} الرسام المصري عدلي رزق الله لا يكتفي بالريشة وما توحي اليه من رسوم ولوحات بل هو يحمل القلم من حين الى آخر ليكتب انطباعات ونصوصاً. هنا يسرد بعض ذكريات الرسامة المصرية الكبيرة تحية حليم وكان زارها اخيراً في منزلها الذي لم تعد تغادره نظراً الى سنواتها الثمانين. كلما هممت بكتابة نص "في" أو "عن" الفن التشكيلي أجدني مدفوعاً بتوضيح واجب عما أكتبه فهو لا يندرج في النقد التشكيلي أو في التأريخ فأنا مجرد فنان يحاور وينحاز فنياً ولا يلتزم بحياد المؤرخ أو تعاليم الناقد. كنت منذ نعومة أظافري ألاحظ أن من يعرضون أعمالاً تشكيلية يعدون بالمئات، أما من يلمعون فهم يعدون بالعشرات. ولكن من يضعون بصماتهم ويتركون علامات، بهم نؤرخ حركة التشكيل وبهم أيضاً يكون الفن، وهم ليسوا إلا آحاداً. إذا نظرنا إلى الخلف قليلاً وحاولنا ذكر العلامات التي تركت بصمتها على الفن التشكيلي في النصف الأول من القرن العشرين، سنستطيع من دون خلاف بيننا على اختيار تلك الاسماء: محمود مختار، راغب عياد، محمود سعيد، محمد ناجي، صلاح طاهر، حامد عبدالله، الجزار، سيف وأدهم وانلي، رمسيس يونان، حامد ندا، فؤاد كامل، كمال خليفة، حسن سليمان، آدم حينين وتحية حليم وهي موضوع حديثنا اليوم. تقابلنا في الطبيعة فلتات آسرة الجمال تجعلنا نقف أمامها مشدوهين بجمال لا يقاوم وسحر لا تحتمل وقدته على حد تعبير صديقي الكاتب ادوار الخراط. نقف أمام شجرة عبقرية أو صخرة متوحشة أو صبارة تقطر جمالاً أو زهرة لا مثيل لها، أو، أو تحية حليم نفسها. ال"تحية" حليم بها كمخلوق، جمال آسر وفتنة وطغيان لا تستطيع إلا أن تنساق لها وتؤخذ بها. قبل أيام كنت أزورها فوجدتني أؤخذ كما أؤخذ دائماً بجمالها فهي الآن في الثمانين من عمرها، أمده الله لنا فبمثلها تتجمل الحياة، دقيقة الحجم تميل الى القصر، تستقبلني في شياكة محببة، وتحيط شعرها ب"ايشارب" ناعم مطرز بورود صغيرة متنوعة الألوان وتترك لشعرها أن يظهر ويختفي مداعباً الايشارب ومناغياً له. عينان تبرقان في حيوية وألق. تسير ببطء وتؤدة ولكن برشاقة وجمال. صوت هادئ خافت يتسلل إليك في هدوء وثقة، تأخذك من دون أن تدري الى عالمها الهادئ المتأمل مهما كانت حياتك صاخبة قبل لحظة لقائها. صوت حنون ويدان تتحركان دائماً مع كل لفظة، تناغيك بها كأن الكلمات تحتضنك - وهي تفعل - وكأن اليدين تهدهدانك، تستكين إليها لتسمع وتتلقى في جلسة حب وحنان ما أحوجنا إليها، بل ما أحوجني الى تلك الجلسات التي تأخذني من عالم يمور ويفور من حولي جاذباً الى اليأس والاكتئاب. هذا هو العالم الذي نعيشه، بينما تحية حليم تقول لك تعال الى حياة تستحق الحياة. وتقول ست الكل: "جدتي كانت عازفة كمان في جوقة الخديو اسماعيل، عندما نُفي الخديو اقطع أفراد الجوقة ما يكفي لحياة كريمة ولائقة بعده، وزوجهم رجالاً ونساءً. هذا عود أمي - مشيرة الى عود يزين الحجرة - كانت تعزف عليه حتى تترقرق