للمرة الأولى، منذ انتهاء حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت، تصير إطاحة الرئيس العراقي صدام حسين هدفاً اميركياً معلناً في وضوح، حتى اذا لم يحظ بأولوية متقدمة. صحيح ان هذا الهدف لم يكن غائباً في الخطاب السياسي الاميركي. غير أنه كان يطرح عادة إما في سياق هذا الخطاب، او بأسلوب غير مباشر، وبخاصة من خلال الربط بين الرفع النهائي للعقوبات المفروضة على العراق وقيام حكومة جديدة "لا تهدد الجيران". وكان المقصود بالعقوبات، في هذا السياق، تلك التي تتجاوز الحظر النفطي الذي يربطه قرار مجلس الامن رقم 687 بازالة اسلحة الدمار الشامل. فهذا الحظر ليس إلا جزءاً من منظومة العقوبات، التي تشمل الحصار التجاري الاوسع نطاقاً من النفط، والحظرين العسكري والجوي. فقد ربطت السياسة الاميركية هذه العقوبات في ما وراء الحظر النفطي، بتغيير جذري في العراق استناداً على ان الفقرة 22 من القرار 687 تفرض رفع الحظر النفطي، من دون أن تتطرق الى غيره، حين تؤكد لجنة الاممالمتحدة المكلفة بإزالة اسلحة الدمار الشامل "اونسكوم" والوكالة الدولية للطاقة الذرية أن العراق صار نظيفاً. وعلى هذا الاساس، يصير سهلاً ربط رفع باقي العقوبات بتحقيق المطالب الاخرى الواردة في قرارات مجلس الامن، مثل احترام حقوق الانسان وحفظ حقوق الاقليات وإثبات النيات السلمية، فضلاً عن غلق ملف الاسرى والمفقودين وإعادة الممتلكات الكويتية. ومع ذلك، لم تفصح الولاياتالمتحدة عن ان إطاحة النظام العراقي، أو رئيسه، موضوع في جدول أعمالها منذ انتهاء "عاصفة الصحراء". واقتضى الأمر أكبر من سبع سنوات الى أن أفصحت واشنطن عن ذلك في غمار عملية "ثعلب الصحراء" فقد دشنت هذه العملية تحولاً جزئياً في السياسة الاميركية تجاه "المسألة العراقية" من "الاحتواء السلمي" الى "الاحتواء العسكري" عن طريق القوة. وبموجب هذا التحول، صار ممكناً ان تعلن واشنطن في وضوح لا سابق له ان حل المشكلة يقتضي قيام حكومة عراقية جديدة، ولكن من دون ان يكتسب ذلك اولوية متقدمة بسبب الصعوبات التي تكتنف تحقيقه في المدى القصير حوالي خمس سنوات على الاقل. ولذك تظل الاولوية، في هذا المدى، للاحتواء وقد صار عسكرياً سواء توافر غطاء دولي له او لم يتوفر. واذا كان هذا التطور في السياسة الاميركية في اتجاه الافصاح عن أحد اهدافها في منطقة الخليج عراق من دون صدام يساعد على الخروج من مأزق تكتيكي كانت تواجهه، فهو يخلق لها مأزقاً استراتيجياً جديداً. كان المأزق التكتيكي الذي واجهته واشنطن راجعاً الى ان عدم الاعلان في وضوح تام انها تستهدف صدام حسين، خلق شكوكاً عميقة في سياستها تجاه منطقة الخليج. كما تعرضت لاتهامات بأنها تعمد الى الابقاء على النظام العراقي كي تستخدمه "فزّاعة" لدول مجلس التعاون لتستنزف ثرواتها وتبرر الوجود العسكري في منطقة الخليج. ورغم ان هذه اتهامات لا اساس لها، فقد راجت وانتشرت لأن الولاياتالمتحدة لم تكن قادرة على الإفصاح عن ان سياستها تستهدف اطاحة صدام حسين، ولكنها ليست قادرة على ذلك، خصوصاً ان سياسة الاحتواء التي اعتمدتها منذ العام 1993 كانت قائمة على التفتيش والرقابة الدوليين. ولذلك لم تكن ردود المسؤولين الاميركيين على اسئلة تتعلق بموقع اطاحة الرئيس العراقي في سياستهم مقنعة او مبددة للشكوك العربية في نياتهم بل كان