يعكس الكثير من الأحداث السياسية طبيعة الحكم في العصر المملوكي، إذ لم ينجح المماليك في إرساء قواعد ثابتة لتداول السلطة ما أدى في نهاية الأمر الى ضعفهم وتفككهم، وبالتالي زوال دولتهم على يد العثمانيين. والصراع بين المماليك على السلطة بدأ مبكراً، وتفاقم في أعقاب وفاة المنصور قلاوون، واشتدت حدته بعد وفاة الناصر محمد بن قلاوون الذي صار أولاد أحفاده خلال العصر المملوكي البحري ألعوبة بيد كبار الأمراء، يولونهم ويعزلونهم متى يشاؤون. ومن هؤلاء الأمير شيخو الناصري الذي يدل نفوذه في ذلك العصر على طبيعته، وعلى الفشل المملوكي خصوصاً بالنسبة الى صراعه مع السلطان الناصر حسن، والذي أثار المؤرخين فتناولوه بشيء من التفصيل. وازدادت مشاكل تداول السلطة تفاقماً خلال العصر المملوكي الجركسي، فكان الأمراء يصفّون بعضهم بعضاً حتى يتولى أقواهم الحكم ولو لليلة واحدة. مات الأمير شيخو ليلة الجمعة السادس عشر من ذي القعدة سنة ثمان وخمسين وسبعمئة بعد الهجرة إثر عملية اغتيال تعرض لها اثناء انعقاد ديوان العدل في قلعة القاهرة. وترك الأمير شيخو ثلاث منشآت ضخمة في القاهرة، أولاها مسجده الجامع الذي استخدم كمدرسة، ثم الخانقاه التي تقابل المسجد وأسكنها صوفيته الذين رتبهم أولاً في مسجده قبل بناء الخانقاه، وأخيراً الحوض المعروف باسمه. عاش شيخو في عصر مضطرب يحتاج الى مهارات خاصة ينبغي أن يتحلى بها كل طامح في مجد أو سيادة، بيد أن النتيجة الطبيعية التي رواها لنا التاريخ عن كل الطامحين في ذلك العصر المملوكي كانت الاغتيال أو النفي. ولذلك كانت نهاية اميرنا طبيعية، خصوصاً أنه تمتع بكل الخصال والمهارات التي أهلته الى الوصول لأرفع المناصب، وجمع من المال والثروة ما أهله لأن يعرف باسم "قارون عصره وعزيز مصره". ومع أن كثيراً من المؤرخين القدامى تناولوا حياة الأمير شيخو ومنشآته، فإن شيئاً من الغموض يلف حادثة وفاته وكذلك أولى منشآته المدرسة الشيخونية. ولم تجل هذا الغموض إعادة التناول من قبل الباحثين في العصر الحديث، مع ملاحظة أنه قُدمت أطروحة ماجستير الى كلية الآثار في جامعة القاهرة عن أعمال الأمير شيخو المعمارية، جمعت صاحبتها سعاد محمد حسن الكثير عن شخصية هذا الأمير. بدأت علاقة الأمير سيف الدين شيخو بن عبدالله العمري الناصري اللالا بمصر حينما اشتراه الملك الناصر محمد بن قلاوون من الخواجا عمر. ومر شيخو بالمراحل نفسها التي يمر بها كل مملوك جديد، وتلقى التربية العسكرية التي نعرفها عن حياة المماليك، وأصبح أحد المقربين من الناصر محمد وتزوج ابنته. وساعدت الظروف السياسية التي نتجت عن وفاة الناصر محمد في ارتفاع شأن الامير شيخو، إذ آل حكم مصر الى ابناء الأول وكانوا ضعاف الشخصية، صغار السن ليست لهم خبرة ولا ثقل في الحكم، ما سهل تدخل الأمراء المماليك في كل شؤون الحكم. وأصبح السلاطين الصغار ألعوبة في أيدي الأمراء الكبار، يولون ويعزلون من يشاؤون منهم. وإذا كان المؤرخون اطلقوا على نهاية العصر