يتعقب الحزب الشيوعي الصيني الحاكم، منذ آب اغسطس 1998، ناشطي المعارضة الديموقراطية المعتدلة والجديدة، بواسطة محاكم قوية الشبه بالمحاكم الميدانية العسكرية. فقضى المجلس العدلي الوسيط، رقم واحد ببكين، في كزو وينلي، أحد مؤسسي الحزب الديموقراطي الصيني أنشىء في حزيران / يونيو من العام نفسه، بالسجن ثلاثة عشر عاماً. ولم تقتضِ إصدار مثل هذا الحكم المتشدد غير أربع ساعات. وقضت محكمة هانغزو، بمحافظة الشرق، في وانغ يوكاي، مؤسس الحزب نفسه، بالحبس أحد عشر عاماً في ختام محاكمة دامت وقائعها ثلاث ساعات. ولم يكن كين يونغمين، ثالث الثلاثة الذين نظرت المحاكم في أحوالهم في غضون الاسبوع الثالث من كانون الاول ديسمبر، أحسن حظاً من زميليه وصديقيه. فقضت محكمة شانغهاي في كين بالسجن أحد عشر عاماً كذلك في غضون ساعات قليلة. وانعقدت هذه المحاكم، اذا صحّ فيها الإسم، ببكين وهانغزو وشانغهاي، في جلسات مغلقة، وبعيداً من أعين المتطفلين. فلم يتح الا لزوجة كزو وينلي، ولمحاميه المعين، حضور المحاكمة. وبقيت وقائع المقاضاة، اتهاماً ودفاعاً، سرية. فلم يُعلم بالأحكام الا بعد بعض الوقت. وعُرف من زوجة كزو، السيدة هي كزينتوغ، أن زوجها احتج على تهمته ومحاكمته" وعرف منها اسم القاضي الذي نظر في الدعوى على زوجها. وسبقت محاكمات الثلاثة هؤلاء محاكمات أخرى، لم تكن أحكامها أقل قسوة وتعسفاً وتستراً، في كل المحافظاتالصينية حتى الفقيرة منها. فرمي زاو تشانغ كينغ في السجن غداة ترشحه الى الانتخابات البلدية، في محافظة شانغكسي البائسة، من تلقاء نفسه، ومن غير إجازة حزبية. وأوقف شينغ ليانغ كينغ، وهو نائب عام في الجهاز القضائي الصيني، في ولاية آنهوي في وسط البلاد، لا لعلة الا تلفظه بأقوال غير مستقيمة. وزُجّ بفانغ جو، الموظف السابق ورجل الاعمال الحالي، في السجن بتهمة نشره، خارج البلاد، مقالات تدعو الى نهضة صينية جديدة. وكانت السلطات الحزبية الصينية، وهي السلطة "الشرعية"، توسلت باثنين من المعارضين المعروفين، واي جينغ شنغ، عميد "الإنشقاق" الصيني وصوته الأوضح، والطالب وانغ دان، الى مفاوضة الكونغرس الأميركي على اجراءات تجارية وقانونية أميركية. فقايضت بنفيهما وإبطال حقوقهما المدنية حصول الصين على بعض المنافع، وذلك على مثال سوفياتي وبريجينيفي عريق. والحق ان موجة الأحكام والإدانات الجديدة، غداة اعلان بعض ناشطي الحقوق المدنية والديموقراطية إنشاءهم "حزباً" في الصيف المنصرم، تتناول العشرات من الناشطين المنتشرين في كل أنحاء البلاد، وتدين أنواعاً متفرقة من "الجنايات" السياسية والمدنية. والأمران، العدد وهو لا يقتصر على ناشطين قليلين تحاكمهم المحاكم بين الوقت والآخر، والقضايا وهي لا تختصر في "عداء الشيوعية"، يدلان دلالة واضحة على تغير المعارضة الصينية، وانتقال المعارضين من حال الى حال. فعلى خلاف واي جينغ شنغ، أحد وجوه معارضة 1976-1978 ملصقات جدران ساحة تيينانمين، وعلى