حينما يقارن روبرت ردفورد نفسه بسينمائيّ هوليوود فانه كثيراً ما يردد: "لديهم محللون ولدي سندانس" ولا يرد بأي ايضاح مكتفياً بما تتولاه العبارة ذاتها. لردفورد، الممثل والمخرج الذي يطل من الماضي على شاشة الحاضر مرة كل ثلاث او اربع سنوات والذي تعرض الصالات الاوروبية له هذه الايام "هامس الحصان" من دون ذخيرة نقدية حارة، مرتع للمخرجين الشبان على شكل مدرسة سينمائية ومكان لتحقيق افلام تجريب مختلفة. تأتي تدفع رسوماً. تحمل كاميرا. تصور. تحمّض. تولِّف ثم تعرض. تتعلم. لا تتعلم، تعمل، لا تعمل. لا شروط هناك دخول ولا شهادة تخرج بل خبرة تكتسبها اذا ما كنت مخلصاً لما تحلم به وموهوباً. الى جانب ما يمكن وصفه بالكلية السينمائية الواقعة خارج مدينة بارك سيتي في ولاية يوتاه، أسس روبرت ردفورد، قبل خمسة عشر عاماً، مهرجاناً خاصاً للسينما المستقلة. السينما التي عادة ما تنطلق بمجهودات فردية بعيداً من شركات هوليوود وبل عن هوليوود كلها في أحيان كثيرة التي تتراوح ميزانية الواحد منها ما بين نصف مليون وخمسة ملايين. والمبلغ الاخير يعني ان الفيلم مزخرف ببعض الكماليات: نجم معروف تنازل عن أجره المادي أو عناصر انتاجية على شيء من البذخ وتصوير بالالوان. هذا المهرجان أريد له ان يكون لهامش عريض من السينمائيين الذين يبحثون عن موزعين لافلامهم.. هؤلاء يأتون الى هنا. يعرضون افلامهم ويقطفون ردات الفعل المختلفة، بعضهم قد يحالفه الحظ فيكون جويل كويت الثاني او كوينتين تارانتينو الثالث، أو اي من هؤلاء الذين انطلقوا من هنا ثم اختطفتهم هوليوود بعد اعمالهم الاولى ليحققوا لحسابها افلامهم اللاحقة. حكايات كثيرة هنا تلتقي مخرجاً استدان من صديقته 500 الف دولار ليحقق فيلمه الاول. ومنتجاً رهن بيت والديه وسيارته ليموّل عملاً جديداً. وغير بعيد عنه سينمائي استدان تذكرة السفر الى هذا المهرجان. سينمائية، تؤكد انها باعت سيارتها على الطريق ما بين طوسون، وولاية أريزونا المجاورة الى بارك سيتي لحاجتها للمال. كيف وصلت؟ ترد على السائل: "بقية الطريق قطعتها بالركوب مجاناً واستغرقت احدى عشر سيارة وخمسة ايام". لكن "سندانس" ليس مهرجاناً للعرض فقط، بل للطلب ايضاً. المحظوظون من السينمائيين هم الذين يجدون هنا شركة تشتري افلامهم للتوزيع. المحظوظون اكثر هم الذين يجدون انفسهم معنيين بالعروض من دون ان يسعوا باحثين عن المشتري. والاكثر حظاً من الكل هو من يشتري موزع فيلمه العالمي ويتعاقد مع شركة انتاج على فيلم آخر كتبه. وكل شيء قابل للحدوث. قصص النجاح كثيرة وجميلة، ولو ان روبرت ردفورد يحذر دوما: "كثيراً ما يجد فيلم ما هالة تبتدعها المسافة أو تساعد في ايجادها ظروف ما، لكن هذا لا يعني انه فيلم جيد". ويقول متحدثاً للفيف من النقاد اذين جلسوا اليه في ثالث يوم من مهرجان حاشد "هذا الصباح