عيناها بالدموع فما بالك بنا نحن المستمعين اليها! والدي كان رجلاً عسكرياً لكنه كان رقيق القلب. تدرج في المناصب وترقى حتى أصبح كبير ياوران الملك فؤاد. كنت معتلة الصحة وأنا صغيرة، تهاجمني الأمراض. لم استطع اكمال دراسة منتظمة أبداً، أذهب الى الفن وألتقي في أول الطريق بحامد عبدالله". الرجل في حياتها لن تستطيع الحديث عن تحية حليم الفنانة بمعزل عن حامد عبدالله الفنان الكبير وأحد اساتذتها الاوائل، تقول تحية حليم عنه: "كنا ننظر إليه بانبهار كامل. هنا لا بد من التوقف للكلام ولو قليلاً عن حامد عبدالله فارس حياة تحية. ممشوق القوام، رشيق لكن برجولة طافحة كأنه أحد فرسان العرب الاقدمين، يتكلم العربية الفصحى بسهولة ويسر وإصرار. ابن المنيل وبسطاء الناس. رجل ولا كل الرجال، بفضل انتاج وبحث حامد عبدالله في الفن تغير وجه الفن في مصر منذ الاربعينات فبعد أن كانت مخملية أحمد صبري الاكاديمية، وتزينية يوسف كامل التأثيرية، جاء حامد ليعدل الهرم المقلوب ويبدأ في وضع رصانة كانت تليق به استكمالاً لأعمال راغب عياد، وبفضله وضعت إحدى أهم لبنات المدرسة الحديثة في الفن التشكيلي". وتكمل تحية حليم الحديث عن حامدها: "ينشغل بي حامد عبدالله، ويأخذني الى مرسم "إليكو جيروم"، وكان حامد يرسم في جوار إليكو في المرسم نفسه كزميل، له احترامه وتقديرنا. يلتزم حامد أمام أبي باصطحابي ذهاباً وإياباً". وتضيف مبتسمة كأنها تتذكر لمسات حبيبها حامد: كان يحملني على السلم في الصعود لأن صحتي لم تكن تحتمل أحياناً حتى صعود السلم. أضحك وأسر في نفسي "تلاكيك الحب". ثم يرحل "إليكو جيروم" عن مصر، لكي تختار الظروف التي كانت قد بدأت في نسج خيوط من نغم وألوان الحب بين الرقيقة الى حد القوة والقوي العنيف الى حد الرقة، بين بنت الاثرياء حيث الحياة المرفهة وابن الكادحين البسطاء الذين يرتزقون من نيل المنيل، وتتلمذ تحية على يد استاذها الحقيقي حامد عبدالله الذي كان قد بدأ في إعطاء دروس الرسم بمرسمه في الوقت نفسه. كان من بين تلاميذ حامد عبدالله ذاك الوقت إنجي أفلاطون وصفية حلمي حسين ومنير كنعان". وتضيف تحية قائلة: "اتفقنا على الزواج، واعترضت الاسرة. كانت تقول أمي: هل ستأكلين بزيت الألوان؟ ولم يستطع الأب العسكري الرقيق والأم المحبة إلا الرضوخ لإصراري وتنتهي الاسرة بالموافقة على ما أريد. كم كان حامد رقيقاً، لقد أدخلني عالماً لم أكن أعرفه، عالم الحياة الشعبية حيث البسطاء، الكادحون، الصادقون. أقول لنفسي وأنا استمع إليها: الحياة الحقيقية!. وتمضي بنا السنة الأولى بين زوج محب وبيني، وفي الوقت نفسه أرسم ويعلمني". وتأتي أول نغمة حزينة، أو عنيفة، أو مفارقة لها دلالات لم تعبر عنها تحية بالكلمات وتقول: "كنا في الاسكندرية، أرسم لوحة. يراها حامد ويمد يده للتصحيح والتصليح كعادته، اجدني مندفعة مذعورة، احتضن لوحتي صارخة، انها شخصيتي لا تمد يدك. وينبري الجارح الحاد