قالت السيدة أرشو توتنجيان وهي تشرح للحضور الذي ملأ مسرح "مونو" في بيروت ما يقوم به معلم ال"ايكيبانا" جويئتشي تشيغاهارا وهو يطوع بين يديه الأغصان والأزهار "ان على المرأة اليابانية أن تكون ملمة بثلاث مهارات لكي تتزوج: الطبخ والخياطة وايكيبانا". وأردفت قائلة: "لو أن هذه الشروط مفروضة على فتيات لبنان لما تزوجت واحدة منهن". لكن هذه المهارات لم تعد محصورة بالنساء وهي تحولت فنوناً اقتحم عالمها الرجال وباتوا رواداً فيها. وحضور تشيغاهارا الى بيروت لشرح فن تنسيق الزهور الياباني ورؤيته لهذا الفن في القرن الحادي والعشرين يأتي في سياق تحول يشهده فن يعود تاريخه الى البوذية التي دخلت اليابان في منتصف القرن السادس، وهي ديانة تستخدم الزهور نثراً وتقديماً في الصلاة. وقد اعتبرت هاتان الخطوتان أحد أصول "ايكيبانا". بدا حضور مسرح "مونو" موزعاً بين متضلع من فن "ايكيبانا" ودارس له، ومهتم بالطبيعة وسر جمالها. و"المعلم" الذي جاء من طوكيو الى بيروت لنشر روح الثقافة اليابانية المتجسدة في "ايكيبانا" في اطار جولة تشمل سورية والأردن، زاد في شوق الحضور الى مشاهدة عروضه باستباقها بمحاضرة تاريخية عن هذا الفن. "ففي عصر "هيان" 794 - 1185 بدأ عدد من الرهبان بتنسيق الزهور تعبيراً عن شكرهم لبوذا وكانوا يستخدمون عادة زهرة "اللوتس"، أما الطريقة التي ابتكروها في تنسيق الزهور فكانت تسمى "بوكا" وهذه كانت بداية "ايكيبانا". وفي عصر "كاما كورا" 1185 - 1333 بدأ محاربو الساموراي بتنسيق الزهور مستخدمين الأواني أثناء استقبالهم ضيوفهم وكانوا يبذلون جهدهم من أجل تناغم الزهور مع مجموعاتهم الفنية وهو ما عرف بطريقة تاتيبانا التي انتشرت لاحقاً بين أوساط الطبقة الأرستقراطية، وترافقت مع تطور طريقة "تشابانا". وهي لإعداد الشاي وتقديمه. وخلال عصر "ايدو" 1600 - 1868 برزت طريقة "ناغيري" وهي أسلوب كل مواطن. فأحدثت منعطفاً مميزاً في تاريخ "ايكيبانا". ولم تكن لهذه الطريقة قواعد محددة، ولكن سرعان ما وضع بعضها وسميت ب"تنشي جن سانساي" أي ثلاثة غصون رئيسية، وهي قاعدة "ايكيبانا" الحالية، وبسبب سهولتها وشعبيتها خلال منتصف عصر "ايدو" أنشأت مدارس عدة لتعليم "ايكيبانا". ومع دخول عصر "ميجي" 1868 - 1913 بدأت السمات الغربية تطبع الحياة اليابانية، خصوصاً الهندسة المعمارية. وفي خضم هذا التحول الغربي ظهرت النزعة الى الطبيعة للتعبير عن الحرية والشخصية. وتأثرت "ايكيبانا" بهذه الفكرة وظهر أسلوب جديد وحر من هذا الفن يميل الى تجاهل القواعد الصارمة في عملية تنسيق الزهور. وهو أسلوب "موريبانا" الذي ابتكره يونشن امهارا ويعتمد غرز الأزهار في القطعة المعدنية ذات المسامير التي توضع في وعاء مخصص للأزهار. وكانت هذه الطريقة الأسهل لتثبيت الزهور ما زاد من شعبية "ايكيبانا"، وفي المقابل ظهرت طريقة "شوكا" لمبتكرها تشوكا اداتشي الذي أسس مدارس نظامية من أجل تطوير "ايكيبانا" فنياً. وفي عصر "شووا" 1926 - 1989 أسس رواد "ايكيبانا" جماعتهم وألغوا