بين يدي ديوان شعر في حوالى مئة صفحة لشاعر عراقي، أرسل اليّ من بغداد. ولن أذكر هنا اسم الديوان او الشاعر، لأن الموضوع لا يخلو من سخرية، والمقصود هو اوضاع العراق، أو مأساوية العراقيين، لا الشاعر او ديوانه. الديوان حمل في نهايته آراء كتّاب من بلدان عربية مختلفة، في الشاعر وأعماله السابقة، ويبدو انه معروف عراقياً وعربياً، وله معجبين كثيرين. مع ذلك: أول قصيدة في الديوان كانت بعنوان "محاولة في الرثاء"، والشاعر حزين لبلوغه الأربعين فيقول كلاماً من نوع "في الطعنة الأربعين". ولا أنصحه غير ان ينتظر ليبلغ الخمسين والستين، فيتحسر على الأربعين. بعد ذلك تشمل كل صفحة، وأنا لا أتحدث مجازاً، سطوراً من نوع: انا المحروم حد اللعنة/ وعذبني الجوع/ والرغيف هنا مغموس بالدم. وبعد ذلك: فبدت اقدامي قبيحة/ وذابت امرأة العسل/ فبدت شفتي مرة كالسمّ/ وذابت كف الحلم... في القصيدة التالية يقول الشاعر: انا الفرات قتيلاً ودجلة مدججة بالاثم/ انا الف جريح. ويكمل: ما اشد حزني/ ما اعمق دمعتي التي وسعت آلام البشر/ ما افدح خطيئتي، خطيئة المعرفة/ ما اعظم زلزالي وخرابي الكبير... ويختم الشاعر القصيدة التالية، وهي مأساوية كلها، بالكلمات: دم المراهقة/ دم اللذة/ دم السكاكين/ دم الدموع/ دم الخرافة/ دم الطائر المذبوح. ونشف دمي وأنا أكمل مع الشاعر فأقرأ بعد ذلك مباشرة قوله لامرأة: اكشفي لي عن أنانيتك/ حتى أريك يتمي/ واكشفي لي عن بخلك/ حتى اريك نخلتي/ واكشفي لي عن غموضك ومؤامراتك/ حتى اريك وضوحي وسذاجتي/ واكشفي لي عن موتك/ حتى اريك قيامتي... ويتحدث الشاعر عن الحب في القصيدة التالية فلا يجد ما يعبّر به عن مكنونات قلبه ونفسه غير: لكن لا سكين حب تقطع فراغنا الجارح/ والشلال يأتيني فأكون الماء لألقاه/ لكنني اصطدم بصخرته الكبيرة/ وأغرق. وهكذا فالقارئ يجد اننا لم نتجاوز الصفحة 23، اي اقل من ربع الديوان، ومع ذلك فالشاعر طعن وسُمّ ونزف وغرق. غير انه يستمر في قول الشعر، والقصيدة التالية تضم هذا المقطع: انت لي/ انت مائدتي التي هجم عليها الوحوش المهذبون/ فكسروا اقدامها الأربعة/ وأكلوا ما عليها/ حتى اتوا على خشبها الجميل/ فهشموه بسكاكينهم الطوال/ فلم يبق لي منك سوى النقطة/ نقطة الدم. ويموت الشاعر مرة اخرى في قصيدة يقول في آخرها: وحين اكتمل كل شيء/ ولم يبق سوى موسيقى الفرح العظمى/ اطلقت عليه النار/ وإذ تلوى دمي بدمه/ وصار يسحب خيط الدم بألم فادح/ دهشت لهول المشهد/ ثم ضحكت وضحكت/ وبكيت/ ومت... موت الشاعر لا يمكن ان يؤخذ حرفياً، وانما هو تعبير عن واقع الحال، كما في طرفة مصرية قديمة، فرجل يقول انه وقع من الطابق العاشر امس ومات. ويسأله آخر: مت؟ مت ازاي؟ أهو انت قدامي. ويرد الأول: هي دي عيشة. ولا بد ان كل عراقي في العراق اليوم يسأل: هل هذه حياة؟ ومثل هذا السؤال يشرح قول الشاعر في قصيدته التالية: موتي بعد فراقك بدأ كمهرجان اسطوري/ وحين سألت عن اسمه/ لطمت على فمي حتى سال دمي. القصيدة التالية تضم سطوراً من نوع: الخوف ينتظر الموت/ ام الموت ينتظر الظلام... القاتل ينتظر الضحية/ ام الضحية تنتظر السكين. وتبقى بعد ذلك قصيدتان تبلغان بنا الصفحة 50، او نصف الكتاب، والشاعر يقول في الأولى: الموت على الأبواب/ الموت هو الصديق الوحيد الذي يتذكرني بعمق/ ولا يكف عن ارسال ازهاره السود لي/ بالبريد المسجل. ويقول في القصيدة الثانية: بعد كوارث لا تحصى/ وصلت الى نفسي/ واستقريت كذا فيها/ وفرحت كما تفرح جثة بلحدها الجديد. نقول لكل مقام مقال، ويبدو ان مقام العراقيين في العراق هذه الأيام هو الموت، او العيش من قلة الموت، لذلك فلا اعتراض لي البتة على الشاعر وديوانه، وانما سجلت ما وجدت فيه من تعبير عن واقع الحال. وكنت في وقت سابق من هذه السنة تلقيت من الصديق الشاعر المصري المبدع عبدالرحمن الابنودي ديوانه "الاحزان العادية"، او ديوان المراثي، وأعجبت كثيراً بالشعر فيه، الا انه شعر يعبر عن حالة ذاتية مقابل الحالة القومية للشعر العراقي. والعراقي غني في ايام العز الغابر "معلّم على الصدعات قلبي" ثم عاش ليعرف معنى التصدع الحقيقي، وليتحسر على كل صدع سابق، ورب يوم كنت فيه...