وزير الصناعة والثروة المعدنية يلتقي قادة الأكاديميات والمعاهد الصناعية والتعدينية    هل تخدعنا التفاصيل؟    التستر التجاري ونقص فرص شباب الوطن    رانج المحدودة تنظم إفطارًا رمضانيًا لشركاء النجاح بجازان    عبدالعزيز بن سعد يشيد في القفزات النوعية لأمانة حائل    دبلوماسية الحرمين في أرض النيلين    الخليج وصيف الدوري السعودي الممتاز لكرة الطاولة    سمو ولي العهد ووزير الخارجية الأمريكي يستعرضان أوجه العلاقات الثنائية بين البلدين وفرص تعزيزها وتطويرها في مختلف المجالات    أمير القصيم يبارك انطلاقة أمسية " تراحم " الرمضانية لدعم اسر السجناء والمفرج عنهم وأسرهم    11 مارس.. وطن مرفوع الرأس    جمعية الدعوة بأجياد توزع أكثر من 4000 مصحف مترجم على ضيوف الرحمن خلال العشر الأولى من رمضان    التاريخ الشفهي منذ التأسيس.. ذاكرة الوطن المسموعة    أمير حائل يكرّم طلاب وطالبات تعليم حائل الفائزين بجائزة "منافس"    انطلاق منافسات بطولة التنمية الرمضانية السادسة بالبكيرية    لتكن خيرًا لأهلك كما أوصى نبي الرحمة    لقد عفوت عنهم    "البصيلي": يلقي درسًا علميًا في رحاب المسجد الحرام    النصر يدك شباك الاستقلال بثلاثية.. ويتأهل لربع نهائي النخبة الآسيوية    %90 مؤشر الرضا عن أمانات المناطق    أبو سراح يطلق مجلس التسامح بظهران الجنوب    تعليم الرياض يحتفي بيوم العَلم    أمسية شعرية في ثلوثية الراحل محمد الحميد    مبادرة مواطن تحيي بيش البلد    محافظ الطائف يُشارك أبناء شهداء الواجب حفل الإفطار    محافظ الطائف يُشارك أبناء شهداء الواجب حفل الإفطار    250 مظلة متحركة بساحات المسجد النبوي    المكملات الغذائية تصطدم بالمخاطر الصحية    8 طرق لاستغلال شهر الصوم في تغيير النمط الغذائي    وزير الخارجية يبحث مستجدات غزة مع الأمم المتحدة    عوامل مؤثرة تقود الجهود السعودية في حل الحرب الروسية الأوكرانية    السعودية تحتفي غدًا بيوم العلم اعتزازًا بقيمه الوطنية    مستشفى خميس مشيط للولادة والأطفال يُنظّم حملة "صُم بصحة"    أمين تبوك يستعرض مع رجال وسيدات الأعمال بالمنطقة أبرز الفرص الاستثمارية    الكشافة ونماذج العطاء في شهر الخير بالحرم المكي    ملتقى القوى التأهيلي يتوج أبطاله    الرئاسة السورية: اتفاق باندماج قسد ضمن مؤسسات الدولة    الأردن يدين قطع سلطات الإحتلال الكهرباء عن قطاع غزة    الراية الخضراء.. انتماء ونجاح وثقافة وطن    محافظ الخرج يشارك أبناء "إنسان" مأدبة الإفطار    الداخلية تصدر دليلًا إرشاديًا لأمن المعتمرين والمصلين في رمضان    الإنتاج الصناعي يسجل نموًا بنسبة 1.3% في يناير 2025    «مسام» ينزع الأسبوع الماضي 1,058 لغماً وذخيرة غير منفجرة في اليمن    نائب أمير المنطقة الشرقية: العلم السعودي رمز للوحدة والاعتزاز بالهوية الوطنية    «سلمان للإغاثة» يدشن مشروع سلة "إطعام" الرمضاني ومشروع "كنف" في لبنان    2.600 كرتون تمر أرسلتها المملكة لأهالي مديرية سيئون بحضرموت    في ختام الجولة 25 من " يلو".. النجمة والعدالة في صراع شرس على الوصافة    42 شهيدًا ومصابا في غزة خلال 24 ساعة    تجديد مسجد «فيضة أثقب» على الطراز المعماري التراثي    مواقف ذوي