الضد من مناهضته الحادة والجهورية الصوت للنظام الشيوعي واستبداده بالسلطة ومحاكاته الحداثة وقشرتها، ينزع معارضو اليوم الى نوع من المعارضة العملية والاجرائية والقانونية قد يكون بينها وبين المعارضة السابقة نسب، لكنه نسب بعيد. فمعارضو اليوم يتوجهون الى مشكلات جزئية وموضعية طرحتها مصاعب الحياة الاجتماعية والاقتصادية الجديدة على العاملين قبل ان يطرحها على الملأ متعلمون احترفوا، على هذا القدر أو ذاك، رفع الصوت والتنديد بالنظام كله، وبأركانه العقائدية والسياسية. فبعض من تلاحقهم السلطات، وقضاؤها الطيّع، اليوم، تلاحقه بجناية إنشاء حزب علني يطلب أصحابه الترخيص به، وبعضهم الثاني يلاحق بمحاولته إنشاء نواة نقابية غير النقابة الرسمية الصادرة عن السلطات، وبعضهم الثالث ترشح الى الانتخابات البلدية، وبعضهم الرابع دون في حاسوبه وبث على الشبكة أسماء ناشطين في المطالبة الحقوقية والديموقراطية المحلية... وتتعدد وجوه المعارضة بعدد المشكلات والمسائل الناجمة عن الإصلاح الإقتصادي الصيني، ودخول الصين، مجتمعاً ودولة، عن يد دينغ شياو هسياو بينغ، إطار العلاقات الإقتصادية الرأسمالية قبل عقدين تامين وناجزين كانون الاول 1978. وهذا، أي نشوء أشكال المعارضة الجديدة، جلي في مرآة المعارضين الجدد وسيرهم. فإذا استثني كزو وينلي، البالغ من العمر الخامسة والخمسين، تترجح سن الآخرين بين الخامسة والعشرين والخامسة والأربعين. فالمرشح التلقائي الى الانتخابات البلدية زاو تشانغ كينغ، في الثامنة والعشرين" ووانغ يوكاي، أحد الحزبيين الثلاثة، في الثانية والثلاثين" وكين يونغمين، في الرابعة والاربعين" والنائب العام شينغ ليانغ كينغ، في الخامسة الثلاثين، ورجل الاعمال والموظف السابق، فانغ جو، لم يبلغ الأربعين... وهم، على ما مرّ، من كل الولاياتالصينية، شرقها ووسطها وجنوبها" من شانغهاي الثرية والعامرة والمشرعة الأبواب والنوافذ على "رياح الغرب" على ما كان زعيم الحزب الشيوعي الصيني، ماو تسي دزي تونغ دونغ، يقول، الى شانغكسي الريفية والغامرة ومهد الحزب الحاكم. وبين المعارضين الجدد، أبناء الصين الآخذة ب"اقتصاد السوق الاشتراكية" على ما أراد دينغ، الموظف الصغير، والقاضي المبتدىء، ورجل الاعمال المتواضع، والمهندس المعلوماتي لين هاي، 30 عاماً، والصحافي المراسل. ويعارض المعارضون وينشطون من غير اقتصار عملهم وحياتهم ونشاطهم على المعارضة أو على "السياسة". فهم منصرفون، في الأثناء، الى حياة عادية لا تستغرقها المواقف المدوية. وقد تكون هذه الحال هي السبب في تواضع المعارضين الجدد، وفي بعدهم من العناوين والشعارات الإجمالية، ومن "الصليبية" الإيديولوجية. فإدانتهم ما يدينونه من وجوه الشيوعية الماوية، وأبرز هذه الوجوه استئثار الحزب بالسلطة وحجزه بين القوى الاجتماعية الجديدة وبين المشاركة في مناقشة القرارات والسياسات، إنما تأخذ صورة المطالبة الايجابية بالتعدد السياسي