يحيي العالم الفكري شرقاً وغرباً هذا العام الذكرى المئوية الثامنة لوفاة الفيلسوف الأندلسي أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد 1126م / 520 ه - 1198 م / 595 ه الذي ذاعت شهرته في الغرب اللاتيني منذ القرون الوسطى حتى يومنا هذا بشكل لم يماثله فيه أحد من فلاسفة العرب الآخرين، على أهمية ما أتوا به من انجازات للفكر الفلسفي عظيمة. فبدءاً بفلسفة القديس توما الأكويني وأتباعه، ومروراً بفلاسفة عصر النهضة وزمن التنوير، وحتى الزوبعة الرشدية التي أطلقها البحاثة الفرنسي أرنست رينان، وامتداداً الى يومنا الحاضر يمكننا أن نلاحظ بصمات فيلسوفنا في معظم الآثار الفلسفية الأوروبية المهمة، وأخص منها تلك التي تتعاطى النظر الميتافيزيائي، وتبحث في الدين، وتطرح النظريات السياسية. وقد أصبحت الرشدية مذهباً متعدِّد الأوجه عميق الأثر، ربما رد البحث التاريخي بعض عناصره الى ما قبل ابن رشد، ولكنه يُجمع على نسبته جوهراً إليه، إذ أن عناصر بنيته الفكرية متوفِّرة في آثار فيلسوف قرطبة التي تركها أما شرحاً لأعمال أرسطو، أو دفاعاً عن الفلسفة ورسماً لعلاقتها بالشرع الديني. 1 - تلخيص ابن رشد لكتاب السياسة لأفلاطون وبمناسبة مرور الذكرى المئوية الثامنة لوفاة ابن رشد - صدر تلخيص ابن رشد لكتاب السياسة لأفلاطون باللغة العربية. وهذا الأثر الرشدي يعد أصله العربي - وحاله في ذلك كحال الجزء الأكبر من المتن الرشدي العربي - حتى الآن مفقوداً. ولا نعلم عنه إلا أنه كان موجوداً في مكتبة الاسكوريال قبل احتراقها في حدود العام 1650 م. وقد وصلتنا ترجمة عبرية للتلخيص أنجزها صموئيل بن يهوذا من مرسيليا في العام 1320 م، وتوجد منها ثماني مخطوطات متباينة الجودة، وتلخيص عبري ليوسف كاسبي من العام 1331 م. وثمة ترجمتان لاتينيتان للنص العبري. الأولى قام بها إيليا دِلْ مديغو في عام 1491 م، والثانية تعود الى الطبيب اليهودي الطرطوشي يعقوب مانتينيوس، أهداها الى البابا بولس الثالث عام 1539 م. وقد طبعت في البندقية عام 1550 م وأعيد طبعها عام 1562 م. 2 - قيمة الكتاب وصعوبته والكتاب فريد من نوعه لأسباب عدة، نذكرها هنا باختصار. فهو، أولاً، الكتاب السياسي الوحيد الذي تركه ابن رشد، ولذا فهو المرجع الوحيد لدراسة أفكاره السياسية. وهو، ثانياً، التلخيص الرشدي اليتيم لعمل أفلاطوني. فالشارح الذي اقترن اسمه بإسم أرسطو لم يشرح أو يلخّص أي أثر أفلاطوني ما عدا كتاب السياسة. وهو يُصرح بأنه إنما فعل ذلك لأن كتاب السياسة لأرسطو لم يكن في متناول يديه. والسبب الثالث لفرادة هذا الأثر هو أنه يجمع بين الفكر السياسي النظري والنقد الصريح للمارسة السياسية عند العرب وخاصة في الأندلس، ويعطي الفلسفة السياسية بذلك بعداً واقعياً، افتقرت اليه لدى الفارابي، الذي يذكر ابن رشد اسمه في هذا الكتاب مراراً. أما السبب الرابع فهو أن ابن رشد يجمع هنا بين فلسفة أفلاطون وفكر أرسطو ومفاهيم الإسلام وتعليم الفارابي، فيُخرج خلاصة قيّمة للفكر الفلسفي الإسلامي الوسيط، الذي لم يكن على ما كان عليه، لولا غذاء الفكر اليوناني. وبقدر