الإعاقة    أنهى ارتباطه بها.. فقتلته واختفت    مدير الأمن العام يرأس اجتماع اللجنة الأمنية بالحج    الأمير سعود بن نهار يستقبل قائد منطقة الطائف العسكرية    فيجا يربك حسابات الأهلي    الاتحاد يجهز ميتاي للرياض    أبها للولادة والأطفال يُفعّل حملة "التطعيم ضد شلل الأطفال" و "البسمة دواء"    مستشفى خميس مشيط العام يُنظّم فعالية "اليوم العالمي للزواج الصحي"    نعتز بالمرأة القائدة المرأة التي تصنع الفرق    أمير منطقة جازان يتسلم التقرير السنوي لجمعية الأمير محمد بن ناصر للإسكان التنموي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دبلوماسي من طيبة لمعالي د. نزار عبيد مدني: محطات في رحلة العمر قادتني إلى عالم السياسة
نشر في البلاد يوم 26 - 08 - 2009

يستطرد معالي الاستاذ الاديب نزار مدني في وصف المدينة المنورة وصفاً دقيقاً في قالب سردي مستعرضاً أهم نواحيها ومناطقها وعناوينها الرئيسية فيقول في وصفه لسوق القماشة الشهير او ما ان يسميه البعض سوق سويقة أو "جوة المدينة" فيقول:
يستطرد معالي الاستاذ الاديب نزار مدني في وصف المدينة المنورة وصفاً دقيقاً في قالب سردي مستعرضاً أهم نواحيها ومناطقها وعناوينها الرئيسية فيقول في وصفه لسوق القماشة الشهير او ما ان يسميه البعض سوق سويقة أو "جوة المدينة" فيقول:
عندما تدخل إلى السوق- الذي لا يتجاوز عرضه ثلاثة أو أربعة أمتار، فإنك تشعر على الفور بالنسمات الندية المنبعثة من ارضه المبلطة بالحجارة، وتحس بالعبق التاريخي للسوق، والذي يقال إن تاريخه يعود إلى عصور الإسلام الأولى، تصطف على جابني السوق حوانيت أو دكاكين صغيرة متلاصقة تخصصت في بيع صنوف متعددة من المعروضات .. هناك على سبيل المثال دكاكين القماشين، وأذكر منهم : دكاكين عبدالحكيم عثمان وأخوانه، دكان حسن عينوسة ، دكان حمزة عويضة، دكان عبد الكريم أركوبي، وهناك دكاكين الصاغة، ومنهم: دكان زين سلامة ، ويقع أمام المدخل الرئيسي لبيتنا، دكان يوسف مهرجي، وهناك دكاكين المتخصصين في التطريز ومنها:دكان عبد الخالق فضل إلهي، دكان حسن طاهر، دكان يوسف كردي. وهناك دكاكين العطارين ومنهم :دكان عبدالسلام عسيلان، دكان عبد الله بشاوري، وهناك دكاكين المتخصصين في الأواني والأدوات المنزلية ومنهم: دكان عبد القادر بشاوري وابنه محمد، ويقع الدكان أمام المدخل الرئيسي لبيتنا مباشرة، دكان عبد الكريم أفغاني، دكان إبراهيم زاهد، وهناك دكاكين صانعي العقل ومنهم : دكان حسين رشوان ، دكان حسن سروجي.
التعمق في نظرة نزار مدني لجنبات المدينة المنورة لم يترك الروائي نزار مدني جانباً إلا وكان له نصيب من الوصف فها هو يصف برحات المدنية المنورة التي اضحت غائبة عن اذهان الكثير من اهل المدينةالمنورة وزوارها فيقول:
قد يلفت نظرك شارع مهم آخر يمتد من برحة "باب السلام" حتى ساحة "المناخة" هو "شارع العينية" والموازي تقريباً لسوق القماشة، ويمتاز هذا الشارع بجمال التنسيق، ويتقابل فيه صفان من الدكاكين يفصل بينهما وبين ارض الشارع المفروش بالحجر الأسود رصيف مفروش هو أيضاً بهذا الحجر الذي يسهل تنظيفه بحيث يبدو جميلاً خصوصا وانه مسقوف بسقف يرتكز على عقود واعمدة تتلاحق على الصفين من اول الشارع حتى نهايته.
