الكتاب: سكاكين ودبابات وصواريخ - ثورة إسرائيل الأمنية Knives, Tankes & Missiles, Israel's Security Revolution. المؤلفون: Eliot A. Cohen, Michael J. Eisenstadte, Andrew J. Bacevich. الناشر: The Weshington Institute for Near East Policy 1998. لا ينظر إلى الكتب من هذا النوع إلا من خلال الهيئة التي أصدرته، أي من "معهد واشنطن لدراسات سياسة الشرق الأدنى"، وهو مؤسسة أبحاث انشأها أنصار حزب الليكود الإسرائيلي من اليهود الأميركيين في النصف الثاني من الثمانينات، ورغم تعيين المجال الجيوبوليتيكي للاهتمام بأنه الشرق الأدنى، فإن قائمة الدراسات التي قام هذا المركز بالتخطيط لها وتمويلها ونشرها - أكثر من مئة إصدار - تدور حصراً حول ما يشغل إسرائيل. وقد أمدت هذه المؤسسة طاقم السياسة الخارجية الأميركية، وعلى مدى هذه الدورات الرئاسية الثلاث بعدد غير قليل من مخططيها ومنفذيها، منهم على سبيل المثال لورنس ايغلبرغر، ودنيس روس، وريتشارد هاس، كما ضمت إلى هيئة مستشاريها عدداً من الذين احتلوا مراكز بارزة في حكومات أميركية سابقة، منهم، وأيضاً على سبيل المثال، الكسندر هيغ وجين كيركباتريك وروبرت ماكفرلين وريتشارد بيرل وجورج شولتز. * * * عنوان الكتاب "سكاكين ودبابات وصواريخ" مأخوذ عن مجاز استخدمه شمعون بيريز لوصف التهديد الذي تتعرض له إسرائيل بعد نهاية الحرب الباردة، إذ كان بيريز يرى ان إسرائيل كانت تقليدياً مهيأة للتعامل مع خطر الأسلحة القتليدية الذي ترمز له الدبابة، وان هذا اعاقها عن التفكير في الخطر المستجد، الارهاب الذي يرمز له السكين، وخطر أسلحة الدمار الشامل التي يقوم الصاروخ علماً عليها. ويقول المؤلفون الثلاثة للكتاب ان غرضهم هو "فحص جهود إسرائيل للتعامل مع البيئة الجديدة للتهديد" والتي يلخصها مجاز بيريز، وكذلك جهودها لتلمس المتغيرات الأوسع في المجالات السياسية والتكنولوجية - العسكرية والاجتماعية. والمؤلفون الثلاثة يهود أميركيون لهم اختصاص وخبرة معتبرة في الشؤون العسكرية والاستراتيجية نظرياً وتطبيقياً. إليوت كوهن، استاذ الدراسات الاستراتيجية في جامعة جونز هوبكنز، وسبق أن عمل معلماً للاستراتيجية في كلية الحرب البحرية، كما عمل ضمن فريق تخطيط السياسة في مكتب وزير الدفاع. مايكل ايزنشتات، باحث متفرغ في المؤسسة التي صدرت عنها هذه الدراسة، له أعمال منشورة عن القوة العسكرية لكل من إيرانوالعراق، كما شارك في التقرير الشامل 6 مجلدات الذي أصدره سلاح الجو الأميركي عن حرب "عاصفة الصحراء"، وهو إلى ذلك ضابط احتياط في الجيش الأميركي، وقد خدم في تركياوالعراق ضمن عملية "توفير الراحة" أي "الملاذ الآمن" للأكراد في شمال العراق. أندرو باسيفتش، هو المدير التنفيذي لمعهد السياسة الخارجية في جامعة جونز هوبكنز، وقبل هذا خدم في الجيش الأميركي لمدة 23 عاماً، وله دراسة مميزة حول الدور الأميركي في تحقيق سلام بين سورية وإسرائيل. كما ترى الثلاثة مؤهلون تأهيلاً لا مطعن عليه لمعالجة موضوعهم، ومع ذلك ففي سياق هذا الكتاب يخرجون كثيراً عن ما يقتضيه هذا التأهيل من رصانة، لتدخل إلى عرضهم نبرة دعائية في اتجاهين: الأول يقع ضمن ما درجنا على وصفه بأنه "حرب نفسية" من تركيز متكرر على أنه أياً كانت التغيرات والمصاعب، فإن إسرائيل قوة لا