وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    ترامب يرشح سكوت بيسنت لمنصب وزير الخزانة    حائل: دراسة مشاريع سياحية نوعية بمليار ريال    «موديز» ترفع تصنيف السعودية إلى «Aa3» مع نظرة مستقبلية مستقرة    الاتحاد يتصدر ممتاز الطائرة .. والأهلي وصيفاً    "بتكوين" تصل إلى مستويات قياسية وتقترب من 100 ألف دولار    بريطانيا: نتنياهو سيواجه الاعتقال إذا دخل المملكة المتحدة    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    النسخة ال 15 من جوائز "مينا إيفي" تحتفي بأبطال فعالية التسويق    القادسية يتغلّب على النصر بثنائية في دوري روشن للمحترفين    (هاتريك) هاري كين يقود بايرن ميونخ للفوز على أوجسبورج    نيمار: فكرت بالاعتزال بعد إصابتي في الرباط الصليبي    وزير الصناعة والثروة المعدنية في لقاء بهيئة الصحفيين السعوديين بمكة    مدرب فيرونا يطالب لاعبيه ببذل قصارى جهدهم للفوز على إنترميلان    الأهلي يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    وفد طلابي من جامعة الملك خالد يزور جمعية الأمل للإعاقة السمعية    قبضة الخليج تبحث عن زعامة القارة الآسيوية    القبض على (4) مخالفين في عسير لتهريبهم (80) كجم "قات"    أمير المنطقة الشرقية يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    بمشاركة 25 دولة و 500 حرفي.. افتتاح الأسبوع السعودي الدولي للحِرف اليدوية بالرياض غدا    بحضور وزير الثقافة.. «روائع الأوركسترا السعودية» تتألق في طوكيو    مدرب الفيحاء يشتكي من حكم مباراة الأهلي    أوكرانيا تطلب أنظمة حديثة للدفاع الجوي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    الملافظ سعد والسعادة كرم    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    فعل لا رد فعل    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"عصافير النيل" رواية ابراهيم أصلان الجديدة . اختفاء الجدة ذريعة سردية للبحث عن الماضي
نشر في الحياة يوم 22 - 01 - 1999

يستهلّ ابراهيم أصلان روايته "عصافير النيل" بخبر اختفاء الجدّة هانم الذي ينقله أحد أحفادها الى حفيد آخر وينهي به الرواية من غير أن يؤكّد اختفاءها تماماً أو ينفيه جاعلاً من الجدّة في الختام طيفاً هائماً في عالم يتفاوت بين الواقع والخيال. وكان الكاتب استبق خبر اختفاء الجدّة في مفتتح الرواية واصفاً إياها في اللحظة التي أُخرج ابنها عبدالرحيم محمولاً الى العربة. وبدت الجدّة حينذاك غائبة عمّا يحصل من حولها إذ ظنّت أن الزحمة التي حصلت قرب المنزل هي زحمة الانتخابات. وما ان تنتهي اللقطة السردية هذه حتى تبدأ رحلة البحث عن الجدّة المفقودة وهي رحلة ستستغرق الرواية كلّها ولن تنتهي إلا في رسم صورة متخيلة للجدّة المختفية نفسها وهي ما برحت تمشي باحثة عن بيت ابنتها نرجس التي يخيل اليها أنها ما زالت حية.
غير أنّ اختفاء الجدّة ليس إلا ذريعة سردية لاستعادة جزء من ماضي أسرتها أوّلاً وماضي حيّ فضل الله عثمان الذي يجاور النيل. والماضيان كلاهما حافلان بحكايات طريفة جداً عاشتها شخصيات أشدّ طرافة وهي شخصيات تنتمي الى أسرة الجدّة الذي لم يأتِ الراوي الكاتب على ذكر زوجها الجد وكأنّها هي رأس الأسرة التي سرد تفاصيل من تاريخها الخاصّ. وحين يدخل الحفيد عبدالله بيت الأسرة القديم لا يظهر أيّ أثر للجدّ فيما يحضر عالم الجدّة بامتياز متداخلاً في عالم سلالتها كإبنها عبدالرحيم وزوجته دلال وابنتها نرجس وزروجها البهيّ عثمان.
