اذا توقفنا أمام ردود الفعل الأولى على بدء سنة "بيروت عاصمة ثقافية" لقلنا أن أصحاب هذه الردود، من مثقفين وكتاب، غير مبالين. وفي ذلك تعفف، أو اقتصاد في الحركة، أو انصراف عن مثل هذه المبادرات التي تبدو "هوائية"، أو "فارغة من محتواها"، أو "عديمة النفع"، على ما قالوا. وهي مواقف لم تجد ضرورة حتى لمناقشة بعض الأفكار والمشروعات التي تتهيأ بيروت لاستقبالها وتنظيمها في مدى السنة الجارية، وبدوا في هذه الحال يستبقون ويحكمون سلفاً على ما يمكن أن يحصل. اذا توقفنا أمام بعض الأسباب المعلنة لهذا التبرم لوجدنا أن غالبها يتعدى الأسباب اللصيقة بالسنة نفسها، ويتصل بتبرم آخر، هو عدم رضى أصحاب هذه المواقف عن حال الثقافة. وهو نقد متعدد الأوجه يتعدى حتى السياق الحالي للثقافة، ليطاول ثقافة بيروت "الزاهية" قبل الحرب، أو مبنى الثقافة في تكويناته الأساسية، وذلك منذ "عصر النهضة" واقعاً. كانت الفنانة نضال الأشقر أطلقت، عند تأسيس "مسرح المدينة" قبل سنوات معدودة، بل استقت من الكلام العامي لفظ "الهيصة" للدلالة على احتفال لبناني في مناسبة ما. إلا أنها لم تكرر استعمال هذا اللفظ في احتفالاتها اللاحقة، عدا أن عروضها المسرحية تضاءلت، بل كادت تنعدم في السنتين الأخيرتين في الوقت أعلن "مسرح بيروت"، المسرح الحديث الآخر قي بيروت، عن توقفه عن النشاط. ولا "هيصة" كذلك في الخطاب الذي يعاين به مثقفون وكتاب حال الثقافة، ذلك أن ما يشغلهم يتعدى المناسبة السنوية المذكورة. وفي ذلك إشارة الى أن المبادرات اللبنانية ما عادت تستثير "الهيصة" التي أدت، مع نضال الأشقر ورفاقها في ما مضى، الى نقل مسرحية "مجدلون" من المسرح الذي منع عرضها فيه الى مقهى "الهورس شو". وفي الابتعاد عن "الهيصة" طلب انكفاء، وطلب تنكب عن هذه الاحتفالية الاستعراضية، لنا أن نرمز اليها أيضاً بخفوت صوت "اتحاد الكتاب اللبنانين"، محلياً وخارجياً: من يسمع به، اليوم، حتى في لبنان! كما لو أن المثقف لا يجد في ما يفعله، في الموقع الذي يشغله، ما يدعوه الى عرض فتوته النرجسية، والى "نشرها" في استعراض قوة أكيد. ومهما قيل عن ابتعاد المثقف عن مثل هذه النشاطات الاستعراضية، "الفارغة"، "الهوائية"، فإن فيها كذلك استكانة الى ما جرى وما أدت اليه الحرب من تقوقع وتشظ وابتعاد وغرق في التفاصيل الداخلية و"تبشيع" لكل ما هو خارجي. المنظر مؤسف في هذه الحال، سواء في الخطاب أو في الواقع الذي يشير اليه. وهو منظر يقوم على تباين بين قوة الخطاب الثقافي وتشظي الواقع الثقافي، بين قوة النبرة الجازمة في الخطاب، وإن كانت متألمة أو ناقمة أو ناقدة، وفي تعثر الوقائع و"ثرثرتها". وفي المنظر أيضاً، أن المثقف يسعى الى الوصف بقدر ما يسعى الى "التموضع" فيه أيضاً، الى التعبير عن شكواه منه وفيه، ويبدو الخطاب فيه مشغولاً بقلق الموقع، وتهدد المكانة، وبما يصوغه، وبتأكيد سلطته أساساً. ذلك أن الخطاب ينطلق مما يقلقه خارجه، في مسعى نستشف منه قلقاً سياسياً بادياً، لا تتبعاً وفهماً للحال الثقافية في المقام الأول، في إشارة قد لا يقر بها المثقف أو الكاتب، وهو أن حال الثقافة "تدنت"، مثل حال الكتاب والمثقفين أساساً. أيعني هذا أن الكتاب والمثقفين يتحدثون عن مواقعهم هم في النطاق الثقافي قبل الحديث عن النطاق هذا؟ أيعني هذا أنهم يسعون الى "التموضع" في هذا النطاق، والتخلص مما يعلق بهم من تحديدات هذا النطاق؟ أيعني هذا أنهم يسعون الى "تصحيح"، أو "تطهير" ذواتهم من آثام الحرب المستمرة؟ أن المثقف يتماهى، لا بفعل الوعي وحسب بل بفعل مصلحته نفسه، مع ما يتحدث عنه، ويظن أن مسودة الكتابة هي مسودة المجتمع، وأن حدود النص هي حدود الأهل، في الوقت الذي يسعى فيه عملياً الى التميز والتمايز عن أقرانه في مجالاتهم، ولكن على أنه "الأصح" أو "الأنبه" تعييناً لقضايا المجتمع الذي يصدرون عنه. فتراهم لا يتوانون عن التحدث عن مواقعهم عند الحديث عن المجتمع، ويؤكدون بقوة الخطاب ما يتداعى في دورات المجتمع. انكفاء "الطليعية" وما لا يقوله، أو يكتمه، هذا الخطاب هو أن الموقع الذي كان ينطلق منه، ولا يزال - وهو موقع الحداثة خصوصاً في تعبيراته "الطليعية" - خسر الحرب في لبنان، بل هو خاسرها الأول، ومنذ سنتيها الأوليين، حين انعدم أو تقلص الاحتكام الى الصراع السياسي، ولو بأدوات عنفية، الى التموقع المذهبي، معطوفاً على تراجع الاحتكام الى القوى الداخلية وتمكن الأسباب الخارجية والإقليمية في القوى المحلية، أو ما تبقى منها "مقبولاً" وفاعلاً كذلك. وهو ما يمكن أن نرمز اليه بهزيمة كمال جنبلاط، قبل اغتياله، وقبل هزيمة غورباتشوف اللاحقة. مثل هذه التعبيرات "الطليعية" بات مبعداً، وغير ذي جدوى، إذ يتصدر غير أصحابها أجهزة الثقافة، وأدوار المستشارين ومدبجي الخطب والمقالات والبيانات، وإن بقي لهم بعض حضور ونفوذ في الصحف، لا يسعفه في غالب الأحيان سوى العلاقات "الأخوانية" و"الشللية". وهو حضور لا تكشف حدة صراخه إلا عن عزلته المتزايدة وفعاليته المتناقصة. ومع ذلك لا يعدم أصحاب هذه المواقع حراكاً، إذ يدفعون بقضايا وقضايا الى النقاش العمومي، ولكن من دون جدوى في غالب الأحيان، ومن دون "هيصة" بطبيعة الحال. هكذا يبدون أشبه باليتامى، منقطعين عن مناخ بيروت "الزاهية"، الماضية. وهم أكثر من ذلك، إذ يبدون غرباء عما يتكون أمام أنظارهم" ونقدهم العالي هو شكل مقاومتهم لانقلاب حالهم، وسيادة غيرهم، وتدني رتبتهم. هذا ما يشير الى أن التبرم هذا يصدر أساساً عن قلق "كياني" ويؤدي الى إقلاق وجودي ومهني كذلك: فالقلق يشير من طرف جلي الى انقباض المناخ السياسي العام على أهله، فلا يقوون حراكاً فيه، بل يخشون إن لم يتحققوا من تراجع مكانة المثقف فيه، وهو تراجع أجلى ما تكون صوره في تراجع أهل السياسة في البلد عن تدبير شؤونهم وعن صدور أفعال السياسة عن أنفسهم. والقلق الكياني يشير في هذه الحالة، الى قلق مزدوج: على كيانهم الوطني وعاى كيانهم الخصوصي كفئة متميزة ومتمايزة بين فئات المجتمع. وهو أيضاً قلق، لا على الدور وحده ومنه دور بيروت الثقافي، بل على مصدر الرزق نفسه بفعل تهدد القاعدة المعيشية لمهنة المثقف وأعماله. وهو ما يتأكد، إذن، في "تدني" رتب الثقافة ورواتبها، وما تتحقق صورته في مسلسل "سلسلة الرتب والرواتب" التي تحولت منذ سنوات الى الشغل الشاغل، بل الأساس، عند قطاعات واسعة من شرائح هؤلاء المثقفين، مثل أساتذة التعليم الثانوي الرسمي أو أساتذة "الجامعة اللبنانية"، والتي تعين مكانتهم في سلم المجتمع والأجور في آن …. "تخويض" المعاني وهذا التبرم يعود بعضه أيضاً الى خشية المثقفين عموماً من أي اهتمام رسمي وحكومي بالثقافة، ويجدد تبرماً آخر سبق لبعض المثقفين أن أظهره عند إنشاء "وزارة الثقافة" والتعليم العالي بعد اتفاق الطائف. ومثل هذه الخشية وتعني التربص كذلك من اتصال الثقافة بالدولة يشير الى مواقف ومواقع يسارية أو ليبرالية ناقدة