كانت هذه المشاهد والناس يسيرون هنا وهناك تشدني وتستوقفني كثيرا، وما تزال ذاكرتي تحمل صورة حية ناطقة لما كان يدور في تلك الاماكن.
أما إذا انعطفت يسارا فانك سوف تسير مسافة كيلومتر آخر أو اكثر بامتار قليلة لكي تصل الى "باب المصري" وهو النهاية الغربية للسوق، فور تخطيك عتبة "باب المصري" تنتقل الى "سوق الحبابة" وقد سمي بهذا الاسم لوجود الحوانيت المتخصصة في بيع الحبوب على جانبيه، وان كان يضم ايضا بعض حوانيت "العطارة" وهم بائعو التواببل والاعشاب الطبية القديمة، كما يوجد على جانبه الايسر حوانيت المتخصصين في صنع اثاث المنازل ويسمونهم "المنجدين" وحيث إنني كنت كثيرا ما أعبر "سوق الحبابة" في طريقي إلى مبنى البلدية الذي يقع في نهايته لنستقل السيارة من هناك في معية عمي "وكان رئيسا للبلدية في تلك الايام" كلما اردنا "الطلوع للبلاد" فقد كانت تستوقفني وتشدني بعض المشاهد التي لاتزال عالقة في ذاكرتي حتى الآن، منها اشجار النبق والسدر التي كانت تنتشر في هذا السوق وقد انتشر تحت ظلالها عدد من النسوة الملثمات وامام كل واحدة منهن انواع من السلال الصغيرة المصنوعة من سعف النخيل يضعن فيها المبيعات التي يعرضنها واهمها "المراوح" وهذه نوعان: أحدهما مزخرف ملون صغير الحجم وقد رزم كل ثلاث منها في رزمة ، وقد عرفت فيما بعد ان النوع المزخرف والملون هو الذي يستعمل للترويح ويقدم للضيوف، اما النوع الثاني الابيض ذو المقبض الاكثر طولا وسمكا فهو للاستعمال في المطبخ للترويح على الفحم بعد اشعاله في "الكانون" أو في "المنقل" وتبيع النسوة الملثمات الى جانب المراوح انواعاً مختلفة من "المكانس" نوعاً لكنس الغرف والاثاث كالسجاد والمساند، ونوعا لغسل حجر الدرج والدهاليز وفسحات الديوان والقاعة، ثم إلى جانب هذه المصنوعات من سعف النخيل زنابيل تعرض فيها انواع من منتجات المزارع يصعب تصنيفها، اذ هي ليست خضروات او بقولا تؤكل طازجة او مطهية، وانما هي من مطالب الترف والرفاه التي يندر ان يخلو بيت في المدينة منها، وفي مقدمتها جميعا "الورد" بأنواعه التي قد تتقارب ألواناً، ولكنها تختلف في فوح عبيرها، وتنتقي عادة من اغراس معينة في بساتين معروفة، والبائعة التي تعرض هذه الورود تفاضل او تمايز بينهما بأن تخص الانواع الممتازة بحاويات تصنع من لحاء النخل تشبه القارب، وهذه لها ثمن قد يبلغ اضعاف ثمن الانواع العادية التي تبيعها غرفاً بملء الكف، ومن تلك المنتجات ايضا "النعناع" بنوعيه: "المغربي" و"المديني"، و"الدوش" و"اللمام" و"العطرة" و"النوامي"، وكان المارة والمتسوقون يشمون أريج تلك الورود والنباتات يعبق بها الجو في تلك المنطقة تحت ظلال اشجار النبق الكبيرة، وقد تجد بعض اولئك النسوة يعرضن بعض المنتجات الاخرى من المزارع كالبيض والدجاج ، وذلك بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر وحتى غروب الشمس.
كان يستوقفني ويثير انتباهي ايضا منظر العاملين لدى الافران "المخابز" المنتشرة في المدينة " ومن بينها فرع "وحيدة" في منطقة "الشونة" القريبة من دارنا في السوق، وتديره امرأة كان يبدو على محياها الصرامة وعلى قسمات وجهها القساوة، اشبه الى الرجال منها الى النساء، وكنت اسمع انها كانت من أصول "مصرية" وهم يحملون فوق رؤوسهم طاولات "الشريك" و"العيش" الخبز, ويعبرون الأزقة والشوارع مسرعين في مشيتهم لايلوون على شيء وقد أسبلوا أيديهم إلى الاسفل وكأنهم لا يحتاجون إلى تلك الأيدي للامساك بطاولة الخبز.. وكنت أتعجب دوماً من قدرتهم على القيام بذلك العمل.