لم يعتمد ابراهيم أصلان بنية سردية تقليدية كرونولوجية ليبني عالمه بل هو عمد الى بعثرة الزمن العام للرواية جاعلاً منه مجموعة أزمنة تتقطع وتتواصل عبر تقطّعها. وقدنجح أيّما نجاح في لعبة التقطيع الزمني الذي جعله موازياً للتقطيع السينمائي، مركّزاً على ما يسمّيه الناقد تودوروف "الوحدة السرديّة". فكلّ مقطع سرديّ هو وحدة قائمة بذاتها ومتصلة في الحين عينه بما سبقها من وحدات. والوحدة هي وحدة زمنية أيضاً تطول أو تقصر بحسب رؤية الراوي ولا يفصلها عن الوحدات الأخرى إلا فضاء زمنيّ متمثل ببعض الفسحات البيضاء طالما ألفها مارسيل بروست مثلاً هي كناية عن لحظات من الوقف والإيجاز. ولعلّ اللعبة الزمنية المعتمدة برهافة وفطنة منحت الرواية بعداً وجوديّاً وعمقاً: فالزمن الموزّع الى أزمنة عدّة مبعثرة أو مشتتة تبعاً لتبعثر الذاكرة وتشتتها هو زمن واحد يختلط فيه الماضي والحاضر اختلاطاً وجوديّاً لا تاريخياً فحسب. وليست تقنيات الاستعادة والفلاش باك والتقطيع إلا وسائل لبناء الزمن المبدّد أصلاً وللإشارة الى بعده البعثيّ ومرارته وبؤسه. أمّا الطرافة التي برزت في ملامح الشخصيات وسلوكها فهي بدورها دلالة واضحة على غربة الشخصيات وألفتها في الحين نفسه، على اقتلاعها وتجذّرها، على هامشيّتها وأصالتها. وفي بعض الوحدات السرديّة يمعن الكاتب متماهياً في شخص الراوي في تسريع الإيقاع السرديّ - الزمني مختصراً بعض المراحل في لحظات وكأنّه يحاول الاختفاء وراء قناع الجدّة المختفية أو الرؤية بعينها هي العجوز التي فقدت ذاكرتها. فإذا الأحداث تمرّ بسرعة وكأنّها في شريط مقتضب وصامت. إنّها لعبة الأزمنة التي عرف ابراهيم أصلان كيف يلتقط خيوطها وينسجها ببراعة الراوي الذي يأنف من الإطالة واللغو.
ليست رواية "عصافير النيل" رواية أبطال يمعنون هم في صنعها بأنفسهم وفي صنع حاضرهم وبعض مستقبلهم، فالشخصيات تحيا في الماضي ومعظمها غاب ومات. حتى عبدالله نفسه الذي يتهيّأ له أنّه يتولّى مهمّة البحث عن الجدّة الضائعة يحيا في الماضي بل هو يستعيده مبعثراً عبر رحلته الى حيّ فضل الله عثمان. الحاضر لا يمثل إلا جزءاً قليلاً جداً من الرواية وهو حاضر عبدالله وشقيقه وزوجة الخال المتوفّى والجدّة التي تنتمي الى ماضيها أكثر مما تنتمي الى حاضرها. ولم يُتح أصلاً للأستاذ عبدالله الحفيد أن يحرّك دفة السرد وأن يتولّى أداء دور الراوي وهو مهيّأ له أصلاً. فالكاتب شاء أن يتلبّس شخصية الراوي بنفسه ولكن من دون أن يفرض نفسه كراوٍ ويمارس حقوقه السرديّة المفترضة. يتوارى الكاتب خلف قناع الراوي ويظل أبداً ذلك الكاتب المنفصل عن الدور الذي يؤدّيه. وهكذا لا يتدخل الكاتب عبر إدائه هذا الدور في سلوك شخصياته وفي مسار الأحداث وهي أحداث شبه واهية أصلاً تبعاً لانتمائها