لا يختلف عاقلان في ان الغلطات في اللغة كما في شتى ضروب البحث اذا لم يُنبه اليها وتصوب ذاعت وشاعت وتناقلها الطلبة والباحثون خلفا عن سلف... وبالمثال اذكر ان ابن رشد نفسه وقع في غلطات كثيرة نقلاً عن المترجمين أو الناسخين، ومنها انه خلط بين بروتاغوراس وبيتاغوراس وبين كراتيل وديمقريتس، كما انه ذكر هراكليتس كما لو ان اسم لطائفة فلسفية هي الهراقليون، الخ... كما اشير بالمناسبة أيضاً الى غلطات اخرى عند بعض المحدثين الاكفاء لا ادري كيف تسربت الى كتابتهم: فهذا عبدالرحمن بدوي، المحقق الموسوعي، يسمي موقعة الارك بموقعة العقاب تاريخ الفلسفة في الاسلام، ج 2، ص 741، في حين ان الفارق الزمني بينهما هو خمس وستون سنة وان الاولى انتصار والثانية هزيمة! وهذا ماجد فخري في كتابه "ابن رشد فيلسوف قرطبة" يسجل ان هذا الاخير توفي "في اول دولة الناصر خليفة المنصور" ص 11 بيد انه توفي قبيل وفاة المنصور بقليل، وينسب "كتاب المقدمات" و "كتاب التحصيل" لابن رشد الحفيد، والصواب انهما لابن رشد الجد ص 15. وهذا محمد العبيدي في ترجمته لكتاب "تلخيص السياسة لافلاطون" إلى ابن رشد عن الانكليزية ينقل خطأ نجيب عقيقي في نسب ترجمة مقدمة ابن خلدون الى ارفن اسحاق يعقوب روزنتال ص 38 وليس الى مترجمها الحقيقي الى الانكليزية فرانز روزنتال. وأخيراً وليس آخراً ها هو مؤرخنا المفكر المقتدر عبدالله العروي في تقديم ترجمته لكتابة "الايديولوجيا العربية المعاصرة"، يسجل: "امام هذا الوضع، الذي هو ثقافي قبل ان يكون سياسياً، كيف لا نصدم بتشابه أوضاعنا الحالية مع وضع القرن الخامس ه كما وصفه التوحيدي بكل دقة ومرارة" ص 13، والصواب طبعاً هو القرن الرابع وليس الخامس، الخ... وهذا كله قليل من كثير، فوجب التنبيه والدعوة الى تصويب ما لا يجوز السكوت عنه ولفه بأغطية الستر. وفي هذا السياق تندرج الملاحظات الاشارات التالية. في اطار اهتمامي الفلسفي والروائي بابن رشد رجعت الى ما كتبه الدكتور الجابري عن نكبة فيلسوف قرطبة ومراكش، وذلك في كتاب الباحث الموسوم ب "المثقفون في الحضارة العربية". ولا اريد هنا ان اتعرض الى ما ورد في الموضوع من تأويلات وآراء هي بطبيعتها جدالية خلافية، بل الى ما تضمنه من غلطات بينة او كلام غريب عن تاريخ الافكار ومنهجه، وهذا بيانه: 1- فرانز روزنتال لم يترجم أبداً ابن رشد جاء حرفيا في ص 141 هامش 4: "ابو الوليد محمد بن احمد بن رشد الحفيد، "جوامع سياسة افلاطون"، ترجمة فرانز روزنتال كامبردج: روزنتال، 1979، ص 125 بالانكليزية، وفي الهامش السابق على هذا: "سبق ان اشرنا الى ان النص العربي مفقود واننا سنعتمد الترجمة الانكليزية". وهناك في المجموع احدى عشرة احالة الى هذه الترجمة عن العبرية ما بين الصفحة 141 والصفحة 149. وانا، إن كنت لا يهمني في هذا المقام ان انظر في علاقة باحثنا بالانكليزية ولا ان اشير الى ان فقرات من تلك الترجمة ظهرت في كتاب ماجد فخري "ابن رشد فيلسوف قرطبة" او في مؤلف عبدالرحمن بدوي "تاريخ الفلسفة في الاسلام" بالفرنسية، ج 2 وفي غيره من مصنفاته، الا اني في مقابل ذلك