ما أن التلخيص مهم لمن يدرس فلسفة ابن رشد السياسية، وأنه فريد في المتن الرشدي، فهو عسير الفهم مليء بالتعقيدات. فضياع الأصل العربي من جهة، والتشويش في المضمون الذي طرأ على الترجمة العبرية1، من جهة أخرى، أدخلا على النص الرشدي، بلا شك، تغييرات بالغة. أضف الى ذلك الالتباسات الكثيرة اللاحقة بمخطوطات ذلك العصر وما يزاد من ملاحظات هامشية وتعليقات للمترجم والناسخ والقارىء ومالك المخطوطة، ممّا يُعمق الشرخ بين الأصل والمنسوخ. وقد أجمع دارسو النص ومترجموه الحديثون على أن الرحلة الأوديسية التي قام بها تركت فيه آثاراً بالغة من الغموض والركاكة والتحريف. وهذا ما دفع بروزنتال الى أن يشير الى الأماكن الغامضة أو غير المفهومة فيه بعلامات استفهام، تدل على حيرة الباحث إزاء ما يقرأه ويترجمه، وعدم مقدرته على استيضاح قصد ابن رشد. ويذهب لرنر في مطلع مقدمته الى الاعتراف بأن ما يضعه في يدي القارىء ليس إلاّ قريباً شيئاً ما مما كتبه ابن رشد قرابة انتهاء القرن الثاني عشر في قرطبة 3 - الترجمة العربية الترجمة العربية الحديثة العهد قام بها حسن مجيد العبيدي وفاطمة كاظم الذهبي ونشرتها دار الطليعة في بيروت. يضم الكتاب، الى جانب تقديم العبيدي، ترجمة لمقدمة ارفن روزنتال - أُسقطت منها المقاطع التي تناول فيها روزنتال تفصيل الصعوبات التي واجهته في تحقيق وترجمة نص ابن رشد ووصف المخطوطات التي اعتمدها - وترجمة لمقدمة رالف لرنر على شيء من الاختصار. وتحتل ترجمة تلخيص السياسة لأفلاطون القسم الأكبر من الكتاب، مزوّدة بالحواشي ومذيَّلة بمسرد يضم الى جانب المعاني العربية المصطلحات الإنكليزية التي أدرجها لرنر في نهاية ترجمته وقابلها بمعانيها العبرية والعربية. ونظراً لأهمية الأثر الذي يوضع حديثاً للمرة الأولى بين يدي القارىء العربي وقيمة النظريات الفلسفية السياسية التي ضمّنها إياه ابن رشد، سواء نقلاً عن أفلاطون أو تفاعلاً منه مع التاريخ السياسي الإسلامي والأندلسي، فإننا نود فيما يلي أن نعرض الكتاب الجديد ونتناوله بالتقييم الذي يستحقه والنقد العلمي المحض، مع تقديرنا الصادق لجهود المعرِّبين. يُعلن المعربان في تنبيه يسبقان الترجمة به أنهما نقلا نص ابن رشد من الإنكليزية الى العربية وأنهما اعتمدا في ذلك على الطبعة الثالثة من ترجمة روزنتال الصادرة عام 1969. ويُضيفان انهما قاما بمقارنة ترجمة روزنتال بترجمة لرنر التي نُشرت عام 1974. ثم يلحظان انهما لم يرجحا "ترجمة على ترجمة، إلا بقدر ما يسمح الأمر بتقديم نص لإبن رشد أقرب ما يكون الى الصحة" ص 61. مقولة المعربين تفيد أنهما عاملا الترجمتين الانكليزيتين بالتساوي في سياق نقلهما النص الى العربية. هذا رغم اعلانهما الصريح المُسبق أنهما يعتمدان على ترجمة روزنتال أساساً. ويتجاهل المعربان، كما يبدو، ما الأَولى بهما أخذه في الاعتبار، وهو أن كلاً من الترجمتين الإنكليزيتين تتبع غرضاً فلسفياً معاكساً للأخرى، كما سبق وأشرنا اليه في مطلع هذه الدراسة. في خضم المعمعة الفكرية التي يشكل تلخيص ابن رشد ل سياسة أفلاطون أحد أهم معالمها ومراجع