الى الذاكرة والمخيلة. وهنا يبرز ما يسمّيه الناقد الفرنسي جيرار جينيت "التركيز الخارجي" أو الرؤية من خارج وهو يفترض على الراوي أن يركّز على ما يستطيع أن يراه من خارج سلوك شخصياته. فالراوي أو الكاتب لا يعرف عن الشخصيات أكثر ممّا تعرف هي عن نفسها. ولعلّها هي التي تقدّم نفسها أكثر مما يقدّمها الراوي متدخّلاً في صنع ملامحها ومعالم الأحداث التي تجبهها. فالراوي الكاتب لا يصنع أقدار شخصياته مقدار ما يتركها عرضه لأقدارها ومصائرها. وهو يأتيها من الماضي، ماضيها الشخصي وليس من حاضرها غالباً ولكن طبعاً لا ليرسم ما ينتظرها في المستقبل، فالمستقبل بات هو الماضي بامتياز والماضي منقسم الى أكثر من ماضٍ نظراً الى مبدأ الاستعادة نفسه. ولئن استعان الكاتب بشخصية عبدالله ليتولّى معه وعنه أحياناً مهمّة البحث تلك فهو جعله شخصية كالشخصيات الأخرى وجعله يستعيد بدوره بعض ذكرياته القديمة ومن أجملها ذكرى عصافير النيل.
شخصيات الرواية إذن هي شخصيات مستعادة من ماضٍ هو ماضيها أولاً البهيّ عثمان، نرجس، عبدالرحيم...، وماضي الشخصيات الأخرى التي تتذكّرها أو يتهيأ اليها أنها تتذكرها عبدالله، دلال... إنها في معنى ما شخصيات طيفية، واقعية ولكن على قدر كبير من الطرافة، متخيّلة وشبه خرافية. إنّها شخصيات حكائية محكومة بهواجسها أكثر منها بأفعالها. شخصيات تحيا في رواية هي مجموعة روايات تجمع بين الحقيقي وغير الحقيقي، بين المعيش والمتخيل، وفي مثل هذه الروايات لا بدّ أن يتعهّد المتخيّل الواقع والواقعُ المتخيل ممّا يجعل المرويّات عرضة لليقين والشك في الوقت نفسه. ولئن بدا عبدالله شخصية رئيسة في الرواية انطلاقاً من أدائه مهمة البحث عن الجدّة وهي مهمّة لن تفضي إلا إلى البحث عن الماضي فأنّ الشخصيات الأخرى لم تقلّ حجماً عنه. وقد يكون من المبالغة التمييز بين شخصيات رئيسة وأخرى ثانوية حتى وإن حضرت شخصيات أكثر من شخصيات. فالشخصيات جميعها تنتمي الى فضاء سرديّ واحد تتعدّد أزمنته وتنتهي في زمن واحد هو زمن الرواية العام. حتى عبدالله لن يكون بطلاً روائياً ولن يتمكّن من اكتشاف سرّ الجدة فهو أصلاً لم يصرَّ على اكتشافه. وما ان وصل الى الحيّ القديم حتى أحسّ أنّه محذوف وسط الذكريات المتداعية. وقد استعاد الذكريات من غير أن ينبس بأي كلمة، فالكاتب هو الذي أخذ على عاتقه حيلة السرد مندمجاً في شخص الراوي الذي لم يعمد الى استخدام صيغة الضمير المتكلّم الأنا. وهنا تجلّت براعة ابراهيم أصلان في إخفاء نبرة الراوي وفي تحويل صوته الى صوت شبه غائب. ومن لوحة سرديّة الى أخرى بل من وحدة سردية الى وحدة أخرى نجح الكاتب في بناء عالم الأسرة بل في جمع أجزاء ذلك العالم المفكّك والمبعثر وفي صهر معالمه وأحواله في نسيج متقطع ومتواصل عبر تقطّعه.
