تحت عنوان "حاملو الرسائل" أو "سعاة البريد" تحتل لوحات محمد القاسمي الأخيرة جدران صالة "فلورنس توبير"، منتشرة وسع طابقين منها، في معرض يستمر حتى نهاية تشرين الثاني نوفمبر 1999. تمثل معظم المعروضات مجموعات ليلية تربيعية متسلسلة صغيرة الحجم، أُنجزت من الورق الهش وألوان الأكريليك المتصدّعة والقاتمة، نتلمّس في عتمتها هيكلاً إنسانياً متوحّداً محاصراً بمساحة ليلية تقطر بالحزن. ولكن ما الجديد الذي قدمه القاسمي في معرضه الجديد؟ تبدو الإجابة حاسمة من خلال مناخات اللوحات المأزومة الى درجة التمزق، ومادته المتقشفة الى حدود الزهد المطلق، تحمل أعماله الأخيرة بصمات مواجهاته الملحمية لبراثن المرض حتى لتبدو بعضها وكأنها قدّت من جمر وحرائق ليلية متأرقة. تبدو ممارسة التصوير في هذه الحالة نوعاً من التطهير الطوباوي الكوني، وسيلة تصعيد للتقرح الجسدي الى مستوى الغبطة والوجد الممتد على مساحة كحلة الليل المديد. فالفنان يبحث في رحم اللوحة عن مأمن أبدي من عبثية التجربة اليومية. ولكن هل هيأ المعرض اجابة أو استجابة ما؟ يعتبر القاسمي أن اللوحة تطرح أسئلة وليس من مهمتها الإجابة عليها وإلا انقلبت الى خطاب، اللوحة تفتح جروحاً ولا تضمدها، تمثل طقوس انجازها نزيفاً مفتوحاً لا ينقطع مداده. وإذا ما رجعنا الى عقائده التشكيلية العامة التي تعاني من الأوشحة الليلية الجديدة عثرنا على فرشاة مرتجفة منتزعة من مادة الكون وجسده ترسم معالمه وأثلامه "الذاكراتية" أو السحرية بطريقة "الأثر المرسوم"، تعاني هذه الحساسية من النكوص الى "فريسكات" كهوف ما قبل التاريخ، تم توليفها مع الكتابات الذاتية الحميمة التي تقترحها تجارب "التشخيصيّة المحدثة" لما بعد السبعينات. تتراكم في شتى هذه الأحوال رغبة القاسمي في الاستقالة من التقنية المتثاقفة، من البيان والبلاغة الأدائية، محاولاً تصفية أدواته من أدنى حذاقة في الرقابة، ثم الاستسلام الى براءة التعبير بحيث تتدفق العناصر التشكيلية اللون والخط والملمس بطريقة تلقائية لا تحتمل أية مراجعة أو تعديل. يقتصر عمل الفنان على لونين: لون التراب والأهرة والآجر ولون السماء أو البحر والهواء وهو الأزرق النيلي، ثم البرازخ المتوسطة من مشتقات الأسود والأبيض. يبدو معرض اليوم في ذروة التقشّف والزهد لونياً وتقنياً، ولكنه أشد اقتراباً من الاختلاجات الوجدانية والحدسية البكر. فالفنان يلصق في بعض الأعمال عناصر لغزية: سلك معدني، أو عود نحيل من الخشب، أو قصاصة ورق أو قماش، ملصقات هشّة التماسك، سهلة القلع والتفتّت مثل أجنحة الفراشات، أو الأوراق الخريفية المجففة في بواطن كتاب قديم تحرض سادية المتفرج على العبث بتهافتها وتداعيها. يصل القاسمي في هذه الهشاشة التعبيرية الى ذروة التقرّح والعبث، ولكنه يتغلب على هذا القنوط بقوة الخط الأسود، بصراحته وقراره الحاسم الذي لا يحتمل التعديل أو المحو. وهنا نعبر الى لون ليلي آخر يجعل من الحلكة ومن اللون الأسود نوراً داخلياً "انتصارياً" ساطعاً، وخصوصاً أن عفوية الأداء وتقشف الطبقات يسمحان بتراشح ضوء الأرضيّة والحفاظ على بؤر من اللون الأبيض المتوهج. تعيش هذه المصادفات الصباغية والكتابات الحدسية على مادة جدارية متهالكة أو في حضن ورقة حبيبية متغضّنة توحي بتآكلات الزمن وخدوش أظافره الموغلة في القدم. يتفوّق شبق القاسمي في التصوير على هواجسه اليوميّة بما فيها أخطار مرضه، فهو الوسيلة الوحيدة لمقارعة القدر وعجلات الزمن بحثاً عن الأبدية من خلال الخط واللون. تسلك الفرشاة مسلكاً ملحمياً في خطرات التخطيط والصباغة، فتبدو في غاية الشجاعة والمداهمة. وإذا كان من البديهي - في تعبيرية محتدمة مثل هذه - ألا تمثّل اللوحة مرآة لأنظمة الواقع المرئي، فهي بالأحرى منعكس وجداني، يفضح الملامح العميقة في التجربة المعاشة وخصائصها الذاتية حتى لتكاد اللوحة تشبه القاسمي أكثر من وجهه. وهنا نعثر على الجديد في المعرض: التطرّف حتى الدرجة القصوى في تصفية الأدوات وذلك من أجل استشفاف عمق المعاناة، والحد الأقصى من حرية ترجمة التيار الإنفعالي، وبالتالي التطرف في الطاقة التطهيرية في التصوير، فاللوحة ليست بكائيات خنسائية بقدر ما هي خفقات غبطوية ومواجيد لونية مكحلة وموشومة بالليل والحداد والموت. يذكّر تهافت الأوراق القاسمية المعلقة على الأطر الخشبية بلحظة احتراق لأجنحة فراشة رهيفة في لهيب الشمعة.