الفاطمي لقب "عصر الوزراء العظام"، فإنه يحق لنا أن نطلق على فترة حكم ابناء الناصر محمد اسم "عصر الأمراء العظام". وبالطبع فإن الأمير شيخو لم يكن بعيداً عن هذه الأحداث، بل شارك فيها مشاركة فعّالة وكان أحد صانعيها. ويقول عنه ابن إياس: "وقد اشتغل بلعب الطيور عن تدبير الأمور والنهي عن أمر الأحكام بالنظر الى الحكام. وصار لا يعرف الهزل عن الجد"، وأرسل الأمراء الثائرون شيخو "فإنه كان من ذوي العقول" لزجر المظفر حاجي، ولما فشلت وساطة شيخو الأولى أرسل ثانية ليبلغ المظفر بأن "القصد أن تخلع نفسك من السلطنة وادخل دور الحريم وصُن دماء المسلمين". وانتهى الأمر بقتل الملك المظفر وتولي الناصر حسن. ولعلنا نستشف من رواية ابن إياس السابقة مدى ما وصل إليه الأمير شيخو من مكانة أيام المظفر حاجي. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل سيطر على أمور الدولة، ووصل الأمر به إلى إخراج كبار الأمراء من سجن الاسكندرية. واستمر نجم الأمير شيخو في الارتفاع اثناء دولة السلطان حسن، ويروي المقريزي في هذا الصدد أنه في آخر الامر "كانت القصص تُقرأ عليه بحضرة السلطان في أيام الخدمة، وصار زمام الدولة بيده فساسها أحسن سياسة، وكان يمنع كل حزب من الوثوب على الآخر فعظم شأنه". ويبدو أن السلطان حسن الذي كان له طموح للسيطرة على الحكم لم يسترح لازدياد نفوذ شيخو وتسلطه، فأمر بتقليده نيابة طرابلس العام 751 هجرية. ولم يكن هذا التقليد سوى مقدمة للتخلص منه، إذ أمر بالقبض عليه وهو في الطريق الى الشام فأحضر الى الاسكندرية، وسُجن فيها. ولم يزل سجيناً الى أن تولى الملك الصالح صالح أخو السلطان حسن وأفرج عن شيخو العام 752 هجرية. وتسببت عودة شيخو بمشاكل لبعض الأمراء الآخرين، فدار صراع بين طاز الذي اتفق هو وصرغتمش وملكتمر وبين مغلطاي ومنكلي بغا وآخرين من كبار أمراء دولة المماليك. وانتهى هذا الصراع بانتصار طاز وفريقه، واحضار شيخو من الاسكندرية. وفور عودته أخذ يلعب دور البطولة في كل حدث تاريخي، وبدأت اعماله الجليلة بخروجه مع الملك الصالح الى الشام لقمع بعض الأمراء المتمردين، وتم القبض عليهم وانتهت هذه الفتنة العام 755 هجرية. ونتيجة لكل تلك الأعمال أغدق عليه الصالح صالح الأموال وأنعم عليه بوظيفة "أتابك العسكر"، أي القائد العام للجيش المملوكي، ومكنه ذلك من أن يتجه الى القلعة في موكب من أنصاره ليخلع الملك الصالح ويرسل به الى السجن، ويحضر الناصر حسن من سجنه ليتولى العرش مرة ثانية. ولعل هذا الموقف يشوبه الكثير من الغموض، إذ أن المؤرخين لم يتعرضوا للأسباب التي دفعت شيخو الى عزل الملك الصالح وتولية السلطان حسن في العام 755 هجرية. وكان من الطبيعي أن يطلق السلطان حسن يد الأمير شيخو في أمور الدولة كلها. يحدثنا المقريزي عما وصل إليه شيخو من نفوذ فيقول: "وصارت الأمور كلها راجعة إليه وزادت عظمته وكثرت أمواله وأملاكه ومستأجراته حتى كاد يكاثر أمواج البحر بما ملك. ولكن هيهات أن تدوم لحظات المجد