كل الأساليب المتبعة بحثاً عن حرية أوسع وتعبير فني جديد. إلا أن ميلهم الى التغيير توقف مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، وبعد انتهائها أضاف رواد "ايكيبانا" بعض المواد في عملية التنسيق لجعل النباتات أكثر جمالاً وجاذبية مما هي عليه في الطبيعة. وقام الرائدان سوهو تشيغاهارا وهون اوهارا بتنسيق الزهور الى جانب الدمار الذي خلفته الحرب فنسقوا الطحالب في الصحون والأوعية المطبخية المحروقة والمكسورة، فصنعوا جمالاً من لا شيء وأعطتهم هذه الفلسفة دفعاً كبيراً للسير بهذا الأسلوب والتوجه الجديدين. "ايكيبانا" اليوم أصبحت فناً منتشراً في كل أرجاء العالم، فشعوب العالم كما قال تشيغاهارا تحب الزهور والنباتات والطبيعة. وقد تطور هذا الفن من تنسيق الزهور في فجوة، الى غرس الأزهار في أوعية توضع على الطاولات، وصولاً الى جعل الأزهار المنسقة قطعة فنية في حد ذاتها تحتل مساحات كبيرة، وأحدث المواد التي باتت تعتمد في "ايكيبانا" الى جانب الأزهار الحية قضبان الخيزران. "ايكيبانا" تعني الضيافة، وفي اعتقاد تشيغاهارا. ان على رواد هذا الفن التركيز في القرن المقبل على روح "ايكيبانا" أو حسن الضيافة، و"على الفنانين أن يوجدوا توازناً بين التعبير عن أنفسهم وحسن الضيافة". من شروط "ايكيبانا" التركيز والتعاطي بعناية وحنان مع الأغصان وأعناق الزهور، وحين بدأ تشيغاهارا تنسيق أزهاره التي تفاوتت ألوانها بين الأبيض والأصفر والزهر والليلكي ساد الصمت القاعة ليخرقه بين الحين والآخر صوت مقص "المعلم" وهو يقطع بعض أعناق الأزهار وفق الطول الذي يرغب فيه. وتٌجرى عملية القطع دائماً داخل وعاء من الماء، إذ يعتقد اليابانيون أن قطع عنق الزهرة في الهواء يسمح لبعضه بالتسرب الى العنق ما يعيق عملية وصول المياه الى الزهرة، في حين أن قطع العنق داخل الماء يبقيها فيه ويطيل عمر الزهرة. وهو أمر أثبت علمياً. وفي توزيعه الأزهار في أوعية مختلفة الأشكال والأحجام والألوان مع تركيزه على الأوعية الشفافة التي تظهر المياه فيها دليلاً الى الحياة، يميل تشيغاهارا الى ثني أعناق الأزهار من دون أن يعرضها للكسر، وهي عملية تتطلب صبراً وتركيزاً وهو يحتاج اليها في تشكيل لوحته الفنية ذات الأبعاد الثلاثة. وتتدرج الأزهار في ثلاثة أحجام، الطويل ويرمز الى الشمس، والمتوسط ويرمز الى الأرض والقصير ويرمز الى الإنسان. وتتنوع الأزهار المستخدمة في دلالة الى الزمن، فالزهرة المكتملة ترمز الى الماضي، والتي في بداية تفتحها ترمز الى الحاضر، أما الزهرة المطبقة فهي تجسد المستقبل. لا قواعد في استخدام أنواع الأزهار وألوانها. فالطبيعة هي المعلم الأفضل. وقالت السيدة توتنجيان وهي تدعو الحضور الى رؤية الجمال الذي صنع من بضع زهرات وأوراق وأغصان "ان "ايكيبانا" تمنح من يمارسها الراحة والتنظيم الذاتي والرضى الداخلي"، وهي كما قال السفير الياباني في لبنان ماتسو شيرو هوريغوتشي "أسلوب حياة تستمد منه السيدات اليابانيات الجمال والإخلاص والسلام الداخلي".