والنقابي والثقافي والفني، وصورة الإحتكام الى قوانين تراعي الوثائق الحقوقية التي وقعتها السلطات الصينية وأقرت بها في المحافل الدولية. وربما تماشي هذه الحال تبدد أطياف الثورات السياسية والاجتماعية، والإنقلابات على "الأنظمة"، في معظم الحركات التي خلفت انهيار الشيوعية من تشياباس المكسيكية الى التظاهرات الأندونيسية. ويلجأ المعارضون الصينيون الجدد الى طرق وأساليب في الإحتجاج والمطالبة لم تعهدها حركات الإنشقاق السابقة، الصينية وغير الصينية فهم يوقعون العرائض، ويلتقون في مجالس مناقشة ومطارحة، وينشرون البيانات المطبوعة أو المبثوثة على الشبكة، ويذيعون الاخبار والمعلومات المكتومة التي تكتمها السلطات بواسطة صحافة هامشية، ويقيمون المعارض الفنية، الموسيقية والتشكيلية، حيث تتوفر الفرص. ويتيح لهم "الإنترنت"، والصين من مستعمليه اضطراراً، الوصل بين المعارضة الداخلية وبين منقيي الخارج بعلاقات وثيقة، على نحو ما يتيح روابط قوية ومستمرة وراهنة بين معارضي الداخل في الصين الفسيحة والواسعة. فالدخول الصيني، ولو من باب الحزب الشيوعي واحتكاره السلطة، في السوق الرأسمالية وإنتاجها وسلعها، يؤدي الى تجديد تسلط الحزب الواحد وأعيانه على السلطة، من وجه، لكنه يؤدي من وجه آخر الى بث معارضة الإنفراد والتسلط في أرجاء المجتمع الناهض كله. ولعل ملازمة المعارضة المتواضعة والشائعة الوثبة الإقتصادية "العظيمة"، آن تظهر على هذه الوثبة علامات التأزّم، هي ما يقلق القيادة الشيوعية الصينية. وهذا وجه جديد من وجوه طور المعارضة الراهن. فليست معارضة اليوم رهن المنازعات داخل الصف الاول، من قيادات الحزب الشيوعي المستبدة بمقاليد الحكم، ولا هي تابعة لهذه المنازعات، على ما كانت عليه الحال في عهود ماوتسي تونغ "المئة زهرة" في 1957، ودينغ شياو بينغ 1976- 1978، وهو يانغ بانغ 1986، وزاو زيانغ 1989 وخاتمتها المأساوية في ساحة تيينانمين. وليس هناك من "يبعث" المعارضين اليوم على المعارضة، ويلوح لهم بحمايتهم، على ما كانت الحال. فعلى قول احد المراسلين الأوروبيين في الصين "دود الخل منه وفيه"، أي ان المعارضة، على نحو ما هي اليوم انتشاراً وتنوعاً ووسائل وتواضعاً، إنما هي نتاج الصين الجديدة والمولودة من عقدين من الإنخراط الاقتصادي في السوق العالمية. والى هذا عينه ذهب جيانغ زيمين، رأس السلطة الحزبية والادارية والعسكرية، عندما أوجب في 25 كانون الاول، "سحق كل العوامل التي قد تهدد الاستقرار" الاجتماعي، وسوَّغ الملاحقات والأحكام القضائية. ولكن هذه العوامل ناجمة عن سياسات الحزب الشيوعي: صرف موظفي القطاع العام المنتفخ، وزيادة البطالة، وارتفاع الإيجارات، وتعاظم التسليفات الرديئة، وانتشار الفساد، وشيوع الجريمة، وضعف دالة السلطة والقضاء. وفي مثل هذه الاحوال يلوح الحزب، شأن أمثاله، بالقمع، ويسند قمعه وتشدده الى القيم الوطنية والروح القومية، ويسوغهما بالمؤامرات الخارجية.