في العصر المملوكي، إذ سرعان ما لقي شيخو حتفه بعد أن هجم عليه واحد من المماليك السلطانية التابعين للأمير منجك اليوسفي الوزير أثناء انعقاد ديوان العدل في القلعة في حضور السلطان حسن والأمراء والقضاة والأعيان وجميع أرباب الدولة". ويذكر المقريزي أن اسم هذا المملوك هو باي، بينما يذكر ابن تغري بردي ان اسمه قطلوخجا السلاحدار، وقد ضربه هذا المملوك بالسيف في وجهه وذراعه فوقع مغشياً عليه "وأرجف بموته وقام السلطان من على الكرسي ودخل الى القصر، فلما سمعت مماليك شيخو بذلك طلعوا القلعة صحبة أمير خليل بن قوصون فحملوا شيخو وبه رمق ونزلوا به الى داره، واحضروا الاطباء وزاره السلطان الملك الناصر حسن في اليوم التالي، وحلف له أن الذي وقع لم يكن بخاطره ولا علم له به، وكان الناس ظنوا أن السلطان هو الذي وراء ذلك الحادث، فتحقق الناس من براءة السلطان". وسرعان ما تم إلقاء القبض على القاتل وأمر السلطان بتوسيطه أي شقه نصفين بالسيف. وقد سئل عن سبب قتله شيخو، ويذكر المؤرخون إجابتين عن السبب. المقريزي يذكر أن القاتل قال: إنه قدم طلباً ليحصل على إقطاع زراعي بدلاً من الراتب الشهري القليل، ولم يلتفت شيخو لطلبه. ويذكر ابن تغري بردي أنه أجاب فقال: "طلبت منه خبزاً فمنعني منه وأعطاه لغيري". وإذا حاولنا تحليل هذا الحادث لتوضيح هوية القاتل والأسباب التي دفعته للقتل لخرجنا برأيين: الرأي الأول أن أحد المماليك كانت له مظلمة عند الأمير شيخو، وشعر بالظلم فبيت النية لقتل شيخو الى أن تم له ذلك، وهذا رأي نستخلصه بسهولة من أقوال المؤرخين القدامى. الرأي الثاني هو الذي نميل اليه، وخلاصته أن هناك شخصاً ما كان وراء كل هذه الأحداث التي انتهت بموت شيخو، وهذا الشخص استطاع ببراعة تحريك خيوط الأحداث، فأثر على القاتل ودفعه الى القتل، وظل هذا القاتل كاتماً سره الى أن مات وماتت معه الحقيقة. ودفعتنا الى تأييد هذا الرأي الاسباب الآتية: أولاً: ضعف الرأي الأول الواضح من حيث اختلاف المؤرخين في ذكر سبب القتل، يذكر ابن تغري بردي أن السبب هو رفض شيخو إعطاء الطعام لهذا المملوك، وهو سبب غير كافٍ للقتل. بينما يذكر المقريزي سبباً آخر ربما يكون أقوى من الأول، وهو رفض شيخو أن ينقل هذا الشخص من الراتب الشهري الى الإقطاع. ولو سلمنا بذلك فلنا أن نتساءل كيف استطاع هذا المملوك أن يصل الى دار العدل فيقتل شيخو؟ ويجب ألا ننسى أن السلطان والأمراء والقضاة والأعيان وجميع أرباب الدولة كانوا موجودين في دار العدل في تلك اللحظة. ولا يخفى علينا أنه بوجود مثل هؤلاء في مكان ما فإن هذا المكان لاپبد أن يكون مدججاً بالحراس، والحياة المملوكية كانت تستلزم ذلك، وكان معتاداً أن يكون لكل أمير حرسه الخاص. فكيف استطاع إذن هذا المملوك أن يخترق الحواجز الدفاعية في القلعة؟ ولماذا لم يحاول قتل شيخو في أماكن أقل حراسة من دار العدل كالشوارع مثلاً أثناء مرور شيخو بها أو اثناء الصلاة، الى غير ذلك من الاوقات والأماكن التي يكون الحراس أقل يقظة فيها من دار العدل؟ لاپبد أنه كانت هناك خطة مدبرة بذكاء ومكر لقتل شيخو في دار العدل حتى يستطيع المدبر لهذه الحادثة حماية القاتل وتوفير الأمن له بتسهيل مروره ودخوله الى دار العدل حتى يتمكن من انفاذ مخططه. ثانياً: إلماح المؤرخين الى أن هذا الحادث ربما يكون مدبراًَ، وإن كانوا تخلوا عن هذا الرأي سريعاً بعد أن أقسم السلطان حسن بأنه لم يكن يعلم بذلك، أي بقتل شيخو. فمن هو الشخص الذي حرّض هذا المملوك على قتل شيخو؟ ألمح بعض الباحثين الى أن للأمير منجك اليوسفي دوراً في هذه الأحداث، وتذكر الدكتورة سعاد حسن أنه حقق مع المملوك وتبين أنه من المماليك التي تمت بصلة للأمير منجك. ولكن لماذا لا يكون السلطان حسن هو المدبر للحادثة؟ وربما كان ذلك بمساعدة الأمير منجك أو غيره؟ وإذا كان المؤرخون قد خدعتهم أيمان السلطان حسن المغلظة التي أقسمها لشيخو فبرأوه من دمه، فإنني أميل كثيراً الى أن يكون هو القاتل الحقيقي بعد أن استخدم مملوكاً صغيراً كأداة لتنفيذ حادثة القتل، وقد رجحتُ ذلك للأسباب الآتية: أولاً: السلطان حسن هو أكبر مستفيد من موت شيخو، وقد ايقن ذلك المعاصرون لهذه الحادثة، فبعد أن شاع نبأ الهجوم على شيخو، كما يقول ابن تغري بردي "كان الناس ظنوا أن السلطان هو الذي سلطه على شيخو". ثانياً: إن وصول هذا المملوك الى دار العدل واختراقه لتنظيمات الحراسة كافة في القلعة لاپبد أن يكونا بتسهيل ومساعدة شخصية تتمتع بصفات ومزايا لا توجد إلا في أحد كبار الأمراء أو السلطان نفسه. إذن لماذا السلطان حسن وليس غيره من الأمراء؟ لقد أراد السلطان التخلص من شيخو لثلاثة دوافع: أولها كراهية السلطان له لتحكمه فيه أثناء فترة حكمه الأولى، وثانيها ازدياد نفوذ شيخو وبالتالي ازدياد تحكمه في شخص السلطان خلال الفترة الثانية من حكمه، وثالثها رغبة السلطان في الانفراد بالحكم والتخلص من سيطرة الأمراء العظام. وزيادة في توضيح كراهية السلطان لشيخو خلال فترة حكمه الأولى، يشير بعض المصادر الى أن شيخو حدد للسلطان نفقة يومية لا تتعدى أربعة جنيهات. ولم يتغير الوضع كثيراً في فترة حكم السلطان حسن الثانية، إذ يقول ابن تغري بردي "وبموته خفت عن السلطان اشياء كثيرة، فإنه كان ثقيل الوطأة على السلطان الى الغاية بحيث أن السلطان كان لا يفعل شيئاً حتى يشاوره، حقيرها وجليلها". وهذه العبارة مليئة بما يعضد رأينا، إذ أنها تشير صراحة الى اشياء عدة منها تدخل شيخو في كل أمور الدولة تقريباً وسيطرته الكاملة على السلطان حسن لدرجة أن الأخير لم يكن يجرؤ على اتخاذ قرار مهما كانت أهميته من دون الرجوع الى شيخو. ويوضح ذلك ما حققه موت شيخو من منفعة للسلطان. أما عن الدافع الأخير، وهو رغبة السلطان في الانفراد بالحكم، فقد وضحت بعد التخلص من شيخو، إذ سارع - طبقاً لما يذكره أبو الفداء الدمشقي - الى القبض على أمراء كثيرين مثل عزالدين بقطاي والدوادار وابن توصون. * باحث مصري في معهد البحوث والدراسات الافريقية - القاهرة.