المتورطين فيها، يضيع المعربّان تماماً. فهما لا يفقهان، كما يبدو، خلفية الترجمتين الموجودتين في متناولهما، ولا يأخذان موقفاً واضحاً منهما، رغم أنهما يختلفان في الغرض وبالتالي في استعمال المصطلح الفلسفي. أما زعم المعرِّبين بأنهما لم يرجحا ترجمة على ترجمة إلا بهدف "تقديم نص لابن رشد أقرب ما يكون الى الصحة" فيطرح السؤال الأساسي حول المعيار الذي يلجأ اليه المعربان لبلوغ غايتهما. ان جهل المعربين للغة العبرية - وفيها أقدم ترجمة وصلتنا لنص ابن رشد - وعدم معرفتهما للغة اللاتينية، يجعلهما متكلين تماماً على الترجمتين الإنكليزيتين - أو بالأحرى على ترجمة روزنتال أولاً، كما يظهر من تقسيم فقرات الكتاب وترقيمها - من دون أن يستطيعا تبرير ترجيحهما ترجمة على ترجمة. أمام جهل المعربين باللغتين اللتين نُقل اليهما النص قديماً وعدم استعمالهما الترجمتين الحديثتين الأخريين، الألمانية والإسبانية - ويبدو أن المعربين لا يعلمان بوجودهما إذ لا يُشيران اليهما لا من قريب ولا من بعيد - تسقط امكانية الرجوع الى الترجمات العديدة المتوافرة ومراعاتها في تعريب النص. وهذا ضروري وبالغ الأهمية: فاللغة العبرية - رغم ما أُشير اليه من أخطاء في النسخ والترجمة - أقرب مما هي الإنكليزية عليه الى العربية، وكلاهما لغتان ساميتان. وكان الأجدر أن يتم التعريب من العبرية لا من سواها، لتقارب المصطلحات وتركيب العبارة المتشابه. هنا اسمح لنفسي في هذا السياق بالإشارة الى أن ابن رشد الذي قال في كتاب فصل المقال طبعة الدكتور البير نصري نادر، بيروت 1995، ص 35، من موقع فكري إسلامي محض، ان "الحق لا يُضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له"، استطاع كمن سبقه من فلاسفة الإسلام البارزين، أن يقبل الأفكار الفلسفية اليونانية التي نقلها الى المسلمين النصارى، المعرِّبون والمعلمون، انطلاقاً من اعتقاده - وهذا الاعتقاد لا يناقض روح الإسلام كما يعبِّر عنه القرآن والحديث - ان الحق واحد ولكنه يتجلّى في طرق مختلفة، وأزمنة مختلفة، ومستويات فكرية مختلفة. هذا الحق الذي أتى به الوحي في القرآن - بحسب إيمان المسلم - هو الحق نفسه الذي تحمله الكتب السماوية الأخرى. والمؤمن بوحدانية الحق لا يسعه ان يرفض السعي الفلسفي الى الحق، حتى ولو قام به الوثنيون الاغريق، بل يقبله ويشارك فيه، وهو مؤمن بأن هذا السعي يهدف الى بلوغ حقيقة ما أتت به الشريعة، وأن هدفه - الحق - هو عينه نقطة انطلاق الوحي في التاريخ. ولذلك اعتقد ابن رشد ان النظر الفلسفي والشريعة لا يتعارضان أصلاً، إنما يوافق أحدهما الآخر في الحق الذي هو مصدر الشريعة ومنتهى السعي الفلسفي في آنٍ معاً. الحق، إذن، هو نقطة البدء والنهاية للشريعة وللفلسفة. والاختلاف في العوارض ومستوى عقول البشر. من هذا المنطلق استطاع ابن رشد - وقبله الفارابي وابن سينا - أن يتلقف الخطاب الفلسفي اليوناني من دون أن يكفر بإسلامه. فهو كسابقيه يؤمن بوحدانية الحق وشموليته وغزارة ظواهره. وهم لا يُكفِّرهم إلا الذين يقزِّمون الحق ويحجمونه الى مقدار عقولهم الصغيرة. هذا الاستطراد