اختفاء الجدّة إذن هو الحدث الرئيس في الراوية وقد قاد الحفيد عبدالله الى البحث عن ماضي أبيه وأمّه وخاله وعن الحيّ الذي نشأت الأسرة فيه وعن ماضيه الشخصيّ أيضاً. ومن تلك الأزمنة المندثرة بعضها فوق بعض صعدت وجوه شخصيات غايةٌ في الطرافة وحكايات أحداث أليفة وغريبة تماماً وأجواء اختلطت واقعيّتها بلا واقعيّتها. والرواية لم تصنعها شخصية واحدة أو شخصيتان متقابلتان مقدار ما صنعت هي شخصياتها التي لم يكن على الكاتب - الراوي إلا أن يستعرضها في ملامحها وعلاقاتها بعضها ببعض وهي أصلاً علاقات ضئيلة ومستعادة من الماضي. وإن احتل عبدالرحيم جزءاً من المرويّات فإنّ الشخصيات الأخرى برزت بدورها ولا سيّما الأم نرجس والأب البهيّ عثمان. وبدت الشخصيات جميعها طريفة وعاشت حالات أشدّ طرافة. فالأم التي تُستعاد في مراحل من عمرها انتهى بها الخوف من الظلمة شأوه حتى أنّها طلبت من زوجها أن يوفّر لها لمبة داخل التربة التي سترقد فيها ولو مدّة أسبوع حتى تعتاد الظلمة. والأم العجوز التي فقدت أسنانها سوف تطلّ أيضاً كشقيقة لعبدالرحيم وترافقه في المغامرات العاطفية التي قام بها طوال ردح. أمّا البهيّ عثمان الأب والزوج فهو مثال موظفي البريد وقد آلمه في خريف عمره أن يحال على التقاعد قبل خمس سنوات فيخسر بعضاً من راتبه وتعويضه. وراح يرفع الشكاوى واحدة تلو الأخرى أملاً في أن تصلح الحكومة الأمر، لكنّ أمله خاب حين علم أنّ التقرير الطبيّ أفاد أنّ نظره أصابه الضعف ولم يعد قادراً على ركوب الموتوسيكل وجمع الرسائل من الصناديق. لكنّ الشكوى سرعان ما أضحت استغاثة وسعى الى ايصالها الى الرئيس جمال عبدالناصر نفسه، لكنّ الأخير مات لتظلّ الحسرة في قلب "البوسطجي".
ومن خلال وفاة عبدالناصر يتوضّح جزء من زمن الرواية الموضوعي. والبهيّ عثمان لن يلبث بدوره أن يموت وسوف نوح عليه نرجس وبناتها ونسوة الحيّ في جلاليبهنّ السوداء. وكان البهيّ عثمان أمضى حياته في مهنة البريد من غير أن ينال أيّ ترقية. وهذا ما سوف يثير حفيظته حين سيرى شقيق زوجته يرتقي من مهنة الى أخرى داخل مؤسسة البريد وكان هو دليله الى هذه المؤسسة.
وكعادته ينقل ابراهيم أصلان جوّ عالم البريد ولكن في اختصار واقتضاب عبر نقل بعض ما واجه عبدالرحيم من حوادث طريفة وأبرزها حين ضبط في المصعد المعطّل عارياً مع امرأة وعلى مرأى من الباشا والجنرال الإنكليزي وصهره الذي شعر بالعار واختبأ وراء أكياس الطرود. إلا أن عبدالرحيم الذي طرد من عمله جراء هذه الحادثة لن يلبث أن يعود الى مؤسسة البريد بعد قيام الثورة منتقلاً من مهنة الى أخرى داخل المؤسسة نفسها. غير أنّه لن يفتأ أن يواجه أحداثاً أخرى في مراحل مبعثرة من حياته المبعثرة بدورها. وكان هو استهلّ حياته في الحيّ بحادثة العصفورة التي جعلته يبكي خجلاً وهواناً. فهو - كما يروي الكاتب - ذهب الى صيد السمك وكان في أوّل عهده به فرمى صنّارته مثل بقية الصيّادين وعوض أن يصطاد سمكة اصطاد عصفورة كان عليها أن تأخذ طرف الخيط وتحلّق وكان عليه هو أن يجري وراءها وكان على الناس أن يجروا وراءه بدورهم صائحين وساخرين.