وقد تصادف ايضا وانت تسير في "سوق الحبابة" وربما في غيره من الاسواق بائعي ما كان يسمى "الأقر" وهو نوع يشبه المهلبية لونه أحمر ومذاقه شديد الحلاوة، وعندما يسكب البائع من ذلك الابريق الصغير ذلك الشراب الذي لا يختلف في مذاقه ولونه عن "الأقر" نفسه تتسابق أيدي الاطفال لأخذ نصيبهم من تلك الحلويات و"الاقر" هو نوع من الحلويات الاندونيسية ولا ادري اذا كان ما يزال يباع في هذه الأيام أم لا".
نقطة الانطلاق والتحول من القاهرة
في الجزء الثاني من كتاب معالي د/ نزار عبيد مدني استعرض الكاتب نقطة التحول مع مجتمع النشأة الى مرحلة الانطلاق والتسلح بالعلم وبناء الذات، حيث يسرد الاستاذ نزار تجربته الدراسية والتي بدأت من القاهرة في قالب موضوعي وسردي متسلسل ، فيقول بينما البحيرة سكون رهيب ، رتابه وملل، سلبية متناهية، وبهذا التشبيه يكون الانسان - اي انسان- إما ايجابيا متحركا قادرا على اكتساب المعرفة والخبرة متطلعا بروح ايجابية وثابه لتحقيق طموحاته واهدافه في الحياة، واما سلبياً جامدا غير قادر على التفاعل الخلاق مع الفرص المتاحة له والآفاق المشرعة امامه.
في صيف عام 1380ه الموافق لعام 1960م وصلت الى مصر بهدف الالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة والحصول على شهادة البكالوريوس في تخصص "العلوم السياسية"لم يصاحب وصولي إلى القاهرة وببدء المرحلة الانتقالية التي شهدت تحولي من تلميذ ثانوي إلى طالب جامعي ، ومن صبي مراهق إلى فتى يافع في مقتبل الشباب، ومن العيش في كنف الوطن ودفئة الى الحياة في خارج الوطن وتحدياتها، ومن اعتماد مطلق على الاسرة وعدم شعور بالمسؤولية الى نوع من الاستقلالية المحدودة والاعتماد على الذات.. أقول إن هذه المرحلة الانتقالية لم يواكبها او يصاحبها الشعور بالضيق والوحشة والغربة، او الاحساس بالصدمة الحضارية Culturalshock او ماشابه ذلك من المشاعر والاحاسيس التي تنتاب كل من يتعرض لتجربة مشابهة وفي ظروف مماثلة.
تفسير ذلك يكمن في عدة اسباب منها انني لم اكن غريباً على مصر، ولم تكن مصر غريبة عليّ، فبعد اول رحلة قمت بها للقاهرة حينما كنت في حوالي الثالثة او الرابعة من العمر توالت الرحلات والزيارات مع الاسرة بغرض الاصطياف والاستجمام. كانت زيارة مصر في تلك الأيام تمثل حدثا غير عادي لدرجة أننا كنا نمضي اياما وليالي بعد عودتنا نحكي فيها للزوار - وهم يستمعون إلينا بكل انبهار - ما شاهدناه من معالم وما حضرناه من مناسبات ، وغير ذلك من امور لم تكن مالوفة للكثيرين في المجتمع آنذاك.
ومن بين تلك الأسباب أيضاً ان التأثير الثقافي والأدبي والفكري المصري علينا في تلك الحبة " عن طريق الكتب والصحف والمجلات" والتأثير الفني والأعلامي "عن طريق الإذاعة" والتأثير الشخصي والفردي " عن طريق الاساتذة أو المدرسين وإلى حد ما الحجاج " مهّد للسرعة الكبيرة التي تكيفت بها مع الحياة في مصر بمظاهرها وأبعادها كافة، وخفّف إلى حد كبير من الآثار الاجتماعية والحضارية المتوقعة والمصاحبة للانتقال من مجتمع إلى مجتمع ومن بيئة إلى بيئة.