استسمح استاذنا المتخصص المحتك في ان استغرب لكونه ينسب تلك الترجمة الانكليزية الى غير منجزها اي الى فرانز روزنتال بيد ان نصها وهو شاخص امام عينيه حسبما يقر مكتوب على غلافه اسم المترجم الحقيقي، الذي هو روزنتال آخر اي ارفن اسحاق يعقوب Erwin Isak Jacob روزنتال. وينتقل المتعجب لهذه الغلطة الى فهرس المراجع في كتاب استاذنا عساه ان يرى فيه تصحيحاً، إلا أنه يتعجب اكثر اذ يعاين الغلطة فنفسها مثبتة فيه حرفا ونصا. والحال ان روزنتال الاول - فرانز - الذي لا علاقة له مطلقا بالترجمة المذكورة مستشرق معروف عند المتخصصين باعمال كثيرة، من اهمها ترجمته لمقدمة ابن خلدون الى الانكليزية ثلاثة اجزاء، نيويورك 1958. وكلا المستشرقين لا يوجد للاسف في "موسوعة المستشرقين" لعبدالرحمن بدوي، ويذكر اعمالهما من دون اي اشارة بيوغرافية نجيب عقيقي في الجزء الثالث من مؤلفه "المستشرقون"، ويقترف هو الآخر خطأ اخباريا فادحا سأشير اليه في محله، لكن اعمال ذينك المستشرقين تعود اجمالا الى العقود الستة لهذا القرن. 2- نسب كتاب الى غير صاحبه في الصفحة 121، هامش 1، نقرأ: "عبدالواحد بن علي المراكشي، "الذيل والتكملة"، وتأتي بعد ذلك إحالات داخل النص بهذه العبارة، "صاحب الذيل والتكملة"، وننتقل الى فهرس المراجع فنقرأ بما لا يترك مجالا للشك في عيوننا او في المطبعة: "المراكشي، عبدالواحد بن علي، الذيل والتكملة". والصواب الذي يعرفه المتخصصون وغير المتخصصين ان عبدالواحد المركشي 581ه وتاريخ وفاته مجهول لا علاقة له مطلقا بذلك الكتاب وانه صاحب كتاب آخر مشهور "المعجب في تلخيص أخبار المغرب" انظر في مدخله سيرته بقلم سعيد العريان، ويذكر باحثنا فقرات منه من دون أي توثيق. أما مؤلف "الذيل والتكملة لكتابي الموصول والصلة" فهو ابو عبدالله محمد بن محمد بن عبدالملك الانصاري الاوسي المراكشي 634- 703ه المعروف عندنا اختصارا بابن عبدالملك وعند المستشرقين بالانصاري، كما عند مونك ورينان وغيرهما انظر ترجمته بقلم البحاثة المحقق الدكتور محمد بن شريفة في السفر الثامن من الكتاب، القسم الاول. 3- معلومة تاريخية مستحيلة في الصفحة 133 من كتاب صاحبنا نقرأ: "ونحن نعرف - استنادا الى ما ذكره ابن ابي زرع - ان الخليفة ابا يعقوب استدعى ابن رشد الى مراكش سنة 578 ليعينه طبيبا له الى جانب ابن طفيل، الشيء الذي يعني ان تكليف ابن رشد بشرح كتب ارسطو قد تم في هذه السنة لا قبلها".لا حجاج في تاريخ تلك الدعوة للغاية المذكورة، وهو ما ينقله ابن ابي زرع المتأخر عن متقدميه أواخر القرن 7 والعقود الثلاثة الاولى من القرن 8ه في كتابه المعروف "الانيس المطرب بروض القرطاس" الذي لا يذكره باحثنا. اما الاستنتاج المتوج للجملة فهناك اسباب موضوعية تنفيه، منها: أ - ان السلطان ابا يعقوب توفي في رجب الفرد سنة 585، أي سنتين او اقل قبل ذلك التاريخ المزعوم، فلا يعقل ان يأتي طلبه لابن رشد بشرح ارسطو على هذا النحو المتأخر والغريب. ب - ان ابا الوليد، كما اجمع عليه معظم المفهرسين والمحققين الثقات من عرب واعاجم، كان قبل ذلك التاريخ المزعوم قد وضع