طبعاً ليست هذه الحادثة الوحيدة التي فاجأت عبدالرحيم في الحيّ الذي حلّ فيه فحياته سوف تكون سلسلة من المغامرات الطريفة ولا سيّما العاطفية منها، فامرأته الأولى تعرّف اليها في المستشفى حين أدخل للعلاج من البحصة. وكانت هي ممرّضة تدعى أفكار وجذبت عبدالرحيم حين لمست عضوه خطأ وهو ممدّد وظلّ ينتظر أن تفعلها مرّة أخرى ولم تفعلها. وحين خرج من المستشفى خطب الممرضة وكتب كتابه عليها ولم يتفق معها كلّ الاتفاق فهي كانت ترفض مثلاً أن تخرج معه وهو يرتدي الجلابية. وكان لا بدّ له من أن يطلّقها ليتزوّج من امرأة أخرى زواجاً سريعاً انتهى بدوره في الطلاق. لكنّ المرأة هذه وهي تدعى انشراح تختلف عن بقية النسوة في الحيّ. فهي أرملة وأم لثلاثة أطفال وتهوى الجنس والرجال. وكان عبدالرحيم ضاجعها قبل أن يتزوّج منها ومعها اكتشف حقيقة اللذّة التي جعلته يحوم حول بيتها ويراقب شقتها حتى بعد الطلاق. وكان يشتد به الهياج حين يلمح طيفاً لرجل وراء الستارة. وفي تلك الأيام التي أعقبت طلاقها وانقطاعه عنها عاف الأكل وأصابه السهاد. وما كان أنّ المرأة هي التي طلبت الطلاق وليس هو. وظل يصرّ على زيارتها رغم تحفّظها وانقضّ عليها مرّة وراودها بالقوّة ولم يكن عليها إلا أنّ تبكي في الختام.
لكنّ عبدالرحيم الذي كان أحبّ أيضاً فتاة تدعى بسيمة يتزوّج مرّة أخرى من فتاة تدعى سعاد. وسوف ينتهي الزواج بدوره ولكن ليس في الطلاق. فسعاد سوف تغادر بيت زوجها نهائياً ذات يوم وكانت هي اعتادت الإقامة في منزل أهلها ولا سيّما بعدما مات والدها وتسلّمت منه الدكان. وما ساعد المرأة على هجر زوجها هو عدم انجابها. إلا أنّ عبدالرحيم سوف يستقرّ في النهاية مع زوجته الأخيرة دلال التي أنجبت منه وأسست معه عائلة صغيرة وظلّت ترافقه حتى على سرير مرضه وموته. وأطرف ما حصل لها مرّة في المستشفى أنّها اضطرت أن تستعير سروال زوجها الدخلي لترتديه وتذهب الى الطبيب ليعاينها حين أحست أنّها مريضة بدورها. ومرّة يتهيّأ لها أن عبدالرحيم أسلم روحه فراحت تصرخ وتندب ولم يكن على الزوج إلا أن ينهض ويفاجئها. وعبدالرحيم سوف يفاجىء أيضاً بعد موته الرجال الذين تولوا غسله إذ ستتحرّك يده أو هكذا يُخيل للحاضرين ويستر نفسه بها. ويصرخ أحدهم: "وحّدوه" ويرى أن ما حصل يرجع الى وجود شخص غير طاهر بين الحاضرين فيدعوه الى الخروج. واللقطة هذه هي واحدة من لقطات تتوالى خلال المرويّات الكثيرة والأحداث المسرودة مضفية على الرواية جواً طريفاً وساحراً يجعلها تتفاوت بين الواقعية السحرية والواقعية الشعرية والفانتازيا.