استقبلت مخرجة شابة بدت يائسة اذ لم ترتبط بعد بعقد على الفيلم الذي عرضته هنا في اليوم الاول قلت لها ان ذلك يجب ان يكون طبيعياً. وان المرء، قبل وصوله الى هنا، يجب ألا يصدق الهالات والاخبار ويعتبرها المقياس. عادة ما تتغير النجاحات الفورية سريعاً، بينما تتصاعد النجاحات الدائمة ببطء". على قيمة ما يقوله، فان بعض السينمائيين المستقلين الذين يأتون الى هنا لا يمانع بنجاح فوري كالذي حدث بعد الليلة الأولى من المهرجان مع المخرجين ادواردو سانشيز ودانيال مايريك، فمباشرة بعد عرض فيلمهما الاول "مشروع بلير ويتش" احد ستة افلام تتبع تظاهرة باسم "منتصف الليل" خارج المسابقة، فحين عاد الرجلان الى فندقهما فوجئا بوجود شخصين من شركة أرتيسان انترتاينمنت وهي شركة توزيع مستقلة ليست في حجم نيولاين او ميراماكس أو اكتوبر أو فاين لاين كانت في دورة العام الماضي ابتاعت حقوق عمل جيد بعنوان PI وحققت به نجاحاً نسبياً جيداً. بعد ساعتين من المباحثات، امتدت من الساعة الثانية والربع ليلاً الى الساعة الرابعة فجراً، كان المخرجان وقعا على عقد بيع بمبلغ لم يفصح عنه ولكنه "يتجاوز المليون دولار ويقل عن المليونين"، كما أشيع هنا. في صبيحة اليوم التالي تصلت بهما شركات توزيع أكبر بينها ميرامكس، لكنها اتصلت متأخرة. احد المخرجين، لم يكن قد دفع بعد فاتورة الماء حينما استقل الطائرة الى هنا. وكلاهما لم يمسكا الكاميرا من قبل. والفيلم فيلم رعب يستند الى فكرة جيدة وسرد جيد وإن كان أشبه بقطعة فنية لم تجذب وتهذب بعد: قصة ثلاثة مخرجين توجهوا الى منطقة جبلية يقال انها مسكونة بروح شريرة منذ 200 سنة هناك انقطعت اخبارهم. بعد عام يجد فريق آخر الكاميرا التي كانت بحوزة الثلاثة وفيها الفيلم الذي تمّ تصويره لما حدث لهما. الافلام بالألوف عدد الافلام التي تقدمت لمهرجان سندنس في مناسبته الخامسة عشرة، يؤكد مدير برمجة المهرجان جيفري غيلمور، بلغ 84 فيلماً "اخترنا نها ستة عشر فيلماً في المسابقة و108 افلام خارج المسابقة. هناك 70 فيلماً تعرض عالمياً للمرة الاولى، وستة عشر تعرض في أميركا للمرة الأولى". ينكب متفحصاً ورقة مطبوعة وضعها بين طيتي دفتر ملاحظات ويضيف مكملاً: "وعدد الافلام القصيرة التي عبّرت عن رغبتها في الانضمام الى عروض المهرجان 1730 فيلماً". ويقول ان السبب واضح: "المهرجان بات ركيزة السينما المستقلة في العالم. تصلنا الافلام من كل مكان" ثم يصحح وهو ينظر الى محدثه نظرة تحمل في الوقت ذاته السؤال والجواب معاً "ما عدا العالم العربي". ويضيف "اختلافنا عن اي مهرجان آخر في أميركا أو في الخارج هو اهتمامنا بالسينمائيين الذين لديهم اعمالاً تستحق العرض ولم تجد بعد من يوزعها. وبعض المخرجين معروفون ومعظمهم جدد لم نسمع بهم من قبل. لكنهم جميعاً يشتركون في انهم يحققون افلامهم