أوجبه التساؤل غير المحسوم حول كيفية جمع ابن رشد لأفلاطون والإسلام، والذي تظهر حدته في التعامل الحديث مع النص الرشدي، موضوع بحثنا. والمعرِّبان يهملان وللأسف هذا التساؤل النظري والتاريخي المهم وينطلقان من مسلِّمات شبه ايديولوجية، تبرز إسلام ابن رشد لا شك فيه، متجاهلة طروحات لرنر المرجِّحة كفة الفلسفة على كفة الإسلام في فكر ابن رشد، ومتجاهلة أيضاً ما يصرّح به ابن رشد نفسه في آخر تلخيصه بأن الأقوال الخطابية والجدلية التي تفسِّر خلود النفس لا قيمة لها، ولا تُبنى عليها الفضائل الحقيقية، رغم ان "العديد من الذين يتمسكون بالسنن والشرائع الدينية تنقصهم... هذه الحكايات" ص 231. وثمة في هذا الكتاب وغيره العديد من أقوال رشدية مماثلة، مما يبرِّر التساؤل حول كيفية جمعه بين الفلسفة والإسلام، وحول صحة إيمانه. ويعترف المعرِّبان بالصعوبات التي واجهتهما في قراءة الترجمة الإنكليزية. والصعوبات جليلة بحقٍ ولا يمكن إنكارها. وقد وضع روزنتال، كما قلنا، علامات استفهام لدى الأماكن الغامضة. وكِلا المترجمين الى الإنكليزية استعملا المعقفات ][ للدلالة على ما أُضطرا الى زيادته لإكمال المعنى، حيث صعُبت قراءة المخطوطة أو حُذفت كلمات، مما جعل العبارات مبهمة مستغلقة على الفهم. أما الترجمة العربية فتفتقر الى كل ذلك، وكأن المعربين نجحا في كشف مضامين النص وأزالة كل غموض يشوبه، عكس ما يُصرحان به. فلماذا هذا الاستهتار العلمي؟ ولماذا يُمنع القارىء العربي من الإطلاع على مقدار الغموض، ويُوهَم بأن النص بجملته خالٍ من التشويش والاضطراب، وان مَن ترجمه الى الإنكليزية لم يلجأ الى الزيادة و"الترقيع" حيث لزم الأمر؟ والأسوأ من ذلك ان الصعوبات التي يُقر المعرِّبان انها واجهتهما في قراءة الترجمة الإنكليزية كانت، كما يبدو، أعمق ممّا يُسمح به لمترجم، فهي أدت الى سوء فهم النص الإنكليزي المعتمد عليه، في أكثر من موقع. ولا يسعنا الإشارة الى كل الجمل والعبارات التي عُرِّبت خطأً، وقلما خلت صفحة منها، ممّا يبعث الحزن الشديد في نفس القارىء العربي الذي سبق له ان اطّلع على الترجمات الأخرى عن كثب. ولكننا نكتفي بتقديم النماذج التالية: 1 - عُرِّبَ المقطع التالي كما يلي "اذن، اصبح من البّين له أن هذه المدينة يجب أن لا تستعمل الذهب أو الفضة. وإن ساوره الشك في ما يخص الحرب مع المدن المجاورة التي تريد المال والقوة منا، فقد أكد أفلاطون بالقول انه من المحتمل بل ومن المستبعد شنّ الحرب ضد هذه المدن الخارجية. لكنه عندما بحث المسألة أصبح لديه اقتناع بأن الأمر يكون على خلاف ما اعتقده تماماً، أي أن المال وكثرته يجعل مالكيه مكتفين به، ويجعلهم يهملون فن ومهارة الحرب". ص 109 و. والمقطع يرد في ترجمة روزنتال ص 149، وترجمة لرنر ص 42 وترجمة لاور ص 60، ويفيد في العربية ما معناه: "إذ أصبح بيّناً لديه ان هذه المدينة يجب ألاّ تستعمل الذهب أو الفضة، ساوره الشك في ما يخص محاربة مدن أخرى، أهلها ذوو غنىً وقوة ]لرنر ولاور: حاكمها ذو غنى وقوة[. وهو يقول، إنه من المحتمل أن تكون ]هذه المدينة[ أضعف من أن تشن الحرب على