اكثر من ثلثي انتاجه بما فيه "الكليات في الطب" والجوامع والتلخيصات الارسطية فضلا عن اعماله الاصيلة بداية المجتهد/ فصل المقال/ مناهج الادلة/ تهافت التهافت، الخ. ج- ان اقرب مؤرخ الى الفترة التي تعنينا عبدالواحد المراكشي ولد في 581، أي في بداية حكم المنصور يعطينا عن لقاء ابن رشد بأبي يعقوب رواية لم نعثر بعد على رواية مضادة لها او حتى على أخرى تقلل من صدقيتها ورجحانها. ومع انها باتت معروفة، فلا بأس ان اذكر بفقرة واحدة عسانا بها نعيد الامور الى نصابها التاريخي الصحيح، وهي فقرة يرويها أيضاً صاحب "المعجب" عن تلميذ ابن رشد المباشر، ابو بكر بندود، اذ يسجل: "واخبرني تلميذه المتقدم الذكر عنه قال: استدعاني ابو بكر بن طفيل يوما فقال لي: سمعت اليوم امير المؤمنين يشتكي من قلق عبارة ارسطو طاليس، او عبارة المترجمين، ويذكر غموض اغراضه، ويقول: لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب اغراضها بعد ان يفهمها فهما جيدا لقرب مأخذها على الناس، فإن كان فيك فضل قوة لذلك فافعل، واني لارجو ان تفي به ... فكان هذا الذي حملني على تلخيص ما لخصته من كتب الحكيم ارسطو طاليس" "المعجب"، الطبعة السابعة، دار الكتاب، الدار البيضاء، ص 353 - 354. فهل يعقل ان يعبر ابن طفيل عن رجائه ذلك وان يقول ابن رشد "فكان هذا الذي حملني"، الخ. في سنة 578 ه، اي وهو قريب من العقد السادس من عمره ووراءه خمسة عشر مصنفاً من مصنفاته في الغرض المطلوب، حسبما اثبته امهر واعلم المفهرسين رينان، بويج، سارتون النسو، بدوي، العلوي، وغيرهم؟! بالطبع لا يعقل ذلك، وعليه فإن تاريخ التكليف السلطاني لابن رشد بتلخيص وشرح كتب ارسطو يستحيل كرونولوجيا ومنطقيا ان يكون سنة 578ه، كما يذهب اليه صاحبنا، وانما الصحيح هو ما اجمعت عليه كل المراجع قديما وحديثا، اي 565 ه 1164م، قريبا نسبيا من تاريخ مقابلة ابن رشد مع ابن يعقوب الاولى 559 ه. وللتذكير فقط فإن اول زيارة قام بها ابن رشد الى جنوب المغرب تعود الى عهد الخليفة عبدالمؤمن، وهي التي يتحدث عنها هو نفسه في "تلخيص السماء والعالم"، اذ يسجل: "وقد عاينت أنا بمراكش في عام ثمانية واربعين وخمسمائة كوكبا لا يظهر من هذه البلاد وذلك في الجبل المعروف بجبل درن فزعموا انه سهيل" نشرة العلوي، ص 275. 4- كلام لا يعقل! هذا الكلام صفحة 62 ها هو بالحرف: "واذا كان ابو العلم الاوروبي الحديث، غاليلو، يدين - مباشرة او بواسطة - لبصريات ابن الهيثم، فإن فلسفة سبينوزا تدين هي الاخرى، في مبناها ومعناها، وبالشيء الكثير لابن رشد ومن تأثر به من اللاتين واليهود، بل ان ابن رشد حاضر في اعمال اعظم فلاسفة اوروبا على الاطلاق، عمانويل كانط، الفيلسوف الالماني الشهير". وكنت اتصور صاحب "نقد العقل العربي" منزها عن مثل هذه المقايسات والاسقاطات التي اتخمتنا بها زمنا طويلا بعض ادبيات عصر "نهضتنا"، مدعية سبقنا نحن العرب الى كثير من الاشياء، الخ. لكن الاغرب من ذلك ان يقدم استاذنا كبرهان على دعواه ما يلي: "وليس أدل على استمرار سلطة الفكر العربي على العقل الاوروبي الى عصر كانط، القرن