تداخل الحنين والمستقبل
يصف الاستاذ نزار أول يوم له في الجامعة فيقول:
غمرني في البداية احساس طاغ بالرجولة، وبأني لم أعد ذلك التلميذ في المدرسة الناصرية في المدينة المنورة الذي لم يكن عالمه الخاص يتجاوز المسافة من "سوق القماشية" إلى "باب المجيدي" ولا حتى ذلك الطالب الذي كان يظن ان مجرد انتقاله إلى مدرسة طيبة الثانوية سوف يمنحه الصك المنشود نحو الحرية والاستقلال، لقد شب الفتى عن الطوق، وبات رجلاً بكل ما يحمله مفهوم الرجولة من مضامين .. باختصار.. لقد اصبح طالباً جامعياً.
لم أكد افيق من ذلك الاحساس وأتأمل ما حولي ومن حولي حتى انتابني شعور قوي آخر بماهية وطبيعة النقلة النوعية الشاملة واهمية التغيير الجذري الذي وجدته في الجامعة مقارنة بما قبلها من مراحل دراسية. المدرج الكبير الذي اقبع في ركن منه يستوعب عشرات الطلاب، المحاضر يستعين بالميكروفون كي يسمعه جميع من في المدرج الذي يمتلئ حتى لايبقى فيه مكان لجالس او واقف ، لايوجد هنا حضور وغياب وأبواب تفتح وابواب تغلق واعذار مرضية، لا يلاحظ أحد وجود أحد أو اختفاء أحد "الاستاذ محمود اسكندراني بخيزرانته الشهيرة غير موجود" ، والأدهى من ذلك كله هناك عدد كبير من الفتيات يجلسن جنباً إلى جنب من الفتية سافرات بلا "عباءات" أو "ملايات" بل إن بعضهن في أكمل زينة وأبهى حلة.
مع اختلاط تلك الخواطر والاحاسيس والمشاهد داهمني فجأة شعور قاس بالوحشة والغربة، فالوجوه التي أراها أمامي غير مألوفة، والنزوع القديم إلى الرهبة من التجمعات والرغبة في الانزواء والابتعاد عن الصخب عاودني من جديد وبشدة لم أعهدها من قبل.
لم يكن امامي من حلول متاحة للتعاطي مع هذا الوضع والتعامل مع هذا الواقع سوى البحث عن صحبة أركن إليها وآنس بها، التعرف على الفتيات لم يكن وارداً فلم أكن أجرؤ حتى على الاقتراب من إحداهن ، والإخوة المصريون يعرفون بعضهم كما يبدو، وكنت أخشى من الصدود إن حاولت مد جسور الصداقة مع بعضهم.
جاء الفرج حينما علمت أن هناك ثلاثة طلبة سعوديين قد قُبلوا في الكلية هم : رضا لاري وعبد اللطيف ميمني وحامد يحيى. أخذت أتفرس في الوجوه علني اهتدي إلى أحدهم، لمحت شخصاً خلِت أنه ربما يكون أحد الثلاثة. تقدمت نحوه بحماس والبشر يطفح على وجهي وابتسامة عريضة تعلو محياي، وبعد أن قدمت نفسي وانتظرت ردة الفعل إذا به يرد وبكل برود وتجهم :"أهلاً .. أنا رضا لاري" ثم يتمتم ببعض كلمات لم أفهم منها شيئاً ويدير ظهره وينصرف. خشيت أن خيبة الأمل الأولى سوف تتكرر في المحاولة مع الآخرين، ولكن لم يكن أمامي خيار غير الاستمرار في المحاولات. كان من السهولة بمكان التعرف على الزميلين الآخرين فالسحنة كانت واضحة وطريقة ونوعية الملبس ساعدت على أن تكلل المحاولة بالنجاح.
الشلة تذهب الغربة
في ذكريات الغربة الدراسية يصف نزار مدني وقع الشلة في نفسه فيقول: ساعد وجود "الشلة" كثيرا في اضفاء اجواء من الالفة والمرح والمشاركة الوجدانية مما ساهم في التغلب على كثير من مصاعب الدراسة حيناً ومتاعب التعامل البشري حيناً آخر، كنا نتحرك سوية في كافة المواقع في الجامعة وفي خارج الجامعة.. في المحاضرات، في الردهات، في البوفيه، في المكتبة، في مقر البعثة، في زيارة السفارة، علاقتنا اللصيقة هذه ربما كانت سببا من اسباب التباعد بيننا وبين بقية زملائنا في القسم من الاخوة المصريين الذين لم يساعدوا من جانبهم على اقامة اي نوع من انواع التواصل معنا على الرغم من قلة عدد طلاب القسم، واستمرار الزمالة معهم لمدة ثلاث سنوات متتالية.