بمنأى عن شركات الافلام الكبيرة حتى ولو انتهت بعد ذلك الى تلك الشركات". أخرج من مكتبه الى لذعات البرد الآتية من سفوح الجبال المغطاة بالثلج. بعد ظهر اليوم ذاته أجلس مع مسؤول في مهرجان صغير منافس يقام في ذات الوقت وفي ذات المكان باسم "سلمدانس" وأتبلغ ان عدد الافلام التي تقدمت الى هذا المهرجان في دورته الخامسة يصل الى 1716 فيلماً. طبعا الرقم لا يزال خرافياً. لكن حتى ولو ان الكثير من الافلام التي رفضها سندانس، توجهت الى "سلامرانس" فان الرقم لا يزال كبيراً جداً. لكن الافلام كثيرة حتى في حدود ما تمّ اختياره، وهي ليست أميركية فقط بحسب هذه المراجعة لبعض الافلام التي شاهده الناقد في الايام الثلاثة الاولى. "أركضي لولا أركضي" هذا فيلم ألماني لمخرج جديد اسمه توم تايكور يتحدث عن امرأة شابة اسمها لولا وهي تركض في نصف مشاهد الفيلم. ليس لانها رياضية بل تبعاً لسيناريو ينص على حادثة واحدة مؤكدة ثم ثلاثة احتمالات مختلفة. الحادثة هي ان صديقها باع مخدرات لحساب عصابة وقبض ثمنها 100 الف مارك وضعها في كيس واستقل "المترو" لانه لا يملك مالاً ثم، في لحظة غفلة، نسي الكيس في المترو عندما تركه. مشرد كان يجلس لجانبه وجد المل. خرج به. يتصل الشب بصديقته، وهي ابنة رئيس مصرف، هاتفياً ويخبرها ما حدث معه معبراً عن خوفه مما قد يقع له. وهو يهدد بانه اذا لم تجد له حلاً في عشرين دقيقة فانه سيسرق محلاً كبيراً مجاوراً. امام لولا عشرون دقيقة. تنطلق للعمل. الاحتمال الاول هو انها هرعت الى أبيها الذي كان يجتمع في مكتبه مع سكرتيرته التي تكاشفه بانها حبلى منه. الأب سعيد بالمفاجأة ويتصرف مع ابنته بلا مبالاة رافضاً مد يد المساعدة. تتركه لولا وتركض الى المكان الذي حدثها صديقها عنه. نجد انه دخل المحل وباشر سرقته تحت تهديد السلاح. تشاركه العملية. يخرجان ليجدا البوليس يحوط بهما وأحدهما يطلق النار فيقتلها. في الاحتمال الثاني نراها تركض الى المصرف حيث تشهد مشادة بين أبيها وبين عشيقته لكنها ازاء رفضه تسحب مسدس الحارس وتجبره على منحها 100 الف مارك من مال المصرف. تهرع خارجة من المصرف الى صديقها الذي يتعرض لحادثة سيارة ترديه قتيلاً حين وصولها. في الاحتمال الثالث نراه يلتقي بالمتشرد ويسترجع ماله بينما تدخل هي ناديا للقمار وتربح في ضربتي حظ المبلغ المطلوب. هذا هو أضعف الاحتمالات سينمائياً لكنه، مثل الاحتمالات الاخرى، مستخدم في توليفة قصصية جديدة وعلى ايقاع لا يهدأ. تايكور يستخدم الكثير من ألوان السينما حتى الكرتون لايصال جديده الشكلي. وكل احتمال مفتوح على عدد أصغر من المفارقات تتغير تبعاً للاحتمال الاكبر الذي تقع فيه. قط أسود قط أبيض" فيلم أمير كوستاريكا الذي تمّ عرضه في مهرجاني فانيسيا حيث نال جائزة أفضل مخرج وتورنتو من قبل هو ايضاً هنا ضمن الافلام الاجنبية