تقهر. أما الاتجاه الثاني فيستحق التأمل، لأنه يتجه إلى تبرير استمرار المساعدة العسكرية الأميركية لإسرائيل والالتزام الأميركي بأمنها. * * * يستحق هذا الكتاب الذي لا يتجاوز متنه 146 صفحة من القطع الوسط، معالجة أوسع وأشمل من هذه المعالجة، لكن الحيز الصحافي حاكم متحكم. فالكتاب يعالج - باتساع وعمق - ما يسميه "ثورة إسرائيل الأمنية" على أكثر من مستوى وفي أكثر من اتجاه، وهي مستويات واتجاهات يجب أن تعنينا من زاويتين على الأقل: الأول، انه بينما تكسب إسرائيل، أي تعزز مكاسبها الاقليمية وتحقق لها شرعية إقرارنا بها من خلال "عملية السلام"، فإنها لا تعتقد مثلنا، ان آخر حرب خاضتها ضدنا هي "آخر الحروب"، بل أنها تتهيأ لحروب تعتقد أنها ستخوضها في المستقبل. هذه زاوية، الأخرى هي انه في سياق ما يعرضه المؤلفون يمكن تلمس بعض عوامل الضعف الكامنة في اسرائيل. يبدأ المؤلفون من التمييز بين ما يراه العسكريون الاميركيون "ثورة في الشؤون العسكرية" مصدرها تغير بيئة القتال بفعل التقدم التكنولوجي، وبين ما يراه المؤلفون ويشاركهم عسكريون اسرائيليون "ثورة في شؤون الأمن" تعبر عن تفاعل قوى أربعة: 1- التغير في مركز اسرائيل الاستراتيجي نتيجة لهزيمة العراق، وانهيار الاتحاد السوفياتي وانطلاق "عملية السلام" في 1991. 2- التطورات التكنولوجية في اسرائيل وعند أعدائها المفترضين والمحتملين، ونمو الاقتصاد الاسرائيلي حجماً وثراء. 3- التغيرات في المجتمع الاسرائيلي وما يأخذ به من قيم. على هذه القاعدة يجري رصيد عنصري الاستمرار والتغير في "نظرية الأمن القومي الاسرائيلية"، التي يلخصها المؤلفون من خلال غرضها: "قبول جيرانها العرب لها من خلال الأثر التراكمي لانتصارات عسكرية ميدانية محدودة لكنها واضحة، قد تؤدي في نهاية المطاف الى اقناع خصومها بعدم جدوى جهود استئصالها". استدعت هذه النظرية تعبئة دائمة وشاملة للسكان، وصفها أحد رؤساء الأركان الاسرائيليين بأن الاسرائيليين في الحقيقة "جنود في اجازة مدتها أحد عشر شهراً". ويقرر المؤلفون ان رغم فعالية هذه النظرية، فإنها كانت تضع اسرائيل أمام اختيار لا تحسد عليه. ما بين تعبئة الاحتياطي على حساب الاقتصاد وتوتر حياة المواطنين/ الجنود، وما بين الاعتماد على الجيش المقيم والتعرض لمخاطرة الهجوم المفاجئ مثلما حدث في 1993. تخفيفاً من ضغوط هذا الاختيار، وضعت اسرائيل في أوقات مختلفة أمام جيرانها "خطوطاً حمراً يؤدي اختراقها الى عقوبات". في معظم الاحوال، كان اختراق خط أحمر، حتى ولو لم يترافق مع عمل عدائي ضد اسرائيل يؤدي الى رد فوري وعنيف. يضيف المؤلفون الى عناصر تنفيذ هذه الاستراتيجية عاملين آخرين لا يخلو أمرهما من تناقض. فمن ناحية كان هناك "الاعتماد على النفس" الذي كان القوة الدافعة وراء نشوء الصناعة العسكرية الاسرائيلية وانتاج الأسلحة النووية، بغرض الحد من خطر التعرض لحظر السلاح، أو أي عوامل أخرى قد تعوق وصول السلاح من الخارج. أما من الناحية الأخرى، يقر المؤلفون بأن اسرائيل اعتمدت من قبل إنشاءها على رعاية قوة دولية كبرى، فقد حاولت فور انشائها الانضمام الى الكومنولث البريطاني، ثم أقامت علاقة أمنية خاصة مع كل من بريطانيا وفرنسا، ثم انتقلت الى مظلة الرعاية الأمنية الاميركية. ولا يتوقف المؤلف امام هذا التناقض ما بين دعوى الاعتماد على النفس وواقع الاحتماء بالخارج.