نوع من القطيعة الخفية
اما ما كان من امر زميلاتنا في القسم فان التواصل معهن شابه نوع من القطيعة منذ البداية، لم نحاول من جانبنا التقرب منهن، وبادلننا من جانبهن بموقف اشد جفوة ونأياً، لم نكن نتبادل معهن حتى التحايا الصباحية التقليدية، ولم يكن الامر يتجاوز في بعض الاحيان ابتسامات باهتة صفراء، او ايماءات بلهاء اذا التقت العيون او اقتضت الحاجة الماسة ذلك، كان يخيل الينا انهن كن يتوجسن منا خيفة، ولا ادري لماذا - إذا صح هذا الانطباع - لاننا كنا في منتهى الوداعة والمسالمة، وعلى اية حال، فان معظمهن - باستثناء واحدة او اثنتين - لم يكن ينطبق عليهن وصف فتيات او "صبايا" كما يحلو لاخواننا اللبنانيين ان يقولوا.. نظارات طبية سميكة وملامح صارمة قاسية، وجدية مبالغ فيها ويكفي للتدليل على ذلك اننا كنا نشبه احداهن بمومياء فرعون محنطة.
بتقدير جيد دخلت عالم السياسة
في شهر محرم من عام 1384ه الموافق يونيو من عام 1964م انهيت دراستي بجامعة القاهرة وحصلت على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بتقدير "جيد" ومع ذلك التقدير لم يرتفع الى سقف طموحاتي، او يتفق مع مستوى تطلعاتي او حتى يتماهى مع سجلي الدراسي السابق بما كان يتميز به من تنافس دائم ومستمر على الاولوية في جميع مراحل الدراسة، الا انني مع ذلك كله التسمت لنفسي من الاعذار واوجدت لها من التبريرات ما حولني من السخط على تلك النتيجة الى القناعة بها والرضا عنها.
من تلك التبريرات المستوى العالي من التنافس الشديد بين الزملاء في القسم والذين كانوا من خيرة الطلاب الحاصلين على اعلى التقديرات ومنها ما عرف عن الاساتذة في الكلية من شُحْ في منح التقديرات المالية لدرجة انه كان من المتعارف عليه ان الحصول على تقدير امتياز في بعض المواد هو اقرب الى المستحيل منه الى الممكن، على ان الاهم من ذلك كله هو ما غمرني من احساس في ذلك الحين بأن العبرة لم تكن بدرجة التقدير بقدر ما كانت بالفوائد الجمة التي جنيتها والخبرات التي اكتسبتها في خلال دراستي الجامعية سواء ما يتعلق منها بالنواحي الشخصية او ما يختص بالجوانب العلمية والاكاديمية.
القمر أو النجوم كلاهما هدفين
لقد كانت بحق أعواماً جميلة وممتعة تلك التي قضيتها في القاهرة في تلك المرحلة من مراحل العمر.. جاءت حافلة بالاحداث، زاخرة بالعطاء، مليئة بالانجازات، ولا ابالغ اذا قلت انها كانت بمثابة "العتبة" الاولى التي اجتزتها في طريق المستقبل، او ان شئت فقل القاعدة التي انطلقت منها الى الحياة العملية بكل تحدياتها وآفاقها التي لا تحدها حدود او تقيدها قيود.
واتذكر انني تساءلت بيني وبين نفسي وانا على متن الطائرة التي اقلتني من مطار القاهرة الدولي في طريق العودة الى بلادي حاملاً الشهادة الجامعية عن ماهية ذلك المستقبل ونوعية تلك الحياة العملية التي كنت مقدماً عليها، ومع انني لم اتمكن في حينه من التواصل الى اجابات محددة عن تلك التساؤلات، الا ان ما اذكره تماما انني كنت مفعما بالآمال والتطلعات والطموحات، وانني كنت اردد طيلة الرحلة حكمة مأثورة لاحد المفكرين الغربيين كنت قد سمعتها من قبل هي: اجمل القمر هدفك.. فان لم تنجح في الوصول اليه فيكفيك ان تجد نفسك بين النجوم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.