أما عبدالله الذي يفترض أن يكون بمثابة الشخصية الرئيسة فهو يظل كالشاهد الصامت على ما حصل ويحصل. ولعلّه الدور الذي ارتآه له الكاتب نفسه الذي راح يسرد ويصف من خلال عينيه. فالماضي لم يُستعد إلا حين عاد عبدالله الى الحيّ القديم بحثاً عن الجدّة المختفية. ومثلما ارتسم ماضي الأسرة أمام عينيه ارتسم ماضيه كذلك ولكن متقطعاً طبعاً وبسرعة. وقد تكون ذكرى "عصافير النيل" من أجمل الذكريات التي خالجته وآلمته وقد صاغها الكاتب صوغاً شعرياً صرفاً معبّراً عن صفاء الطفولة التي عاشها عبدالله على ضفة النيل. وليس من المستغرب أن يستحيل النصّ هذا نصّاً شعرياً في جوّه السحريّ المشبع بالنقاء والشفافية، فهو يسرد فشل عبدالله الدائم في اصطياد العصافير على عكس بقية الأولاد في الحيّ. لكنّه لمح ذات يوم عصفوراً صغيراً يعرج فحمله وخبأه في جيبه بغية أن يضعه في الفخ ويقدّمه لأمّه كما لو أنّه نجح في اصطياده. لكنّه حين فتح حلقة الفخ لم يستطع احتمال الألم الذي قاساه العصفور لحينه فتركه يقفز ويطير هارباً ومتغلّباً على عاهته. وحزن عبدالله على فرار العصفور لم يضاهه إلا فرح داخليّ أثاره نجاح العصفور في الطيران. غير أنّ الرواية التي استهلّها الكاتب - الراوي بخبر اختفاء الجدّة سوف تنتهي مثلما بدأت بخبر الجدّة ولكن تائهة وباحثة عن بيت ابنتها نرجس التي ماتت قبلها، لكنّها غدت في اللقطة الأخيرة كالطيف الطالع من مخيّلة عبدالله ومخيّلة الراوي الذي تولّى عنه مشقة السرد. وبين اللقطة الواقعية الأولى واللقطة المتخيّلة الأخيرة تغدو المرويّات وكأنّها مجرّد صور وذكريات التمعت في الذاكرة وما لبثت أن انطفأت ولكن بعدما خلقت عالماً روائياً ساحراً وجميلاً، والعالم الروائي هذا صاغه ابراهيم أصلاً ببراعة الراوي والكاتب معاً وبحذاقة المصوّر الذي لا تفوته التفاصيل الصغيرة وبناه بدقّة وحذاقة معتمداً تقنيات مختلفة الفلاش باك، التقطيع السينمائي... ولغة حيّة منبثقة من الكلام اليوميّ والأليف الذي يحياه أشخاص الأحياء عادة. ولم ينثنِ أصلان عن استخدام اللهجة العاميّة ترسيخاً لانتماء شخصياته الى عالمها الحقيقيّ. إلا أنّ اللغة لم تخل من مداها الشعريّ حتى وإن خلت من التذويق والفصاحة. فاللغة الروائية كما يقول ميشال فوكو استطاعت أن "تؤسس بنفسها مساحة لا تنتمي لا الى العالم ولا الى اللاوعي ولا الى النظرة ولا الى الدخيلاء". إنّها لغة تنتمي الى هذه كلّها ولا تنتمي اليها تبعاً لانصهارها في نفسها.
وإن وصف ابراهيم أصلان في كونه روائياً مقلاً على خلاف بعض زملائه في الحركة الروائية المصرية فأنّ أعماله القليلة التي يطلّ بها على قرائه بعد انقطاع تحمل دوماً طابع المفاجاءات. فالروائي الذي يغيب من رواية الى أخرى فترة غير قصيرة يفاجىء قراءه كعادته كلّ مرّة مؤكّداً أنّ القلّة في الانتاج لا تعني إلا النضارة الدائمة وأن الانقطاع عن النشر لا يعني انقطاعاً عن الكتابة والكتابة المبدعة واللامعة تحديداً!
* صدرت الرواية عن دار الآداب، بيروت 1999.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.