بعضها مثيراً للسخرية، مثل القول ان واشنطن ليست مفوّضة من مجلس الامن في هذا المجال، وكأنها حريصة الحرص كله على الالتزام بالشرعية الدولية. غير ان اتجاه واشنطن الى الافصاح عن انها تستهدف تغييراً داخلياً في العراق صار ممكناً حين قررت التحول صوب الاحتواء العسكري في مطلع العام 1998 حين أعدت لعملية "رعد الصحراء"، ثم اضطرت الى تأجيلها عندما توصل السكرتير العام للامم المتحدة الى مذكرة تفاهم مع العراق في 23 شباط فبراير. فمنذ ذلك الوقت، غدت الادارة الاميركية مقتنعة بأنه لا مفر من التحول الى الاحتواء العسكري، وانه لا أمل في ان يمتثل صدام حسين لقرارات مجلس الامن منظوراً اليها من منظورها الخاص بطبيعة الحال. وبمقتضى هذا التطور تم الافصاح تدريجياً عن ضرورة اطاحة صدام، بدءاً بشهادة مساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الاوسط مارتن انديك امام الكونغرس في 29 تموز يوليو، والتي كشف فيها عن خطة اولية لإزاحة الرئيس العراقي، ووافق البرلمان الاميركي على تخصيص تمويل لها، ومن هنا كان التحرك لتأسيس "اذاعة العراق الحر" من براغ في آب أغسطس، الى أن بدأت البث في تشرين الثاني نوفمبر 1998 واصدار قانون "تحرير العراق" الذي يجيز تقديم دعم مالي وعسكري للمعارضة. وهكذا تجاوزت واشنطن المأزق التكتيكي في موقفها تجاه النظام العراقي، لتواجه على الارجح مأزقاً استراتيجياً يجوز تلخيصه، بقدر من التبسيط، في السؤال التالي: هل يمكن إسقاط نظام حكم او خلق تمرد عليه او على رئيسه عبر قصف جوي وصاروخي ومن دون حرب برية، اي عبر "حرب من بُعد"؟ الاجابة بالنفي لا يكاد يختلف عليها اثنان. وهذا يفسر حرص واشنطن، خلال وبعد عملية "ثعلب الصحراء"، على تأكيد ان استهداف تغيير داخلي في العراق ليس متعلقاً بالمدى القصير، وبالتالي ليس متضمناً في اهداف هذه العملية. وهذا صحيح. فلا يمكن لهجوم واحد لم يستغرق اكثر من 72 ساعة أن يغير نظام حكم. ولكن كان من بين اهداف هذا الهجوم البدء في خلق اجواء قد تساعد على هذا التغيير في فترة تالية، بحيث تتيح ضربات عسكرية اخرى تعزيز هذه الاجواء التي يراهن صانع القرار الاميركي على ان تدفع الى تمرد ما عسكري أو شعبي. غير أن عودة الى "عاصفة الصحراء" توضح ان التمردين اللذين حدثا في الجنوب والشمال احتاجا الى قصف مستمر على مدى اربعين يوماً، ومن دون أن يمتد هذا التمرد الى منطقة القلب العراقي حيث يتحصن النظام. ومع ذلك فإن تقدير احتمال نجاح هجمات عسكرية متتالية في احداث تمرد داخلي لهو من اصعب الامور، خصوصاً في ظروف كتلك التي يمر فيها العراق بعد ما يقرب من ثماني سنوات على الحصار، فضلاً عن طابع نظام الحكم المتمرس في الحفاظ على امنه. فعلى صعيد تأثير الحصار، تذهب دراسات حديثة في علم النفس السياسي الى انه يمكن ان يقود الى نتائج عكس المستهدف منها على مستوى العلاقة بين الشعب والحكم. فازدياد الشعور بالظلم الخارجي قد يتجاوز الاحساس بالظلم الداخلي مهما كانت وحشية هذا الحكم، مما يؤدي الى تماسك نفسي لمواجهة مصير مشترك لا مفر منه، والى تكيف مع ظروف الحياة في ظل الحصار. اما ان يكون لهجمات عسكرية كبيرة تأثير غير ذلك فهو يبدو بعيدا، بدوره، في بلد عاش في حال حرب نحو عشرين سنة، وهناك جيلان على الاقل في العراق الآن لا يعرف ابناؤهما عن الدنيا الا انها حرب