مدن كهذه. ولكنه عندما بحث المسألة تبيّن له أن الأمر على عكس ذلك. فالغنى وكثرة الممتلكات تسبب البَطَر، وتجعل أصحابها يهملون علم الحرب وممارسته"2. نرى مما تقدم ان ابن رشد لم يقصد الإشارة الى أن المدن الأخرى المجاورة تبغي انتزاع ثروة المدينة الفاضلة، التي تستعمل ذلك ذريعة للبدء بالحرب. كما أننا لا نفهم ماذا يقصد المعربان بالقول "انه من المحتمل بل ومن المستبعد شن الحرب ضد هذه المدن الخارجية". والمعنى واضح كما بيّنا أعلاه، وتٌجمع عليه الترجمات الثلاث التي أشرنا اليها. أخيراً ينقل المعربان تعبير روزنتال "self-satisfied" بالحرفية "مكتفين به" متجاهلين الملاحظة التي يوردها روزنتال في أسفل الصفحة بأن المقصود حرفياً ما يترجمه الى الإنكليزية في الحاشية ب"cause kicking". وهذا ما يعني في العربية "تُسبِّب البطر". ولكن يبدو أن نظر المعربين أقصر من أن يريا الملاحظة ويعيدا العبارة الى ما كانت عليه في الأصل العربي، ويفيا بذلك المعنى حقه. 2 - مَثل آخر على تحريف الترجمة ما يرد على الصفحة 143، الحاشية رقم 1، وهي ترجمة لحاشية مستفيضة في طبعة روزنتال الثالثة ص 272. ولطول الحاشية نستغني عن إثبات محتواها الكامل ونكتفي بالإشارة الى النقاط التالية: - السؤال في الفقرة المعنية موجَّه الى سقراط ولا يأتي على لسانه كما يترجم المعرِّبان خطأً. - يشير روزنتال الى ما قاله الفارابي في كتاب تحصيل السعادة طبعة حيدر اباد، ص 45، سطر 5 وو عن حاجة "الفيلسوف بالحقيقة" - وليس "الفيلسوف الحق" كما يورد المعربان، وهما يخالفان بذلك التعبير الفارابي الذي يستشهدان به، وتعبير ابن رشد أيضاً الذي ذكر "الحكماء الحقيقيين" - الى "الاعتقادات الدينية". أما المعرِّبان فيجعلان حاجته "للإيمان الديني"، القوي ضاربين عرض الحائط بقول الفارابي وبترجمة روزنتال على حدٍّ سواء. ويتكرر الخطأ بحق الفارابي وروزنتال، حين يزعم المعربان "ان الفيلسوف هو الرئيس الأول وواضع النواميس والأحكام"، فيما المقصود والواضح في نص الفارابي ونقل روزنتال هو مساواة "الفيلسوف والرئيس الأول وواضع النواميس والإمام". - أما قول المعربين "وما من شك في أن ابن رشد كان يعرض هنا الباع الطويل للفارابي، وهو الذي اعتمده أساساً للعلاقة بين الفلسفة والشريعة"، فخير دليل على سوء التعريب. إذ أن روزنتال يقول ما تعريبه: "ولا شك في ان ابن رشد عرف عرض exposition الفارابي المسهب، وهو أساسي لطرحه الخاص حول العلاقة الحيوية بين الفلسفة والشريعة". 3 - وها مثل آخر، وليس أخيراً للأسف، على سوء التعريب الذي يسبب غموض المعاني. ترد على الصفحة 193 الفقرة التالية: "وإذا كانت قوى النفس منفصلة بعضها عن بعض، فإن القوة الشهوية لا وجود لها بسبب تحكّم القوة العاقلة، كما يعتقد الكثير من الناس، وبها يكون الاجتماع الإنساني اجتماع الأحرار". المقطع نفسه يرد في ترجمة روزنتال ص 218 ولرنر ص 116، ويفيد ما معناه: "وإذا كانت قوى النفس منفصلة بعضها عن بعض، والقوى السفلى ليست موجودة لأجل ]خدمة[ الأرفع مرتبة - كما قد يظن الكثير من الناس - فإن الاجتماع الإنساني