كان يوما حافلا للفنان مارسيل خليفه وما يمثله في وجدان أكثر من جيل من أجيال الشعب الفلسطيني في مدينة رام الله التي غنت أغانيه لنفسها "ودفاعا عن نفسها" كما قال، قبل أن تكون "دفاعا عن مارسيل" كما جاء في عنوان الحدث التضامني الذي نظمه مركز خليل السكاكيني في رام الله مساء أول من أمس وبثت وقائعه مباشرة عبر محطة اذاعة "أمواج" الفلسطينية. كان أبلغ ما فيه، ربما، هذا الوفاء الابدي لصوت لم يبرح صداه رأس كل فلسطيني شب وشاب على سماعه وترديد اغانيه في كل تظاهرة جماهيرية وداخل كل بيت وزقاق ودكان صغير في مخيم أو قرية أو مدينة فلسطينية. وربما أيضا أن أبلغ ما فيه هذا "التوحد" في المشاعر والاحاسيس بين مارسيل الذي بكى عندما اتصل به أبناء مخيم الامعري للاجئين الفلسطينيين هاتفيا واعدا اياهم بأن يغني في هذا المخيم في فلسطين الحرة، وبين دموع الشباب التي انهمرت فور سماع صوته عبر مكبرات الصوت. وفي ساعات الظهر تلقى مارسيل مكالمة ثانية من فلسطين أبلغه فيها الشاعر الفلسطيني محمود درويش أنه حاز على "جائزة فلسطين للموسيقى والغناء". تلك الجائزة التي قال وزير الثقافة والاعلام الفلسطيني ياسر عبدربه ان منحها لمارسيل هو "تكريم لها". في بداية الحدث الثقافي "دفاعا عن مارسيل" الذي جرى في مركز خليل السكاكيني، أشارت مديرة المركز الى أن رد مارسيل عندما أعلمته به: "انكم تدافعون عن أنفسكم". ورد على قوله هذا عبدربه قائلا: "عندما قال مارسيل اننا من خلال تضامننا معه نتضامن مع انفسنا فان لديه الحق في قول ذلك، اننا بتضامننا معه نتضامن مع العلمانية ضد الجهل والخرافة، ولم نعد نخشى أن نشهر علمانيتنا وأن نعتز بها ونكافح بها في وجه الجهل والخرافة". وأضاف: "عندما نتضامن مع مارسيل فإننا نتضامن مع انفسنا لرغبتنا في بناء حياة جديدة مليئة بكل اشكال التنوير والحداثة، وتجاوز القتامية والظلامية التي يحاول فرضها علينا". ولعل في الكلمة التي ألقاها الشاعر محمود درويش أروع وثيقة "دفاع" يمكن لأي محام أن يلقيها في أي محكمة تحاكم مارسيل أو تقبل بأن "تضع الفضاء في قفص الاتهام" كما قال محمود. واستهل درويش كلمته بالقول: "نحن هنا لاعلان حبنا المتجدد لمارسيل خليفة، لا بصفته ضحية جديدة في صراع الفن الانساني المختلف مع ما يُفرض عليه من وصاية الجمود، بل بصفته صوتنا المنتصر". واضاف: "لولا وعينا الساخر بعمق الهاوية، الهاوية الاوسع من سماء، لكنا قادرين على قراءة مقلوبة: إذ أن على قضاة آخرين، وعلى أصولية أخرى، ذات قناع حداثي، أن يمارسوا هذا الارهاب الفكري وهذا التعذيب المعنوي، لأن عربيا ما زال يؤمن بأن هذه اللحظة التاريخية من حياة العرب ما زالت تتسع لمفردتين منقرضتين: الحرية والعدالة، وبأن الامل ما زال قابلا للشفاء من عدوى القنوط السائد". وتابع: "من هنا يصبح من حقنا أن نطالب الناطقين باسم الاصولية الدينية أن يبحثوا عن اختلاف الخنادق، وعن تمييز ضروري بين خصوم مارسيل خليفة، المعادين لرسالته النقية الثورية، المدافعة عن قيم الصمود والمقاومة والمعبرة عن صوت المضطهدين. فلن يصدق أكثرنا سذاجة أن اقتباس جزء من آية قرآنية ضمن سياق قصيدة وترتيلها بوقار وشفافية روحية يبرر هذه الحملة الضارية عليه وتقديمه للمحاكمة". المفاجأة الجميلة التي حملتها تلك الليلة لأهالي رام الله الذين لم يتمكنوا من الدخول الى قاعة المركز الصغيرة، لكنهم وقفوا في ساحته الخارجية يصغون بتلهف الى كل ما كان يجري في الطابق العلوي ... المفاجأة الحلوة كانت في صوت الشاب باسل زايد الذي لم يتجاوز عمره العشرين ربيعا. غنى باسل فأطرب، وعزف على العود. الاغنية البداية كانت طبعا "أنا يوسف يا أبي" من اسطوانة مارسيل "ركوة عرب" التي صدرت فتوى ضده بسببها. باسل من مدينة رام الله حاول الالتقاء بمارسيل قبل شهرين أثناء زيارته لفرنسا، لكن مارسيل لم يكن موجودا فيها. لا يعلم أحد تفاصيل ردة فعل مارسيل لو أنه التقى باسل، لكن الاخير غنى أغاني مارسيل بروحه أكثر من صوته الجميل الذي جعل المشاركين في الحفلة يسألون بلهفة عن هوية هذا الشاب الذي "اكتشفه" الحضور من مثقفين وفنانين ومواطنين وصفقوا له طويلا بعد أداء "ريتا" . أما سمير جبران وشقيقه سالم اللذان لم يتوقفا عن احياء المهرجانات التضامنية مع مارسيل في الناصرة وحيفا وقرى الجليل، فعزفا معزوفة "جدل" بتألق واضح. سمير الذي كان القوة الدافعة من وراء تنظيم المهرجان التضامني في رام الله كما في حيفا والناصرة، أدرك مدى تعطش الحضور لترديد أغاني مارسيل المحفوظة عن ظهر قلب، ودعاهم للغناء معه. فغنى الحضور وغنت معهم مدينة رام الله أجمل أغاني مارسيل "للذي غنى لحرية الوطن والانسان، لفلسطين وللبنان ... للذي غنى للمقاومة في كل مكان، ابتداء من هذه الارض التي لم يرها لكن روحه ولدت منها، من ملحها وقمحها، ومن جرحها النازف في قلبه".