لثقافة "القطاع العام" السارية في غالب البلدان العربية. كما يشير كذلك الى تقليد لبناني يقضي بأن تكون الثقافة وقاعدتها التعليم شأناً أهلياً، لا سلطانياً، على ما في الشأن الأهلي من جوانب طائفية ملتبسة ومتداخلة. أي أن التربص هذا يتحدث عن ممانعة قوى عدة في المجتمع من أجهزة الطوائف الى منتجي الثقافة ومسوقيها وصولاً الى صانعيها من الكتاب في أن تتنازل عن بعض ما تعتبره من "حقوقها" في إدارتها شؤون رعاياها، سواء في دنياهم، أو في آخرتهم، وفي اقتصادهم كما في ثقافتهم. ففي مواقف بعض المثقفين تمنع أكيد عن خضوعهم لمنطق الدولة، أي الوظيفة والارتهان في آن، وتمسك بممارسات مختلفة، فردية وخاصة، في إنشاء المؤسسة الثقافية وإدارتها، وهو الحاصل المتبقي منها حالياً في دور النشر والعرض والمسرح وغيرها، على رغم أن بعضها مهدد بالإقفال والتوقف. وهو ما يشير الى ضمور في حجم إنتاجها، عائد الى تراجعات التسويق الثقافي في البلدان العربية وهذا بعض "دور" بيروت الثقافي، والى تراجعاتها في السوق المحلية كذلك. ولا تعود "هشاشة" مواقع المثقفين الى طول تقلبهم، بين انغماس وانسحاب، بين السياسات والإيديولوجيات، وإنما أيضاً، واساساً الى خفة المواقع هذه في دورات الإنتاج اللبناني. فالثقافة لا تتوانى في لبنان عن البحث عن مصادر عيش لها، انطلاقاً منه، أو في خارجه، ولكن بالتعاون أو التعويل على خارجه ومع قوى فيه، بين قراء وأنظمة، لحسابات ومراهنات سياسية وإيديولوجية، ذات أساس تسويقي: فبيروت "تضيق" دوماً بصناعاتها الثقافية "الحديثة" منذ أن امتحنت الحداثة في صيغ المثاقفة، فما ربطتها بأسباب إنتاجية، محلية، تحديداً. وصحف بيروت ومطابعها ودور نشرها، مثل كفاءات كتابها ومترجميها وصحافييها وفنانيها، تخدم أهلها طبعاً إلا أنها أيضاً معرضة ومعروضة للهجرة والخدمة. واللافت في هذا المجال هو انحسار التعويل على قيام مؤسسات ثقافية محلية ذات رباطات "خارجية" خصوصاً عربية، فيما لا يتوانى البلد عن "تخريج" أعداد من مثقفيه الى لندن أو الكويت أو الإمارات، أو الى هذه الجامعة أو تلك. ولعلنا نجد في هذا التباين بين "ضيق" القاعدة المادية للثقافة الحديثة، وقلة ارتباطها بحداثة ذات طابع إنتاجي لا تعليمي و"ذهني" وحسب، ما يفسر التباين الظاهر في النصوص الأدبية بين معناها المحلي وتشوفها الى مبنى من خارجه غربي تخصيصاً، فلا يتحقق الانبثاق والتعايش الخلاق بينهما. وهو ما نتبينه في صورة لافتة ومفارقة منذ أن جرى تأسس ميدان حديث لتداول الثقافة الحديثة في بيروت، في النصف الثاني من القرن الماضي، فما أن شرعت في التأسيس حتى شرعت في "تخريج" دفعات متعلميها ومثقفيها وفنانيها الى خارجها: فأحمد فارس الشدياق وابراهيم اليازجي وجرجي زيدان والمئات من أمثالهم هاجروا، قبل جبران خليل جبران وخليل مطران، وقبل الحرب الأخيرة. والثقافة ليست أفضل حالاً مما هي عليه خارج شكوى المثقفين منها. ولو اكتفينا بالنظر الى أحد الكتب اللافتة في الأشهر الأخيرة، وهي دراسة اجتماعية-ثقافية لعدنان الأمين وعلي فاعور، لظهر لنا أن قاعدة الثقافة في لبنان، وهي التعليم، لا سيما العالي، واقعة في أزمة شديدة و"مستقبلية"، وهي في تراجع لن تخفف منه طبعاً لا "سنة" ثقافية ولا غيرها، ولا طروحات المثقفين، طالما أن اجتماع دورة لبنانية، دورة الأمل والاستثمار في "المعنى" من جديد، ومولدة أسباب العيش والنماء والتجدد، بعيدة من التداول وصعبة التحقق.