هل حين تحاول دولة ما تحجيم التغطية الإعلامية الخارجية لإذاعة تفاصيل ما يجري في داخلها، هي محقة في اعتبار ذلك تدخلاً في شؤونها واستثارة للمزيد من الشغب؟ أو ان ستر التفاصيل وتدجين الإعلام يساهمان في سلبيات الوضع واستشراء الضرر؟ تفاصيل ما حدث في جاكارتا أخيراً من اضطرابات دامية ومواجهات قوات السلطة والطلبة المحتجين، حملته إلينا في الأطراف الأخرى من العالم قنوات البث الفضائية، مثلما تنقل حالياً ما يحدث من الاعتداءات الروسية على الشيشان، وتداعيات زلازل تركيا واليونان والأعاصير المدمرة في الولاياتالمتحدة واليابان والفيليبين. قبلها نقلت وسائل الإعلام التفاصيل الدموية للمواجهات بين الشرطة والطلبة في تيانانمين بالصين، والتأزمات على الحدود الهندية - الباكستانية. ومع اختلاف مواقع الأحداث وتصنيف الحكومات ديموقراطية أو شيوعية أو ديكتاتورية، وتباين تقاسيم الوجوه والسحنات، تبدو نشرات الأنباء وكأنها تسجيلات معادة سبق عرضها، بريئة من أي غرض غير عرض الحقائق. تتكرر تفاصيلها ويتكرر أيضاً لوم السلطات الرسمية على تشددها، أو تحيزها أو عجزها أو تقصيرها في معالجة الأحداث. قد يكون عامل التخوف من الانفضاح أمام الغير في حالات اساءة السلطة أو التقصير في القيام بالواجب هو السبب الأول في محاولة السلطات منع فرق التغطية الإعلامية من المساهمة في نقل الحدث، إلا انه في سطوة القنوات الإعلامية والاتصالية الخارجة عن طاق التحكم المركزي في أي قطر بعينه لم يعد بالامكان تحديد ما يصل المتلقي من المعلومة، سواء تفاصيل حقيقية مرغوب في حجبها، أو تفاصيل ضارة مرغوب في منع استشراء تداعياتها وتأثيراتها الموجهة سلبياً. وفي حالات العدوان أو اساءة السلطة أو تجاوز الصلاحيات أو التقصير الفعلي بسبب عدم التنظيم أو اهمال معالجة الأمور يبدو الناطق الرسمي في حالة دفاع عن النظام، عاجزاً عن الاقناع وبالتالي تظهر التغطيات الإعلامية الخارجية مطلوبة من متابعي الأحداث، يرونها بخلاف السلطات المحلية، لا كتدخل سلبي في شؤون الآخرين بل شرفة حرة ايجابية تتيح عرض الأوضاع وكشف المتكتم عليه. ولكن هناك نتائج سلبية أيضاً كامنة في اطلاق عنان التغطيات الخارجية، منها خطر السقوط في براثن الإعلام الموجه خارجياً وتلوث الإعلام بالأغراض الموجهة كأن تركز التغطية والتعليقات على تفاصيل بعينها وتعطيها حجماً أكبر من الواقع متقصدة إظهار تقصير أو وحشية هذا الجانب أو ذاك بغرض الإثارة الإعلامية ضده بالذات. ومنها أيضاً افقاد المشاهد حساسيته ضد تطرف التصرف بحيث تصبح العدوانية والعنف - بغض النظر عن المسببات - تصرفاً معتاداً، ويكتسب المشاهد مناعة ضد التأثر الانساني، أو تقبلاً للتصرفات المتطرفة على أنها واقع الحياة المعاشة وبالتالي لا تستدعي التدخل... ثم هناك نتائج أخطر على المدى الطويل وأقل وضوحاً في المدى القصير، حيث يرتبط تبرير العنف بالغايات "السامية" السياسية أو الدينية. من ذلك أن المشاهد يتلقى من هذه العروض دروساً ضمنية في انفلات التصرف الانفعالي وتبريره، وحين يدخل لاحقاً في مشادة مع جار أو زميل في العمل، لا يفاجئه انه حمل هراوة يحطم بها رأس "المعتدي" لأنه يمثل "الفساد الإداري" أو "التحيز الطبقي"!