بعد ثلاثة اعوام من انجازه وعرضه، لا يزال فيلم "سجل اختفاء" للفلسطيني ايليا سليمان، يثير من المشاكل والسجالات، بقدر ما اثار في عامه الاول. وفي الأسبوعين الاخيرين، عادت قضيته الى البروز مجدداً لمناسبتين حملتا في ذاتيهما مشكلة الفيلم الأساسية. واكثر من هذا المشكلة نفسها التي يعبر عنها هذا الفيلم، سينمائياً وسياسياً: مشكلة هوية فلسطينيي الداخل، اي اولئك المئات من الألوف الذين لم يغادروا او لم يلجأوا حين سيطر الصهاينة على فلسطين وحولوها الى دولة اسرائيلية. "سجل اختفاء" يثير هذه المشكلة، اذن، في موضوعه وشكله السينمائي، ولكن في هويته ايضاً. اذ ان مهرجان الاسكندرية السينمائي لهذا العام، رفض عرض الفيلم الذي كانت اقترحت عرضه وزارة الثقافة الفلسطينية ضمن "بانوراما" السينما الفلسطينية بحجة انه "فيلم اسرائيلي" - بصرف النظر عن موضوعه وجوهره اللذين يناقضان هذا تماماً، وبصرف النظر عن المعركة التي يخوضها مخرجه، كما سترى، حول هذا الموضوع بالذات. وفي الوقت نفسه كان نقاد السينما الاسرائيليون يمنحون الفيلم نفسه جائزة "أحسن فيلم إسرائيلي"، حسب الخبر الذي نقلته "الحياة" قبل اسبوع عن صحيفة "يديعوت احرونوت" وعلقت عليه. ولكن في الوقت الذي "أدان فيه مهرجان الاسكندرية" - كما سبق ان فعل عدد من النقاد والصحافيين العرب طوال الاعوام الثلاثة الفائتة - الفيلم ورفضوه، كان النقاد الاسرائيليون اكثر دقة، اذ حدد رئيس نقابتهم والناطق باسمهم "جيدي اوشرات" قائلاً: "اننا نقدم جائزة النقاد هذا العام، التي تمنح عادة لفيلم اسرائيلي، الى فيلم فلسطيني اعده مخرج فلسطيني وصوّر في اسرائيل". وكان خبر يديعوت احرونوت قد اشار الى ان منح الجائزة الى فيلم فلسطيني اتى بعد 13 سنة من الانتظار، حيث ان النقاد الاسرائيليين كانوا ومنذ ذلك الحين يعملون لادخال الأفلام التي يصورها فلسطينيون في اسرائيل، داخل المسابقة. وهذا الامر الذي يتحقق للمرة الاولى هذا العام، شكل - من ناحية مواربة - انتصاراً شخصياً لايليا سليمان، الذي خاض طوال السنوات الثلاث المنصرمة، والتي تلت انجازه "سجل اختفاء"، معركة وصلت الى "المحكمة الاسرائيلية العليا" في سبيل الحصول لفيلمه على حق ان يعتبر فيلماً فلسطينيا. وان يعتبر مخرجه مخرجاً فلسطينياً، دون لف او دوران. هذه المعركة التي ربحها ايليا سليمان ضد الحكومة الاسرائيلية، وكان فوز فيلمه بالجائزة الاخيرة، "تتويجاً" لها، بقي عليه - كما يقول - ان يخوضها في البلاد العربية. ايليا سليمان، تعقيباً على ما نشر في "الحياة" الجمعة في 15/10/1999 حول هذا الموضوع، ومساهمة في نقاش يتجاوز مسألة السينما الى مسألة الهوية الفلسطينية لفسطينيي الداخل، ارسل النص التالي الذي ننشره كما هو، بالطبع آملين منه ان يؤدي الى سجال حقيقي جديد، حول واحد من المواضيع الخطرة التي سيجد العرب انفسهم في مجابهتها، على ضوء المباحثات السلمية الجارية منذ سنوات، والتي لئن كانت ستحل الكثير من الأمور، من الصعب تصور انها ستكون قادرة على ايجاد حل واضح وصريح ووطني للمعضلة التي طرحتها على العقل العربي، المفاجأة التي افاقوا عليها ذات يوم، حين اكتشفوا ان ثمة مئات الألوف من الفلسطينيين القاطنين في اسرائيل والحاملين الجنسية الاسرائيلية، والباحثين في خضم الاحداث والمفاوضات والحروب والمزايدات، عن هوية لهم. إ. ع. تعقيب ايليا سليمان يقول ايليا سليمان في تعقيبه: "لقد قرأت باهتمام كبير مقالكم ووجدته ينطوي على معانى عميقة. ولكن هناك خطأ واحداً أود ان اشير اليه - مستقى على حسب علمي من جريدة اسرائيلية - وهو في العنوان والذي يناقض كل ما تلاه في المقال، بل ويبطل معركة خضتها لسنواتٍ طوال، وكان لي عظيم الفخر بالانتصار فيها في النهاية. فعنوان المقال يشير الى انه تم اختيار فيلمي "كأفضل فيلم اسرائيلي" لهذا