يكون عندئذ اجتماع الأحرار". ما أشرنا إليه من أخطاء في التعريب كان على سبيل المثال فقط. ولا تكاد تخلو صفحة من مثله. ومَن شاء كشف المزيد، ما عليه إلا مقابلة ترجمة روزنتال بالترجمة العربية. أما في تعريب المصطلحات فيرتكب المعربان أخطاء جسيمة أيضاً، نشير في هذا السياق الى بعض منها فقط: 1 - ينقل المعرِّبان كلمة "ناموس" وجمعها "نواميس" بكلمة "دستور" وجمعها "دساتير". روزنتال يستعمل دائماً تعبير general law/laws، فيما ان لرنر يحتفظ بلفظة nomos اليونانية وجمعها nomoi. أما المعرِّبان فيأتيان بلفظ "دستور" وجمعه "دساتير"، الذي لم يكن على الأرجح ليخطر ببال ابن رشد. إذ أن الاستعمال الشائع لدى فلاسفة الإسلام الوسيطين كان للألفاظ: "شرائع، نواميس، سنن". فلماذا دساتير"؟ أما حجة المعربين لهذا الاستحداث المستقبح وتحاشي استعمال كلمة "نواميس" - التي نجدها بكثرة لدى الفارابي وابن سينا - بأن "النواميس تأخذ طابعاً إلهياً" ص 114، الحاشية 7 وان "لفظة ناموس تدل على معنى رسالي سماوي، أما لفظة دستور فتعني قانوناً وضعياً يضعه الملك أو الرئيس لقيادة الدولة" ص 137، الحاشية 3، فليست مقنعة إطلاقاً. فلمحة واحدة على آثار الفارابي وابن سينا تكفي للملاحظة أن هذين الفيلسوفين يستعملان لفظة "ناموس" وجمعها في سياقات مماثلة لسياق ابن رشد الراهن. والحقيقة، ان لفظة "ناموس" تحمل أحياناً - وليس قطعاً كما يزعم المعرِّبان - صفة سماوية، هي بالذات النقطة الفلسفية التي لم يحسم النقاش الدائر منذ زمن حولها، والذي يتمحور بشكل أساسي حول نظرة الفلاسفة المسلمين الوسيطين الى الشرع الديني وكيف يقيّمون علاقته بالفلسفة الأفلاطونية. ولا يسعنا في هذه العجالة التطرق الى هذه النقطة التي تتطلب دراسة واسعة. ولكننا نكتفي بالإشارة الى الاستعمال الفلسفي التقليدي لكلمة "ناموس" وجمعها، والى حدة السؤال الفلسفي الناتج عن ذلك. والتهرّب من استخدام هذه الكلمة الواسعة المدلول لا يحلّ المشكلة النظرية، إنما يشبه اخفاء النعامة رأسها في الرمال، متوهِّمة أنها بذلك تستطيع تفادي الخطر الزاحف اليها. 2 - ينقل المعرِّبان لفظة imitate روزنتال ص 216، لرنر ص 114 بلفظة "النزوع" ص 198 والمقصود هو مصطلح "المحاكاة" الذي يلعب دوراً مهماً في فلسفة الفارابي ومن تبعه من فلاسفة العرب. كذلك ليس من مبرِّر لاستبدال لفظة "الارشاد" بلفظة "الخدمة" ص 190، ممّا يسبّب تكراراً قبيحاً للفكرة الواحدة tautology ويشوّه قصد ابن رشد من القول الجميل أن السادة يخدمون أهل المدينة إذ يوجهونهم ويرشدونهم. 3 - ثمة نوعٌ آخر من الأخطاء سبَّبه جهل المعرِّبين باللغتين اليونانية والألمانية، التي يستشهد روزنتال بكتب ظهرت فيها. فإذا محاورة أفلاطون Politikos رجل الدولة تظهر مرة "Politika" ص 77، حاشية 1 ومرة أخرى "Politiks" ص 154، حاشية 3. وإذا عنوان كتاب المستشرق الألماني برغشتراسر، الذي يذكره روزنتال بالألمانية، وترجمته "حنين بن إسحاق وترجمات جالينوس السريانية والعربية"، ينقله المعرِّبان كذا: "حنين بن إسحاق والنقول من السريانية الى العربية