حامد قائلاً: وهل لك شخصية في جواري؟. اذهب غاضبة الى بيت ابي لأصر على الطلاق، وترضخ الاسرة وانفصل عن حامد". ولدت الفنانة على رغم الألم، وهكذا دائماً هي الولادة ألم ودم وصراخ، تم ينفصل الوليد لكي يواجه الحياة بصرخة باكية في البداية، فقد خرج من الرحم الآمن الى الحياة ليصارعها وتصارعه. عام كامل أرسم وحدي بعيداً عن استاذي زوجي حامد، ثم يرحل أبي لأعود مرة أخرى الى حامد. وأسألها: ولماذا حامد مرة ثانية: تخفض رأسها بتؤدة، وتأخذ وقتاً طويلاً للتأمل كأنها ترحل مني وعني الى أحضان الأيام الخوالي. برهة كأنها دهر وبصوتها الخفيض والواثق في آن واحد وبرخامة وبنغمة فيهما كبر واعتزاز بنفسها وبه، تقول: "إنه الرجل في حياتي. ونتوقف لالتقاط الأنفاس، واتأملها تلك الدقيقة الصغيرة الواثقة والقوية، وأعرف حينئذ أن الفن لا يأتي إلا من شخصية قادرة وعارفة مثلها". يرسمان، يعيشان، يقيمان المعارض ويرحلان الى عواصم الفن باريسوروما، وسواهعما يعيش حامد الفنان وتعيش تحية مرة أخرى فترات تلمذة جديدة. تدرس في أكاديمية جوليان في باريس عام 1949 ولمدة ثلاث سنوات، وتنتهي هذه الفترة الثرية من جهة الدراسة والانتاج والصعبة من ناحية فقر الامكانات المادية، وتتذكر تحية وتقول: "في مساء يوم في روما لم يكن لدينا إلا قطعة خبز لا تكفي لسد رمق شخص واحد، قضمت نصفها وتركت الباقي لحامد مع ورقة صغيرة اقول فيها: هذا نصيبك اليوم، ونمت سعيدة". تريني تحية أعمالاً تشاركت هي وزوجها في انجازها معاً، حامد يرسم وتحية تلون بأوراق قص ولصق وروح حامد طاغية على العمل والتوقيع لتحية. حين أسر لها بملاحظتي تلك، تضحك قائلة في قناعة تصل الى حد البداهة: انني قمت بالجزء الأكبر من العمل. أسر لنفسي: "دلال أنثى" حتى في الفن. تنتهي هذه المرحلة بنهاية درامية حزينة لها وله. تكتشف تحية علاقة عاطفية أخرى لرجلها. ستثمر طفلاً، رفعت رأسها لتقول: "حامد اذهب اليها، طلقني، إن لم تفعل هذا كرجل ستتغير منزلتك عندي، أجعلني احتفظ بك في قلبي كما كنت دائماً، ويذهب حامد". كم فقد حامد، الذي سأكتب لكم عنه فهو يستحق وأنتم أيضاً أن تعرفوا حياة واحد من أهم فنانينا العرب. وكم تألمت ايتها الصغيرة، لكن الفن قد ربح، وأنا أعتقد أن هذا الانفصال الثاني كان هو الولادة الأكبر والأكثر ألماً للفنانة تحية حليم. تقول تحية: "كانت الوحدة صعبة، وكانت اللوحة انقاذاً وحياة لي. أعمل بغزارة كما لم أعمل في حياتي. وتأتي جائزة غوغنهايم كأنها بلسم. اشترك في الجناح المصري صلاح طاهر، وصالح رضا، وزوريان أشور وسيد عبدالرسول. حصل خوان ميرو على الجائزة الكبرى وحصلت على جائزة الجناح المصري. تأتيني رسالة من غوغنهايم يبدي فيها رغبته في اقتناء اللوحة لأحصل على قيمة الجائزة المادية مضافاً إليها ثمن اللوحة المقتناة. ثم حصلت عام 1960 على الميدالية الذهبية في صالون القاهرة". تصمت تحية قليلاً ثم تتذكر رحلة النوبة