العام. واسمحوا لي هنا دون مقدمات ان اقتبس ما ورد على لسان رئيس نقابة نقاد السينما والصحافة الاسرائيلي "جيدي أوشرات" في حفل اعلان الجائزة في الثالث عشر من الشهر الحالي، فقد قال اوشرات "اننا نقدم جائزة النقاد هذا العام، التي تُمنح عادة لفيلم اسرائيلي، الى فيلم فلسطيني أعده مخرج فلسطيني و"صور في اسرائيل". "وما قيل يؤكد النصر الذي حققته. "القرب المساحاتي في العنونة بين كلمة "افضل فيلم" و"اسرائيلي" او اسم "إيليا سليمان" و"اختير" مفعول به وفاعل دون ضمير وغير مستتر شكّل رد فعلي الاول عندما قرأتكم، صدمة. استفزاز، فرض زواج لغوي، لذا، دفاعاً عن النفس، دفاعاً عن الهوية، لذا هذه المقدمة وهذا التنويه. انتهى. "قراءة ثانية للمقال صباح اليوم التالي. ماذا أرى؟ في التشنج بين العنوان والنص هناك دحض مغناطيسي لذا ظل النص اسيراً تابعاً لقانون الجاذبية. اعني جاذبية النص. فرغم دفاعي عن هويتي، عن نفسي في مساحة العنونة، وبعد الصدمة الاولى، أرى في مقالكم مقدمة لنهايات جدال، افتتاحية، تدشين، تنوير، تفكيك لبلبلة كلمة تطبيع. ثم ارى في مقالكم محاولة لمّ شمل لما هو فلسطيني. بحث في القاع الاول. هناك تحت الركام بعد الهزة الاولى 1948، هناك الناجون الذين لا يستنجدون بمن نُسي استنسي ولن يفعلوا، بل هم من تحت الركام سينقذون ضمائر هؤلاء الاخيرين الذين يعيشون تحت القمع السياسي، وتحت قمعهم الذاتي الفكري. من هم؟ صليبيّي "ضد التطبيع"؟ الا يدركون انهم هم ايضاً مجازياً فلسطينيون تحت الركام، فلينجّوا انفسهم وليحرروا ذاتهم! أيدركون اين تقع وقعت مدينة الناصرة منذ خمسين سنة؟ ارسموا في جريدتكم خريطة فلسطين يومياً هناك في صفحة الأبراج حيث يقطن "سكان الفضاء" ليس الخارجي بل الداخلي، داخل حدود 1948. "للمرة الألف أكرر: الناصرة هي مسقط رأسي. وقد اصبحت الناصرة جغرافياً في اسرائيل بعد عام 1948. ان اكثر من مليون فلسطيني يقيمون اليوم داخل حدود اسرائيل، وهم اولئك الذين تمكنوا من البقاء في منازلهم وهم من عزلوا عن شعبهم الفلسطيني منذ ذلك التاريخ. وقد اطلقت اسرائيل على هؤلاء الفلسطينيين اسم "عرب اسرائيل". وهذه التسمية تشكل سياسة حكم الأمر الواقع التي تنكر هويتهم القومية. كما تحجب عنهم حقوقاً يتمتع بها مواطنون يهود في دولة اقيمت لليهود. وما يذهلني هو ان الخطاب العربي كثيرا ما يتبنى هذه التسمية دون ادراك - او ربما عن ادراك - لأبعادها ولما تنطوي عليه من معانٍ! "ما أكافح من اجله انا والكثيرون من الفلسطينيين، الذين يعيشون تجربتي، هو استعادة هويتي وما ينطوي عليها من حقوق. وبإعلان تلك الهوية فلسطينياً والمطالبة بحقوق متساوية، فاننا نكون في واقع الأمر نطالب بإنهاء، وجود اسرائيل كدولة يهودية ذات ايديولوجية صهيونية، ونطالب بأن تصبح دولة لمواطنيها. "ولقد سبق ان تطرقت الى هذا الموضوع في مقال نشر في جريدة "الحياة" منذ فترة قصيرة. ولكن يبدو ان هناك حاجة دائمة للتكرار. "ولعله من سخرية القدر ان جهودي لتعريف فيلمي ك"فلسطيني" قد حققت اهدافها في اسرائيل، وانني اكافح الآن للتوصل لإسباغ هذه الصفة على الفيلم في العالم العربي! "قرأت بين سطور مقالكم تخوفكم من ان يؤدي الهجوم المتكرر عليّ في العالم العربي الى "تقديمي هدية لإسرائيل". وهنا اؤكد لكم بأنه خلال معركتي حول هوية الفيلم الفلسطينية كنت اكافح وحيداً - كثيرا ما كنت اشعر انني وحيد - ورغم انني لست من الوزن الثقيل فانني لست من وزن الريشة كذلك: وأعني ثقافياً، استراتيجياً واخلاقياً. "وانا هنا لا أقارن بين اسرائيل والعرب، لكن ويا حيرتي اذا باغتني هؤلاء الذين يشنون علي الحروب اذا ما اوقفوا حروبهم وقبّلوني. هل استوعبوني أم استعابوني استيعاباً؟ هل سيبدأ شكي بذاتي؟ هل سأقف مجدداً على نفس الميزان. يا إلهي! هل فقدت وزني؟ ايليا سليمان