الباحثة عن وزع محلي. القصة التي يتعامل معها كوستاريكا أول فيلم له منذ "تحت الارض" قبل خمسة اعوام هي من البيئة التي يعشقها والتي شهدت احداث فيلميه "زمن الغجر" و"تحت الارض". ومن يعتقد ان كوستاريكا ما عاد لديه ما يحكيه أو ان تلك البيئة، التي شهدت بضعة اعلام اخرى عنها حققها مخرجون مجريون ورومانيون وفرنسيون، باتت محسومة، فانه امام مفاجأة طيبة هنا. كوستاريكا لا يزال يكشف عن صور متلاحقة من الخيال الجانح والكوميديا السخرة التي لا تهدأ. ولا تزال حكاياته عن هؤلاء القوم غريبة وممتعة وصعبة التلخيص في آن واحد لانها ليست قصصاً تبدأ وتنتهي بحكاية، بل بقدر غزير من المواقف وعلى مستويات متعددة وتفاصيل كثيرة. هناك شقيقان مختلفان: في مكان من البلاد التي كان اسمها يوغوسلافيا لا يحدد المخرج الذي لا يزال يؤمن بان يوغوسلافيا واحدة وعليها ان تبقى كذلك واحد لديه إبن وسيم يريد تزويجه والآخر لديه ابنة بشعة يريد تزويجها ومن إبن عمها. وهذا الاب شرير، يدير عصابة من الاشرار الاغبياء ومدمن على الكوكايين ومستعد للقيام بأي خطيئة أو معصية. وهو الأقوى بين الشقيقين ويجبر أخا لاحقاً على الانضمام اليه وتزويج ابنه لابنته ويحتال عليه مسبباً في افلاسه. الاحداث من هنا ذات خطوط موزعة في كل اتجاه. في ليلة العرس يعود الجد الميت من موته، وتهرب العروس ويلتحق العريس بامرأة يبحث عنها ويتشاجر الجميع ويقع الشقي الشرير في حفرة مملوءة بالروث. فوضى شديدة من الاحداث والمفارقات منظمة ومدارة بعناية من قبل المخرج الذي لا يترك مناسبة الا ويمنح الوجه البشع مما يعرضه بعض الكوميديا وقليلاً من السحر الفانتازي والجمال. "هيتشكوك، سلزنيك ونهاية هوليوود" هذا التحقيق السينمائي يستفيد من سبع سنوات من العمل المشترك بين المخرج الرائع ألفرد هتشكوك والمنتج المعروف ديفيد سلزنيك "ذهب مع الريح"، انه فيلم تسجيلي من ايكل إستين عن تلك العلاقة العملية التي تظهر كم كان المنتج سلزنيك مستبداً وكم كان هيتشكوك ضحية على الرغم من قوة شكيمته وشهرته. بالنسبة لمن لم يعايش الفترة وقرأ عنها وعن لزنيك أو هيتشكوك على غير ما يشاهده هنا، يمكن اعتبار الفيلم بمثابة درس آخر مخالف للمعروف، وعملاً فردياً قد لا يكون اهلاً للثقة، الحقيقة تقع ين هذين الاعتبارين. الاثنان عملا معًاً على ثلاثة افلام هي ريكا" 1943، "لعنة" 1945 و"قضية بارادين" 1947 وهذا يعني ان هيتشكوك حقق ما بين كل عملين، اعمالاً اخرى خارج نطاق هذه الشراكة منها مثلاً "مخرب" 1942، "ظلّ من الشك" 1943 و"قارب الحياة" 1944. لكن بحسب الفيلم فان اسوأ ظروف العمل التي تعرّض اليها المخرج اللامع كانت في تلك الافلام الثلاثة التي انتجها سلزنيك. والمخرج مستعد، بالمقابلة والصورة، لتقديم أدلته على ذلك مصحوبة ايضاً بالتعليق الذي يقوم به جين هاكمان