لمؤلفات جالينوس" ص 41، حاشية 4 وص 66، حاشية 6 وكتاب البحّاثة الكبير موريتس شتاينشنايدر "الترجمات العبرية في العصور الوسطى" يصير "الأعمال العبرية". من الناحية الفنية يحفل الكتاب الى جانب الأخطاء الكثيرة الحاصلة في التعريب بالأخطاء المطبعية. وهي لا تخفى على القارىء البصير. ويعاني الكتاب من نواقص تقلل من قيمته لدى الدارس والباحث، رغم أهمية الأثر الذي يحمله بين دفتيه. فالمعربان لا يزودانه بمسارد المراجع والمصادر المذكورة في المقدمات المستفيضة، رغم أهميتها العلمية، ويهملان ذكر تواريخ صدور الدراسات حول ابن رشد التي تناقَش في مقدمة المعرِّب، ولا يوردان أي ثبت بأهم المصطلحات وأسماء الاعلام مع الإشارة الى أرقام الصفحات حيث ترد، رغم ان كل ذلك متوفر في الطبعتين الإنكليزيتين، وهو يسهِّل الاستفادة العلمية من الكتاب. وتجدر الإشارة الى أن المسرد المنقول عن لرنر "لما له من أهمية" لا يخلو هو أيضاً من أخطاء في النقل. فمثلاً تعرَّب لفظة Primacy ب"رؤساء" وهي - أيضاً لدى لرنر - تعني "رئاسة"، ولفظة Self-control ب"ثابت النفس" ولرنر يقابلها ب"ضَبْط النفس"، Love ب"احباب، محبة" وهي تعني بحسب لرنر "محبة"، وتُنقَل ترجمة التعبير "Pretenders to philosophy"، الذي يذكر لرنر خطأ أن نظيره العربي هو لفظة "تَفَلْسُف"، كما هي، بدون أن يلتفت المعرِّبان الى تصحيح معنى التعبير الذي يعني "المُتفلسفِين". والملاحظ أخيراً أن كتابة بعض الكلمات والمقاطع بالخط الثخين أمر يحيّر القارىء، الذي لا يدري لماذا هذا التشديد، الذي لا يرد في أي من الترجمات الأخرى، ولم يمهَّد له المعرِّبان بأية إشارة. وقد سبق لنا أن أشرنا الى خلو النص الرشدي المعرَّب من كل الإشارات التي تحفل بها ترجمتا روزنتال ولرنر، والتي تدل على الأماكن المشوشة في المخطوطات، وتحدد الزيادات التي اضطر اليها المترجم لإكمال المعنى. وهذا النقص الفادح لا يؤدي لا الى انخداع القارىء، الذي لا يسعه اكتشاف الأماكن المشوَّشة فيظن أنه يحصل على نص عربي، نُقِل كاملاً. 4 - الخلاصة لم يكن القصد من هذه المراجعة انكار الجهد الذي بذله المعرِّبان لاعادة نص ابن رشد الضائع الى لغته الأم، ولا ابراز نواقص تعريبهما فقط. فمن الجدير ذكره انهما أحسنا بإيرادهما في الحواشي المقاطع من محاورة الجمهورية لأفلاطون التي تناولها ابن رشد بالتخليص. كما أنهما أحسنا، بلا شك، بالرجوع الى نص كتاب الأخلاق لأرسطو، الذي سبق لعبدالرحمن بدوي أن حقَّق ترجمة حنين بن إسحق له. وابن رشد يعتبر الأخلاق الجزء الأول من العلم العملي الذي يكمل ب السياسة. ولكن لم يكن بدٌّ من تقييم جدِّي لهذا العمل الذي ارتُقب طويلاً، والأثر الرشدي منذ زمن محطّ ترجمة ودراسة في الأوساط الأكاديمية الأوروبية والأميركية. وقيمة هذا الأثر لا تكمن أبداً في ما إذا كانت له علاقة مباشرة بنكبة ابن رشد. إذ أن القيمة الموضوعية لأي أثر فكري لا يمسُّها، جوهرياً، ما إذا كان قد سبّب لمؤلفه اضطهاداً. فنكبة المفكر ليست الدليل الأهم على عظمة فكره. ولكنها حتماً الدليل القاطع على انحطاط الفكر وانتشار الغباء