التي كان لها تأثير كبير على فنها، والتي ذكرني احتفاء تحية بذكرياتها عن بلاد النوبة التي غرقت تحت مياه السد العالي، بذكرياتها عن أيامها الأولى مع حامد عبدالله التي بفضلها تعرف على حياة الشعب الكادح وقد أغرمت بها تحية. هنا كانت الرحلة تحمل اليها عبق الاصالة والتاريخ المصري القديم. ثم تتذكر تحية رحلتها الى أخميم والتي كان لي دور فيها اذ أسرّت لي أنجي أفلاطون برغبتها في السفر الى أخميم وقد كنت أحد المشرفين على تجربة الفن التلقائي في أخميم والتي ما زالت تزدهر حتى الآن بإشراف جمعية مدارس الصعيد. وذهبت الاثنانتان معاً تحية وإنجي الى أخميم لتمضيا رحلة فنية حيث الأصالة وروح الصعيد الآسرة. ثم تتذكر تحية جمال عبدالناصر بحب وشكر وتقول: "تصور أن جمال عبدالناصر أرسلني لمدة عام كامل حينما أصابني مرض الروماتويد في عيني. لقد كان رحيماً بالفن محباً للفنانين وقد قدرت له هذا لأن سنوات الستينات كان سنوات تقشف ومعاناة". تذهب تحية مبتسمة لتأتينا بكتابها الذي طبعته "دار الشروق" هذا العام لتهديني إياه. أحتفى بالكتاب بفرح وشجن حزين في الوقت نفسه، لأنه يثير قضية من أهم قضايانا الفنية. تقول تحية: "بعت لوحة كبيرة من أعمالي للشارقة واحتفظت بثمنها لهذا الكتاب. وأسأل نفسي هل على الفنان أن يشقي حياته كلها ليدفع في السنوات الأخيرة أيضاً ثمن طباعة كتاب. وأحزن". كتاب يصدر عن فنانة تشكيلية في حجم تحية حليم في واقع ضحل لم يصدر حتى الآن كتباً توثق لأهم فنانينا وهم كثر بعد انقضاء قرن كامل من الانتاج. ما أحوجنا والقرن العشرون يتبدد ويرحل من بين أيدينا أن ننادي بضرورة التوثيق لفننا وفنانينا، والكتاب من أهم وسائل التوثيق ونشر أعمال الفنان وآراء النقاد. ضرورة وواجب على السلطات الفنية في بلادنا. ضرورة وواجب على القادرين. هل أحلم بإنشاء جمعية على مستوى بعض الدول العربية يمولها القادرون لتقوم بعملية توثيق وإصدار الكتب الفنية. حلم واجب. ولنعد الى تحية مرة أخرى وكتابها أيضاً. شكر واجب للناقد صبحي الشاروني الذي قدم للمكتبة العربية هذا الكتاب والذي قام بتنسيقه وإخراجه الفنان حلمي التوني فله الشكر أيضاً. ونعود معاً إلى تحية حليم وحامد عبدالله، وأحدثها عن عودة حامد عبدالله في زيارات متتابعة الى القاهرة بعد أن عاش أغلب عمره الفني بين الدانمرك وفرنسا. اقول لها: حاول الرجل إعادة غرس شجرته الفنية بعد رحيل طال أمده، ونتذكر معاً أحزان الفنان وأحزان الرجل. تقول تحية: "لقد عاد إلي، وضع رأسه في كتفي وبكى. تغيم عيناي بالدموع، لأنني تلاصقت مع الرجل تلك الفترة في حياته. وقلت لنفسي كم خسرنا برحيل حامد. هل سيأتي اليوم الذي تكتب فيه حكاية تحية في الفن والحياة بالكامل. أبوح وأعترف بأن الكتاب الذي نشر هو الكلمة الأولى وليست الأخيرة. وسأكتب عن حامد عبدالله حتى تكتمل الصورة بعض الشيء فذكر أحدهما لا يغني ذكر الآخر، بل يستدعيه بالضرورة.