكرني ببداية علاقتي بأحمد. أحمد الذي خطبتني أمه ثم جاء هو. كاد يلتهمني بعينيه وأنا أقدم له القهوة. وفي كل مرة كان يزورنا فيها، يكاد يطير بيّ. قلت له إنني حزينة لعدم دخولي الجامعة. وعدني بتحقيق كل أحلامي، خطيبي أحمد. "متى يعود زوجك على الغداء"؟ انتهزت الفاصل الاعلاني لتتحدث. تريد ان تتجاهل الموضوع تماماً. "في الثانية"... "زوجك رجل بيت، أنقص عليك بشيء"؟ "لا، البراد مليء بالخضار واللحم، واشترى الدش لنتابع كل محطات العالم". قلت بنبرة ساخرة لم تلتقطها. "ديري بالك عليه إذن وبطلي تخريف". صوّبت وجهها باتجاه التلفزيون مرة أخرى. لم أقل لها انه صار مملاً، وأننا لم نعد نتحدث بغير احتياجات البيت. وانني أشك أحياناً بكوني أحفظ ملامحه، لأننا لم نعد نتبادل النظرات. لم أقل لها انه يتكهرب، كلما أثرت فكرة إعادة امتحان البكالوريا لأدرس الأدب العربي. مؤكد انها ستكرر تعليقه "ثم ماذا؟ ستصبحين أديبة"؟ عندما يقولها اسكت. لأن المواجهة تعني خروجي من البيت، اخوتي قالوا لي مرة عندما غضبت والتجأت لأحدهم، "بيتك قبرك". "تغدي معنا اليوم، سيحضر معه لحماً مشوياً" قلت وأنا أرفع صينية القهوة، ثم أكملت "احتفالاً بالخبر السعيد"! صدرت عني قهقهة حنجرة مذبوحة فرمقتني باستياء. * * * ارتدت البالطو الرمادي المصنوع من قماش التركال، وراحت تعقد الغطاء الأسود على رأسها، مغطية ذقنها ومساحة من الفم، فغابت التجاعيد التي عادة ما تتعمق أثناء الحديث. تغير شكل حجابها بعد أن غادرت الحي القديم، لم تعد ترتدي البالطو الأسود، ولا تغطي رأسها بالبرانيل، الأشبه بغطاء رأس الراهبات. "الله يرضي عليك، الكلام الذي سمعته لا أريده أن يتكرر. هون حفرنا وهون طمرنا"1. قالت وهي تنقل نظرها بيني وبين أزرار البالطو المدورة، التي كانت تدخلها في فتحات الجهة المقابلة. "لكنك كثيراً ما قلت ان أمّون حملت من الجن"! بصوت غاضب، خفيض، كي لا يسمعها الأولاد، قالت قبل ان تخرج من البيت: "تلك كانت أمّون الجدبة2، ونحن في عائلتنا لا يوجد جدبان ولا من عاشر الجان". 1 مثل حلبي لعدم خروج السر. 2 مجذوبة.