كيف يفكر الطفل العربي اليوم؟ وما هي الآلية التي تحكم ذائقته ورؤيته للحياة من حوله؟ والتغيرات الهائلة التي جرت على مجتمعاتنا في العقود الأخيرة، كيف تركت أثرها على الطفل؟ هل نفهم أطفالنا حقاً، بعد ان أصبح عالمهم لا يبعد كثيراً عن عالم الكبار؟ هذه الأسئلة قد نستشف إجاباتها من خلال التحاور مع الأطفال، والاقتراب ولو قليلاً من ذهنية أطفال اليوم، الذين أصبحوا يعيشون في ظل الانترنت والعولمة والاكتشافات الفضائية والتلفزيون والألعاب الذكية. الطفل عمران فائق، عمره تسع سنوات، يحب السهر ويرفض الرضوخ لمقولة "نام بكير وفيق بكير وشوف الصحة كيف بتصير" متسائلاً هل هي تسري على الصغار والكبار؟ "وإذا كانت كذلك فلماذا يسهر أهلي حتى ساعة متأخرة يشاهدون التلفزيون ونحن لا؟ هل لأننا صغار أم أننا لا نفهم ما يقولونه؟ أليس من حقنا ان نعرف ونرى ونشاهد كل شيء، كما هو من حقهم؟". ويمضي عمران بالمطالبة بحقه في متابعة ما يجري من خلال برامج الكبار، مستغرباً تقسيم البرامج التلفزيونية بحسب شرائح العمر، يقول: "استمتع بالمسلسلات الدرامية خصوصاً التي فيها حروب وقتال، وكذلك القصص التي فيها أولاد من عمري لأنها حقيقية اكثر من أفلام الكارتون. وهذا يزعج أمي الى حد أنها تصرخ في وجهي كي أذهب الى النوم. حقاً استغرب تصرف أمي في ما يضيرها أن أعرف ما سيحدث للممثلين". الطفلة بيروز ملكي، خمس سنوات، تكشف عن شخصية استقلالية، نادراً ما كان يعرفها طفل الأمس، فهي رفضت الاعتراف بأن جدتها أخذتها معها الى الحلاق وقصت لها شعرها، فشعرها "هو بهذا الشكل منذ الولادة، كان جميلاً ومقصوصاً كاريه". وتخبرنا بيروز عن معانتاتها مع أمها فتقول: "أحب أن ألبس على كيفي وأمي تقول ان هذه الملابس جميلة وأنا لا أحبها". وسألناها: لماذا لا ترفضينها اذا؟ أجابت: "حتى لا تأخذها أختي رورو، فهي تخأخذ جميع ملابسي، وأمي تقول ملابسي تصبح صغيرة علي ولذلك تأخذها رورو". كيف يتخيل المرء طفلاً مثل الياس يستطيع الحديث عن الحب والغيرة ويكتشف التناقض في حديث الكبار على رغم ان عمره ثلاث سنوات فقط؟ والياس تربطني به علاقة من "الحب"، حيث كان يخبرني كل يوم انه يحبني كثيراً كما أحبه. في احدى المرات سألته عن سيدة تزور والدته من تكون تلك؟ أجاب أنها جارتهم أم عادل، وهو يحبها كثيراً. قلت له ان ذلك لا يجوز لأنني أغار. وقد فاجأني بسؤاله عن معنى الغيرة، وبعد ان أجبته لأنني أحبه لا أحب أن أراه يجلس مع غيري، سألني عن زميل رآه معي في اليوم السابق من يكون؟ قلت انه زميل. فكانت كلمة جديدة على قاموسه، فاستفسر: الزميل يعني زوج؟ حاول تقريب معنى الكلمة من ذهنه بقولي: زميل يعني رفيق أو صديق أو أخ مثل أخيك ميمو. فاستدرك: والزوج من يكون؟ أجبت: الزوج الشخص الذي نحبه. ولم أكن أتصور ان هذه الإجابة ستوصله الى نتيجة مفادها انه زوجي، ومن حقه ضربي، لأنه يغار علي من زميلي أو شخص يجلس معي غيره، صارخاً بوجهي: أنا أغار ولا أريد ان يجلس معك أحد حتى زميلك. إن الطفل الذي كان يندهش من التلفزيون أو الراديو منذ ثلاثة عقود ويتخيل ان هناك رجالاً دمى تجلس في جهاز الراديو أو التلفزيون صار اليوم يناقش كل ما يقدم اليه من برامج. كما لم تعد تقنعه تلك المسلسلات والبرامج المخصصة للاطفال بحجة انها خيالية وغير واقعية. فطفل الست سنوات لم يعد يقتنع بشخصية "نعمان" في مسلسل "افتح يا سمسم" مثلاً، لأنها غير واقعية أو غير مقنعة، وهذا ينطبق على برامج أطفال أخرى في المستوى ذاته. كما ان مشاهداته لا تقتصر على أفلام الكارتون، بل أخذ يتابع مسلسلات الدراما للكبار، فهي تلامس مشكلات واقعية أو تستثير لديه حساً خيالياً وجمالياً، ويرى نشرات الاخبار والأفلام العلمية، وتتكرر على مسامعه المصطلحات في كافة حقول المعرفة. بل وتفرض الظواهر السائدة في المجتمع نفسها على عقله، فيحاول التشبه بها أو مجاراتها. كنان فارس، على رغم ان عمره سبع سنوات، يمتلك ذهنية تجارية واضحة. فلكل شيء ثمنه، بما في ذلك النظافة. أخرتنا أمه انه لا يحب الاستحمام، وأي تعاطٍ معه يكلف مبلغاً من المال، وهو عادة يفضل فئة الخمس ليرات، لأن أغلب الأشياء الصغيرة التي يشتريها ثمنها خمس ليرات. عندما سألناه عن عدم حبه للاستحمام، أنكر ذلك، لكنه طلب مبلغاً من المال مقابل غسل يديه من آثار "الآيس كريم". ومن خلال حوار مطول معه علمناً انه يضع تسعيرة لغسيل كل جزء من جسمه، فالكفين خمس ليرات، والغسل حتى الساعدين عشر ليرات. كما يقسم غسل الجسم كاملاًَ، فلكل تسعيرته الخاصة، الحمام مع الرأس خمسين ليرة ومع الظهر مئة ليرة اما سبب ارتفاع التسعيرة فبرره قائلاً: "حمام الظهر صعب ولا تطاله يدي". وهو سلوك غالباً ما يرفضه الأهل، إلا انهم يقبلون به عندما تنعدم الوسائل. داني، يبلغ من العمر ثماني سنوات. يفكر بالبطولة، ويسعى الى تحقيق ذاته، ويعيش في عالم التكنولوجيا. فهو يجيد الألعاب الالكترونية ولا أحد من رفاقه أو اخوته يغلبه. لكنه يفضل اللعب مع أمه دائماً كون الفوز يبدو معها سهلاً، بينما اللعب مع والده يبدو صعب المنال خصوصاً في الشطرنج، كما أن داني يرفض لعب الشطرنج وحيداً مع الكومبيوتر، اذ يرى ان الكومبيوتر يستخدم طريقة أبيه ذاتها في اللعب. الطفل ابن بيئته، فطفل اليوم غير طفل الأمس، وحكايات الجدات غيرت جلدها واصبحت شخصيات مرئية على الشاشة. ويمكن القول ان أطفالنا أصبحوا أطفال التكنولوجيا، حتى خيالاتهم لم تعد الخيالات التي نعرفها، أو قرأنا عنها. أصبحت مرتبطة بمغامرة العقل البشري المبنية على الحسابات المنطقية والنفعية والتوجيه الذي تحدده الشركات المنتجة، سواء في الألعاب أو الوسائل الاعلامية المرئية أو الكتب.