على رغم المآخذ التي يمكن ان تسجل على الانتخابات الأخيرة في تونس، فإن مصادر أحزاب المعارضة والحزب الحاكم تبدو متفقة على ان تغييراً سيطرأ على المشهد السياسي، لكنها تختلف في تحديد ملامح هذا التغيير. وإذ يرى "التجمع الوطني الدستوري" الحاكم ان دخول 34 نائباً للاحزاب الاخرى الى البرلمان هو تجسيد للتغيير، فإن المعارضة تتجاوز هذا المعطى وتعتبره تغييراً "مصطنعاً". ويقول سياسي مخضرم اختار مثل كثيرين الابتعاد عن اللعبة الدائرة انه يجب البحث عن التغيير، اذا كان حاصلاً فعلاً، بعيداً عن الاحزاب لأنها أصبحت "مؤممة" في معظمها. ويشير الى محاكمة المنصف المرزوقي ومصطفى بن جعفر وراضية النصراوي وملاحقة سهام بن سدرين على أنها "مؤشرات الى ان ما يسمى المجتمع المدني لا يزال يحاول ان يجد لنفسه مكاناً في بلد تبدو السياسة فيه كأنها ملغاة". ويستقطب "مجلس الحريات" الذي يرأسه المرزوقي اهتمام المراقبين كهيئة بديلة من الرابطة التونسية لحقوق الانسان، التي يستمر الجميع في احترامها بالنظر الى تاريخها النشيط، ولكنهم يتفقون على ان الضغوط التي تعرضت لها جعلتها تضحي بفاعليتها من أجل بقائها. لكن "مجلس الحريات" غير مرخص له، لذا يلاحق كل من يتحدث باسمه. والمؤكد ان السلطة لن تمنح ترخيصاً لهذا "المجلس" الا اذا خضع للشروط التي تضعها على نشاطه ولا يتوقع لمثل هذه "الصفقة" ان تتم. وإذ يحرص أحد الناشطين في رابطة حقوق الانسان على القول ان "الرابطة" ضعفت لكنها استطاعت "ألا تكون جزءاً من لعبة السلطة، وهذا أقصى ما تستطيعه حالياً"، فإنه يشير الى "انتعاش" العديد من الجمعيات وسعيها الى استعادة استقلاليتها، مذكّراً بانتخابات "جمعية المحامين الشبان" التي فازت فيها قائمة المستقلين بأكثرية المقاعد واخفقت لائحة الحزب الحاكم، كذلك بانتخابات اتحاد الطلبة التي شهدت صعوداً لقوى اليسار. ويشير أيضاً الى جمعية النساء الديموقراطيات يسار التي حافظت عضواتها على استقلاليتهن وأكدن "ايمانهن بأن حقوق المرأة تتأمن بتوسيع الديموقراطية". ورفضن "استغلال النظام قضية المرأة لتعزيز سيطرته الشمولية". وحتى جمعية الصحافيين شهدت في الانتخابات الأخيرة صراعاً حاداً لم يكن متوقعاً واضطرت السلطة "للنزول بثقلها" لإنجاح قائمة الحزب الحاكم. بالإضافة الى ذلك، سجل المراقبون ظهور "المنتدى الديموقراطي" منذ سنة ونيف كمنبر حوار بين شخصيات سياسية من انتماءات مختلفة "لا تجمع بينها أرضية فكرية أو سياسية أو حزبية معينة وانما يجمعها اقتناع بأن الحركة الديموقراطية في تونس تفتت وتحتاج الى اعادة تأسيس، والتأسيس لا يتجسد إلا بإعادة فتح قنوات الحوار بين المعنيين بالحركة الديموقراطية هذه". وقد نسق "المنتدى" خلال الانتخابات مع "التجمع الاشتراكي التقدمي" الذي أعطى الغطاء السياسي لقوائم "الائتلاف الديموقراطي". لم يحصل هذا الائتلاف على أي مقعد من ال34 مقعداً المحجوزة للمعارضة، لماذا؟ لأن توزيع المقاعد يتم "سياسياً" وليس "انتخابياً"، كما يقول محلل سياسي بارز، و"للحصول على مقاعد يجب على الاحزاب ان تتفاوض مع السلطة وتنفذ ما تتطلبه منها، والاحزاب التي فاوضت دخلت البرلمان، لكن ارتضت بذلك ان تؤمم، وان تلغي وظيفتها كمعارضة". ويعتبر السياسي المخضرم، المشار اليه سابقاً، انه على مثل هذه "القوى الحية" يمكن الاعتماد في أي "تغيير" وليس على "تشريعات مفصلة بطريقة تخدم السلطة في سعيها الى إرضاء بعض الشركاء الدوليين". ويشير الناشط في رابطة حقوق الانسان الى ان "حالاً تضامنية آخذة في النشوء بين الجمعيات"، كما ينبه الى "حال تململ" في الاتحاد العام للشغل الذي يسعى الى استعادة شيء من استقلاليته، ويبدو ناقماً على تهميشه لمصلحة الحزب الحاكم. لكن مرجعاً حزبياً بارزاً ابدى مخاوفه من "مرحلة نوعية ثانية من القمع لضرب هذه القوى التي استطاعت ان تحافظ على نفسها خلال السنوات السابقة"، موضحاً ان تجربة الانتخابات الأخيرة "لم تعط أي مؤشر الى ان النظام مقبل على تغيير في ممارساته". وتخوف هذا المرجع خصوصاً من "احتدام الصراع بين مراكز القوى داخل السلطة"، مشيراً الى جناحين يبدوان متساويين في قربهما من رأس النظام و"أصبحت لكل منهما امتدادات في الجهاز الأمني كما في الوسط السياسي والاقتصادي والبزنسي". بالطبع، لدى الحكم صورة واضحة لما يجري. ويقول مرجع حكومي ان ثمة حواراً متواصلاً في أعلى السلطة بشأن ما يشغل الرأي العام التونسي "لكن أولويات الحكم تختلف عن الأولويات التي يتحدث عنها السياسيون". ويضيف ان الحكم "مهتم بمجريات الوضع الاقتصادي اعتباراً منه ان الاقتصاد المعافى هو الذي يصنع الاستقرار"، لكنه يؤكد ان "توسيع الحريات" من أبرز اهتمامات الحكم للمرحلة المقبلة.