باستثناء الرئيس الأميركي بيل كلينتون، فإن ضيوف قمة الأمن والتعاون الأوروبية - التي عقدت في اسطنبول - من زعماء الدول الأعضاء لم يمكثوا في اسطنبول أكثر من 48 ساعة. إلا أن هذه المدة كانت كافية، على ما يبدو، لترويج دعاية جيدة لتركيا بين الزعماء الأوروبيين الذين أقاموا في فنادق راقية على حسابهم وتمتعوا بمشاهدة مضيق البوسفور والجزء المشرق فقط من المدينة. إذ تعاقبت تصريحاتهم للاعلام التركي تعبر عن اعجابهم بتركيا وحسن تنظيم القمة، مما دفع الإعلام المحلي الى استثمار هذه الدعاية للتفاؤل مبكراً بضمان تركيا مقعداً الى جانب الدول ال11 المرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي وذلك خلال قمة هلسنكي التي ستعقد الشهر المقبل. وودّعت اسطنبول أمس السبت حوالى ألف صحافي أجنبي جاؤوا لتغطية القمة. وهذه ثالث مرة تستضيف فيها تركيا هذا العدد الهائل من الصحافيين الأجانب بعد حادثتي محاكمة عبدالله اوجلان والزلزال الكبير في الصيف. والى جانب هذا الكسب الإعلامي، حصدت تركيا مكاسب أخرى، سياسية واقتصادية، من جراء استضافتها لهذه القمة، ابتداء من توقيع اتفاق باكو - جيهان النفطي الى تحسين علاقاتها مع كل من ارمينيا واليونان، اضافة الى ظهورها كحليف استراتيجي لواشنطن في المنطقة... في وقت يستقبل فيه الرئيس الأميركي في أثينا بعواصف من الغضب والاحتجاج. وتبني أنقرة آمالاً على ذلك لتحسين علاقاتها مع الكونغرس الأميركي واستمالة اللوبي الأرمني الى جانب اللوبي اليهودي اليها في مواجهة اللوبي اليوناني هناك. أما على صعيد رجل الشارع في اسطنبول، فقد جاءت مكاسبه بعد انتهاء القمة بعودة المرور في هذه المدينة المزدحمة الى طبيعته بعد يومين من الزحام الشديد سببه اغلاق الشوارع والأحياء المؤدية الى قاعة المؤتمر أو الى أي مكان آخر كانت تنوي ان تنتقل اليه السيدة الأميركية الأولى هيلاري كلينتون وابنتها تشلسي. ويبدو ان تركيا لم تنجح في الترويج للمؤتمر داخلياً مثلما نجحت في الترويج له دولياً. إذ أظهر احصاء محلي ان غالبية سكان اسطنبول لم يستوعبوا بعد ما حدث في المدينة خلال اليومين السابقين، في حين لم يفهم آخرون هوية منظمة الأمن والتعاون الأوروبية وعملها. وتشكل المنظمة مزيجاً من حلف شمال الأطلسي عسكرياً والأممالمتحدة قانونياً والاتحاد الأوروبي اقتصادياً. وفي ما يخص نتائج القمة، يصعب تحديد مدى نجاحها أو فشلها. إذ على رغم توقيع جميع الأعضاء البيان الختامي و"اعلان اسطنبول" واتفاق الحد من الأسلحة التقليدية بثوبها الجديد، إلا أن قضية الشيشان التي عصفت بالقمة راحت ضحية المساومات بين موسكو وواشنطن والسياسات الأوروبية التي يهمها بالدرجة الأولى خفض روسيا قواتها المسلحة وقواعدها العسكرية في القوقاز حتى وان استمرت الحرب في الشيشان. كما ان اتفاق الحد من الأسلحة قد وئد في القوقاز ايضاً. ويبدو أن أهم طرفين فيه وهما الولاياتالمتحدةوروسيا وجدا طريقهما للتملص منه عندما أكد الرئيس كلينتون انه سيعلق عرض الاتفاق على الكونغرس حتى تلتزم روسيا به أولاً. والشرط الأخير، مثلما هو واضح، مرهون بنتائج الانتخابات الروسية المقبلة وغير مضمون. كما شهدت القمة بداية مبكرة لكنها غير مشجعة لمحادثات القضية القبرصية التي ستبدأ رسمياً في الثالث من الشهر المقبل في نيويورك برعاية الأممالمتحدة. وحصل ذلك بعد لقاء كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة بطرفي الخلاف، جلافوكس كلاريدس ورؤوف دنكطاش، في اسطنبول واعلان كل منهما للصحافة بأنه متمسك بموقفه و"بحزم". ويبدو أن الأتراك الذين وقفوا خلف الرئيس الأميركي حين أكد ان ليس من حق أحد أن يمنع المنظمة من التدخل في الشؤون الداخلية لروسيا، يستبعدون ان تدور الدائرة عليهم يوماً ما ليجدوا أن المنظمة تبحث قضية أكراد تركيا مع أنقرة، وان اعترف بعض المسؤولين الأتراك بأن توقيع تركيا معاهدة حقوق الانسان يعتبر اعترافاً ضمنياً بحق أوروبا بالتدخل في شؤونها الداخلية. اما على صعيد الجوانب الايجابية للقمة، فيبدو أن كلاً من الطرفين الاذربيجاني والأرمني قد بدأ محادثات بناءة تتعلق بسبل حل النزاع بينهما على اقليم ناغورنو كاراباخ. وتدور هذه المحادثات حول الاعتراف أولاً باستقلال الاقليم، ثم بدء مفاوضات لالحاقه كفيديرالية باذربيجان. وفي حادثة هي الأولى من نوعها، قرر حلف شمال الأطلسي ارسال سفن بحث علمية للكشف على قاع بحر مرمرة واتخاذ الاحتياطات اللازمة تحسباً لوقوع زلزال في مدينة اسطنبول. ولا شك ان هذا القرار سيريح نفسياً الملايين من سكان المدينة الذين اعتادوا على مدى اليومين السابقين الاستماع الى أخبار الخلافات والمشاجرات بين الزعماء والوفود المشاركة في القمة حتى ختم رئيس الوزراء الدانماركي احداث القمة بابتسامة كبيرة، عندما سأله أحد الصحافيين في اليوم الأخير: "هل يمكنني نقل سؤال من زوجتي لك؟". فأجاب راسموسان رئيس وزراء الدانمارك قائلاً: "كلا آسف لست مستعداً لارتباط عاطفي جديد!!".