الثامن عشر، من ان شهادة الدكتوراه التي منحتها كلية الآداب في جامعة كونسبرج للفيلسوف الالماني المذكور، كانط، في 12 حزيران/ يونيو من سنة 1755 كانت مزينة بعبارة بسم الله الرحمن الرحيم. وهي شهادة تغني وتكفي". طبعا ليس هنا مجال التعليق على مثل هذا الكلام ولا اظهار ان ابن رشد وكانط على طرفي نقيض وان نقدوية هذا الاخير تنسحب على كل اصناف الفكر الميتافيزيقي والثيولوجي القديمة والوسيطة، بما فيها لزوما واطرادا الرشدية ومرجعيتها الاسمى أي الارسطية. بل أكثر من هذا، ليس هناك - ما عدا البسملة! - أي دليل او شهادة على ان كانط قرأ نزراً يسيراً من اعمال ابن رشد التي باتت مجرد ذكرى خافتة بل نسياً منسياً منذ ان تمكن الاوروبيون في عصر نهضتهم من تملك ارسطو نصا ومعنى من دون شراح ولا وسائط انظر فصل "الارث المنسي" في كتاب الان دي ليبيرا الشيق: "التفكير في العهد الوسيط". وبالتالي، من باب تاريخ الفكر والنظريات، هناك بين عصري النهضة والانوار والعصور القديمة والقروسطوية عقبات كأداء بل وتحولات معرفية معلَّمة باسماء اقطاب، منهم على وجه التخصيص كوبيرنيك وغاليلي وديكارت ونيوتن وكانط، وكلها، أي تلك التحولات، حصلت على ضوء اكتشافات وتطورات جديدة في الفيزياء والرياضيات والفلكيات، وكان من الطبيعي ان تؤثر في مجرى وقضايا الفلسفة والفكر وان تضعف الارتباط بالسكولائية القروسطية التي مدرست الارسطية وجمدتها في قوالب جاهزة ودوغمائيات. وإذن اذا اردنا اعمال المنهج المقارن في النظريات والانسقة الفلسفية وهذا يستوجب تحصيل لغات وتخصصات شتى فلا بد - تجنباً لمزالق الركض عبر العصور - من تمثلها داخل ابستيماتها وشروطها الموضوعية على نحو ما فعله فوكو في اعماله المحددة زمانيا ومكانيا، فنقارن ونوازن في اطار الممكن والمعقول، أي مثلاً بين ابن رشد وبعض خصومه الالداء، وعلى رأسهم القديس توما الاكويني الذي وضع مؤلفا باللاتينية فرنسه دي ليبيرا أخيراً وأصدره بهذا العنوان "ضد ابن رشد". وعلى هذا النحو نبقى في اطار نظام ابستيمي متجانس من حيث مناخه المعرفي وشروط انتاجيته المفاهيمية والفكرية. ومن شأن هذا النحو ان يحمينا من اغراء المقايسات والتماثلات التي قد تبدو للبعض طريفة، الا انها علميا تظل عبارة عن تداعيات مهزوزة ولا تاريخية. كلمة ختامية لطمأنة استاذنا الذي نحترمه اقول وأوكد بأن تنبيهاتي وملاحظاتي المسطرة أعلاه لا تنقص شيئا من باعه في الرشديات ولا من فضله عليها. وأملي ان لا يقابلها بالنفور والتوتر والتقزز، كما هو دأبه دوما مع منتقديه الذين اذا ما رضي بالرد عليهم لا ينفق اكثر من جمل معدودة، تاركاً اسماءهم في حكم الغمرة والمجهول، متعالياً عنهم علواً كبيراً، بل انه في حالات يذهب إلى القدح والبهتة في حقهم... فمتى، ليت شعري، سيتحلى مثقفو الواجهة العربية، نظراً وعملاً، بشيم العلماء التي من اعلاها الصدق والتواضع؟ "ان العُجب، كما في حديث نبوي شريف، ليأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب". وفي حديث آخر: "هون عليك، فإنما انا ابن امرأة كانت تأكل القديد"... * باحث مغربي.