لم تكن حرب 1973 وحدها، أي عنصر المفاجأة لاسرائيل المستنيمة الى قوتها وتفوقها، هي التي أملت اعادة النظر في هذه الاستراتيجية. انما كانت هناك عوامل اخرى. اولها هي التكنولوجيا، والمقصود هنا ليس مجرد التطور في التكنولوجيا العسكرية بصفة عامة، وانما المقصود بالذات هو ما احرزته اسرائيل من تطور متوطن في هذا المجال. لكن المؤلفين لا يعتقدون ان هذا العنصر وحده يكفي لإحداث تغيير اساسي في ميزان القوى بين العرب واسرائيل. العامل الثاني يسميه المؤلفون "تغير البيئة الاستراتيجية"، فمع الإقرار بأن اسرائيل في 1998 تتمتع بدرجة أعلى من الأمن، فإن سكانها اليهود يشعرون بدرجة أدنى من الأمن. حيث ان نتيجة عملية السلام ليست سلاماً، إنما أشكال أخرى من الصراع، بعضها يتجاوز ما هو عسكري، ويقول المؤلفون انه في هذه البيئة الجديدة يبقى الخطر، لكن وضوحه والقدرة على التنبؤ به تخلي مكانها للالتباس وعدم اليقين، الى احساس مقلق بأن الحيز الجيوبوليتيكي ما زال غير مستقر الى حد بعيد. وما يخلص اليه الاستراتيجيون الاسرائيليون هو ان "تفوق اسرائيل غير المشروط في القتال التقليدي المتقدم، سيوفر حافزاً مستمراً لأعدائها لاستغلال أنماط بديلة من الحرب، تتميز بأنها أرخص وأيسر". عندما يتطرق المؤلفون الى العنصر الاجتماعي يرصدون ان الاسرائيليين لم يعودوا كما كانوا في الماضي: مستعدين لاخضاع جميع الاعتبارات للاعتبار الأمني. وهو ما يؤدي الى خلل في التناسب ما بين بيئة استراتيجية أكثر تعقيداً ومجتمع يضع المصالح غير الأمنية في درجة أعلى في سلم أولوياته. إذ يقلل من الاستعداد العام لتحمل مستوى مرتفع من الانفاق العسكري، فهذا الانفاق في اسرائيل - كنسبة من الناتج القومي الاجمالي، وليس بالأرقام المطلقة - يشهد انخفاضاً حاداً مضطرداً منذ منتصف السبعينات، وأسباب هذا عديدة: تراجع الإحساس بالخطر، اعادة ترتيب الأولويات والنمو الاقتصادي السريع. كما ان النمو الاقتصادي يعيد تحديد تطلعات الاجيال الجديدة وحوافزهم ونظرتهم الى الانجاز الاجتماعي أو الوطني، فلم يعد التميز في الخدمة العسكرية هو المعيار، انما حل محل النجاح في مجال الاعمال. * * * يؤدي تفاعل هذه العوامل الى توليد ما يسميه المؤلفون "ثورة اسرائيل الأمنية" حيث "التحديات التي تواجهها اسرائيل راهناً ذات جذور أعمق ومضامين أعرض"، وهذا ما يؤدي الى سياق يكون فيه النزاع أعصى على التحديد، وربما أكثر امتداداً مع الزمن، ويقع في بيئة سياسية أكثر تعقيداً من الماضي، حيث يصبح المجتمع أقل صبراً وأكثر تدخلاً في الشؤون العسكرية، وحيث التوافق بين قوة تعتمد على التكنولوجيا متقدمة و"جيش الشعب" أكثر استعصاء، وحيث يلوح على الأفق أعداء يصعب التنبؤ بسلكوهم، يحملون أسلحة الدمار الشامل. نتيجة لهذه التغيرات يعتقد المؤلفون انه سيكون على اسرائيل اعادة صياغة نظريتها الاستراتيجية على نحو يستبقي بعض عناصر النظرية القديمة - الخطوط الحمراء، الردع التقليدي والانذار المبكر مع تغييرات مهمة يمكن ايجازها في 5 عناصر على الأقل. قدر أقل من الحرية في العمل العسكري، لأنه سيكون على اسرائيل، خلافاً للماضي، ان تضع في حسابها التأثير السياسي للاعمال العسكرية على علاقاتها