في "عاصمة" الثقافة العالمية، بيروت، يلاحق الفنان مارسيل خليفة بتهمة "تحقير الشعائر الدينية". وقد يكون هناك "تحقير" فعلاً لكثير من الناس والقيم والأشياء، الا ان اغنيته المتهمة لا تحقّر شيئاً بما في ذلك الشعائر الدينية. نقول ذلك، بكل احترام، لمن اطلق التهمة وطلب ملاحقة الفنان. يقال ان القاضي الذي اعاد نبش القضية اصبح من حملة الأرقام القياسية في النشاط الوظيفي. اذ انه اعاد تحريك الملف بعد ساعات من تسلمه منصبه الجديد كقاضي تحقيق. فإما ان صدفة سيئة قادته الى قضية سيئة السمعة وغير شعبية على الاطلاق، وإما ان هناك من وضع الملف أمامه وطلب منه التصرف فتصرف. ولا يُلام القاضي في كل الأحوال، وإنما يلام من يترك قضية كهذه تتفجر مجدداً كأنه لا يعرف ابعادها. فور ذيوع النبأ استعاد الناس الاغنية وبثتها شبكات تلفزيون واذاعات، وتذكرها الجميع من الخليج الى المحيط، ليس لأن الناس يؤيدون ما فيها من "تشهير" مفترض وانما لأنهم يستشعرون فيها شيئاً آخر معاكساً تماماً للتشهير. لكن الأهم ان المسألة فرضت تواً اصطفافاً طائفياً مذهبياً، وفرزاً سياسياً، بمقدار ما طرحت قضية "حرية التعبير" في موضع ليس بالضرورة موضعها الحقيقي والصحيح. وطالما ان النص "التقني" للاتهام يطاول كل من شارك الفنان في "جريمته"، فان اعداداً غير محددة من المواطنين ستعلن انضمامها الى مارسيل خليفة في قفص الاتهام. مواطنون مثله لا يقيمون مواطنيتهم على أي تمييز أو انتماء فئوي او طائفي، ولا هم علمانيون بالضرورة، بل ان بينهم رجال دين يحترمون الشعائر والآيات. وهكذا ستجد دار الفتوى اللبنانية نفسها في موقف لا تحسد عليه، وما كان يجب ان تسعى اليه أقله بهذه الطريقة. فهي مؤسسة مؤتمنة على القيم الدينية ومن واجبها وحقها ان تنبه الى ما تجد فيه اعتداء على هذه القيم وتحقيراً لها، لكن احداً لا يتصور ان تكون معزولة عن مجتمعها لأنها ايضاً مؤسسة وطنية. لا بد ان لدار الفتوى مستشارين، والأرجح انهم قدموا مشورة غير موفقة. ف"التهمة" قد تكون "مبررة" في نظرهم، وفي حدود تقاليد المؤسسة في التعاطي مع شؤون الثقافة، الا ان واجبهم يقضي ايضاً بمعرفة مفاعيل القضية التي نصحوا المؤسسة بإثارتها. فقبل اكثر من سنتين اثيرت "قضية مارسيل خليفة"، أو بالأحرى قضية "انا يوسف يا ابي" على اسم الاغنية، وبادر رئيس الحكومة السابق الى تجميدها. ويفترض ان تكون الضجة التي قامت آنذاك قد بيّنت للمستشارين ان اي شيء في لبنان يمكن ان يسيّس، واذا كانت "قضية دار الفتوى" محقّة فإن التسييس يسيء اليها، وقد اساء فعلاً، خصوصاً ان اعادة فتح الملف بدت كأنها في سياق الحملة السياسية اياها على رئيس الحكومة السابق. وليس في مصلحة هذه المؤسسة الدينية الوطنية ان تقحم في مثل هذه المماحكات السياسية. اكثر من ذلك، ولئلا نبتعد عن الموضوع الاساسي، يبقى من الأفضل ان يأتي التنبيه الى "تحقير" الشعائر الدينية من المجتمع نفسه، من الملايين الذين استمعوا الى الاغنية، وعندئذ يكون احتجاج المرجع الديني داعماً وحاسماً. اما ان يوضع الأمر في يد المحققين والشرطيين فهذا بالطبع ينحرف بالقضية عن هدفها، فهي حتى الآن بادية السلبية فكيف اذا استكملت بمحاكمة؟!