في المجتمع الذي يعيش فيه المفكِّر ويكتب. ربما كانت القيمة الأساسية للعمل الذي وضع حديثاً بين أيدينا هي أنه قد يوقد التوق في نفوس البعض، ويشدِّد العزم على انجاز تعريب آخر جيّد لهذا الأثر الرشدي الثمين، الذي يحظى في الغرب باهتمام الأوساط العلمية المتخصصة منذ نصف قرن ونيف، ويُنقل الى لغات مختلفة، ولم يلتفت اليه العرب إلا أخيراً - وقد تكون اللفتة قد نجمت عن مبادرة فردية كريمة، للمناسبة الكريمة. صحيحٌ ان حصيلة المجهود الذي بُذل لم تأتِ على قدر المستوى المطلوب الذي يليق بأشهر فلاسفة العرب ويوازي التوق العلمي الى استكشاف اعماق فكره السياسي. والعلم لا تعزية له بالقول "إنما الأعمال بالنيات". ولكن الخيبة تقودنا الى طرح مسألة في منتهى الأهمية، هي مسألة العناية بالتراث العربي الضائع، الذي لا يحظى حتى الآن بأي اهتمام عربي رسمي. هناك الكثير من المخطوطات المدفونة في شتى مكتبات العالم، لآثار فكرية عربية ضائعة، تنتظر من يخرج بها الى النور. وثمة الكثير من الآثار التي اكتُشفت وتحتاج الى تحقيق ودراسة. صحيح أن بعضاً من هذا قد أُنجز بفضل بحّاثة يستحقون التقدير. ولكن معظمهم عمل في الغرب الأوروبي والأميركي بدعمٍ من مؤسسات علمية هناك. أما العرب فيخيم عليهم سبات أهل الكهف. فلا الجامعات في البلدان العربية تهتم بالتراث، ولا الحكومات العربية تغدق من عطفها على أحيائه، ولا جامعة الدول العربية - وهي الأولى بها أن ترعى عملية العناية بالتراث العربي الضخم المتعدد الجوانب - تقوم بشيء من ذلك. تراثنا القابع في ظلمات التاريخ حان أن تُسلط عليه أضواء البحث والتنقيب والدراسة. وحان لنا أن ندرك ان الماضي ليست قيمته الوحيدة أنه يحيا في الحاضر، بل هو أيضاً القاعدة الراسخة التي يمكن لصرح المستقبل أن يُبنى عليها. هكذا نشهد الأمم التي تفتقر الى ماضٍ عريق تنتسب فكرياً الى سواها من الأمم العريقة، وتحاول أن تصل جذورها بفروع تلك، لإنشاء بنيان حضاري خاص. والحضارات يربط بينها في التاريخ شيء مثل حبل السرّة، وهي يلد بعضها بعضاً، وتنشأ في أحضان سابقاتها، وتغتذي بخيراتها الفكرية. فلماذا يهمل العرب تراثاً عظيماً كتراثهم، كان له الفضل الكبير في نشوء الحضارة في أوروبا؟ ولماذا نستهتر بآثار قدمائنا العظام، وسوانا يسطو على القدماء ليستصنع له إرثاً؟ إن مسألة الاعتناء بالتراث ليست مسألة افتخار قوميّ فارغ - فشأن القوم ما هم عليه - إنما هي مسألة تأسيس المستقبل عينه. فالحضارة العربية الغنية بعناصرها الفكرية المتنوّعة، التي انسابت اليها من شتى الروافد الحضارية القديمة، تحمل من الغنى ما يجدر به أن يُبعث ويفعل لإطلاق ازدهار فكري، ما أمسّ حاجة العرب اليوم إليه. 1 انظر جريدة "الحياة"، 5 آذار مارس 1998، حيث عرض وليد نويهض تحت عنوان "تعليقات على ندوة تونس حول ابن رشد. كشف الغطاء عن أخطاء الترجمة من العربية الى العبرية" دراستين قدمهما كلٌ من عبدالقادر بن شهيدة وأحمد شحلان حول هذا الموضوع الخطير. 2 ما يرد بين المعقَّفات ][ في المقاطع التي عربها كاتب المقال هو اضافة منه لأجل مزيد من الإيضاح