بجيرانها، ومن هنا، فإنه اذا نشبت في المستقبل حروب بين اسرائيل وجيرانها فستكون من نوع "حروب ما بعد السلام"، أي سيكون على اسرائيل ان تحسب تأثيرها على بقاء اتفاقات السلام القائمة. حيث كانت النظرية الاستراتيجية القديمة تعتمد ما تعتبره "أعمالاً هجومية لأغراض دفاعية"، سيكون عليها في المستقبل ان تعتمد مزيجاً من العمليات الهجومية والدفاعية، أي سيكون عليها ان تقلل من العمليات الوقائية والاستباقية، بسبب حاجتها الى التعاون الضمني او العلني من شركاء اقليميين مثل تركياوالأردن. بينما ستبقى حاجة اسرائيل الى تغطية قوة دولية كبرى لحروبها، فإنها في المستقبل ستتطلع الى رضا، ضمني على الأقل، من جيرانها مثل الأردنوتركيا وربما بعض الدول العربية في الخليج. في حال نشوب الحرب، سيكون هدف العمليات العسكرية الاسرائيلية هو تدمير قوات العدو وليس الاستيلاء على أراض، على اساس انه ما ان يتحقق الاستيلاء على أراض حتى تصبح اعادتها صعبة، والسيطرة عليها صعبة ايضاً. سيصبح مركز اسرائيل النووي أكثر وضوحاً وصراحة، بسبب تزايد اعتمادها على الردع، على حساب اعتمادها على الاستباق. * * * من كل هذا البحث الشامل والعميق في شؤون أمن اسرائيل، يصبح السؤال المنطقي هو: ما هي الحروب التي تتوقع اسرائيل ان تخوضها؟ خصص المؤلفون للاجابة عن هذا السؤال ملحقاً يعرضون فيه ما يسمونه "خمسة سيناريوهات للحرب" هي: 1- عصيان في فلسطين وقد يكون هذا انتفاضة شعبية تلقائية، أو حرب عصابات مضطردة ترعاها السلطة الفلسطينية، أو عمل ارهابي مستقل تقوم به جماعات مثل "حماس" أو "الجهاد الإسلامي" أو مزيجاً من الاشكال الثلاثة. ويرى المؤلفون انه قد يقع شيء أكثر حدة وعنفاً من "الانتفاضة" يؤججها انهيار الامال على الجانبين، ووفرة من السلاح في جيوب فلسطينية صغيرة، إنما مستقلة. 2- تدخل إسرائيلي في الأردن وعند المؤلفين، فإن ما يستدعي هذا التدخل، ان يوحد المعارضون الداخليون للنظام في الأردن قواهم مع اعدائه الخارجين. وقد تشعر إسرائيل أنها مضطرة إلى التدخل، خصوصاً في حال تحرك لجمع الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة والضفة الشرقية تحت حكم فلسطيني موحد. أو إذا سيطرت "الدولة الفلسطينية" على الأردن. 3- خرق معاهدة السلام مع مصر أو إلغائها رغم ان المؤلفين يعتقدون ان مصر ستبقى مستقرة ومؤيدة لجهود التسوية السلمية، فإنهم يرون أيضاً ان "التغيير وارد"، وأنه قد يأتي بنظام وطني راديكالي أو ديني متطرف، وأن ذلك النظام قد يقرر خرق معاهدة السلام. 4- الحرب مع سورية يعتقد المؤلفون ان هذا الاحتمال وارد في حال إذا ما حاولت سورية شن حرب لتحقيق مكاسب محدودة، كما قد يتحقق نتيجة لتدهور الوضع في جنوبلبنان. وان إسرائيل قد تشن عملية كبيرة ضد "حزب الله" أو لمعاقبة سورية على سماحها له بالعمل ضد القوات الإسرائيلية. 5- أسلحة الدمار الشامل في "الحلقة الخارجية" يقول المؤلفون إن الحرب في الشرق الأوسط قد تشعلها الجماعات الارهابية، أو دول مثل العراقوإيران وليبيا تحصل على أسلحة غير تقليدية ووسائل تفعيلها، وقد يترافق هذا مع حرب عصابات يشنها الفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة، أو نشوب نزاع اقليمي تصبح إسرائيل هدفاً فيه لردع الولاياتالمتحدة عن التدخل.