من قبل ومن بعد، ودمار وخراب لا ينتهيان. وهذه سيكولوجية نحتاج الى دراسة تأثيراتها المستقبلية على الصعيد العربي العام. ومع ذلك يظل وارداً ان تحقق الهجمات العسكرية تمرداً في الجنوب ذي الاغلبية الشيعية، اذ استطاع سكانه تجاوز الخبرة المريرة لعدم مساندة احد لهم في تمردهم السابق في العام 1991، وبخاصة اذا نجحت الهجمات في إضعاف قوات الجيش المتمركزة في الجنوب. غير ان ما يمكن استنتاجه من الطريقة التي يبدو ان المسؤولين الاميركيين يفكرون بها الآن هو ان الرهان على تمرد عسكري وليس شعبياً. اما تمرد قوات الحرس الجمهوري نفسها، او تمرد في الجيش لا يتدخل هذا الحرس ضده. فهناك اعتقاد قوى في واشنطن بأنه اذا كف الحرس الجمهوري عن مساندة صدام ستسهل الإطاحة به. ويشمل هذا الرهان اضعاف الحرس الجمهوري او تدمير معنوياته. غير ان الامر يبدو اكثر تعقيداً من ذلك حين يتعلق بنظام متمرس في الحفاظ على امن رئيسه، ومعنيٌ بذلك اكثر من اي شيء آخر. كما انه ليس معتمداً على الحرس الجمهوري فحسب، كما يتضح من هجوم كانون الاول ديسمبر الماضي. فهناك الحرس الرئاسي الخاص، واجهزة الامن المختلفة، فضلاً عن مسلحي البعث، ومسلحي العشائر الموالية لصدام. ومع ذلك، ظهر الاهتمام الخاص بالحرس الجمهوري في نقل وحداته الى الارياف وتوزيعها بين المواطنين اعتماداً على ان الهجوم لا يشمل مواقع مدنية. وكان واضحاً عدم ادخال الحرس الجمهوري ضمن خطة الدفاع الرئيسية التي تم تقسيم العراق، في اطارها، الى اربع مناطق امنية على رأس كل منها احد ابرز القادة الموالين لصدام، بهدف تفادي تداعيات قطع خطوط الاتصال بين مراكز القيادة في المناطق المختلفة. ولا يعدو السعي الى تمرد عسكري ان يكون مجرد رهان قد يخسر او يكسب، بينما تبدو احتمالات خسارته اكثر بكثير حتى الآن. اما المعارضة العراقية، التي عادت واشنطن في 1998 الى محاولة تفعيلها، فليس هناك من يدرك وهم الاعتماد عليها اكثر من الاميركيين انفسهم. فعلى مدى سبع سنوات لم تبرهن هذه المعارضة على اي جدارة تؤهلها لطرحها بديلاً حقيقياً. ويتساوى في ذلك كل احزابها وفصائلها على اختلاف اتجاهاتها السياسية والمذهبية، بما فيها القوى الكردية التي اهدرت فرصة تاريخية لتقديم نموذج ديموقراطي في الشمال، وانصرفت الى اقتتال على مكاسب صغيرة، كما لم تكن تجربة "المؤتمر الوطني الموحد"، الذي عجز عن التحول الى جبهة متماسكة، افضل حالاً. ومع ذلك ظلت ادارة كلينتون تتعرض لضغوط من داخل الكونغرس بهدف دفعها الى تقديم مزيد من الدعم لمعارضة مهترئة على هذا النحو، ولم يستطع مسؤولو الادارة الجهر بأنها معارضة لا جدوى من الاعتماد عليها، لأن هذا الاعتراف يفرض ان يكون لديهم بديل غير موجود، مثله مثل باقي مكونات وعناصر سياسة اكثر عقلانية تجاه المسألة العراقية. ان ما تفتقده واشنطن فعلا ليس معارضة عراقية فاعلة، ولكن سياسة اكثر رشادة تعتمد الحوار بدلا من القوة، والمرونة عوضاً عن التشدد المتزايد، وتضع جزرة بجوار العصا، بما يقود الى تفاهم على تنفيذ صارم لقرارات مجلس الامن في مقابل رفع تدريجي للعقوبات تبدأ مرحلته الاولى فورا. فلتجرب واشنطن هذا النهج، وستدرك بالتجربة مزايا التحول تدريجياً كذلك عن سياسة القوة في العلاقات الدولية الى سياسة اكثر ليبرالية. * رئيس تحرير "التقرير الاستراتيجي العربي".