من الواضح أن هناك تغييراً نوعياً طرأ على أداء اللجنة الخاصة المكلفة ازالة الأسلحة العراقية المحظورة اونسكوم، وهو تغيير في الشكل لا في الجوهر. لذلك استمرت حملة الشتائم العراقية ضد رئيس اللجنة الاسترالي ريتشارد بتلر. لكن هذا التغيير قد يحقق هدفاً معيناً هو ازالة المبررات لإثارة أزمة جديدة من جانب العراق. فالولاياتالمتحدة، التي خفضت حشودها في منطقة الخليج، لا ترغب في مواجهة أزمة مشابهة للأزمتين السابقتين بعدما خرجت منهما خاسرة معنوياً، ومتهمة بقصر النظر والعشوائية وعدم أخذ مصالح أصدقائها في الاعتبار. والواقع ان المبارزة بين منطقي اونسكوم والعراق مرشحة للاستمرار. فاللجنة متمسكة ب "معلومات" عن وجود أسلحة لا تستطيع العثور عليها، وبغداد مصرّة على أن كل الملفات قد عولجت ولم تبق لديها أسلحة من النوع المحظور عليها. صحيح ان لدى اللجنة معطيات فنية للمجادلة إلا أنها تعمل بدوافع وتوجيهات سياسية، ومردّ ذلك الى أن صانعي السياسة خصوصاً الأميركيين، لم يحسموا خياراتهم بعد لمرحلة ما بعد التأكد من أن اونسكوم أنجزت عملها عموماً. لا شك ان الشهور المقبلة ستكون فترة مخاض عسير ستتأثر به منطقتا الخليج والشرق الأوسط، نظراً الى الترابط بينهما والى كون الولاياتالمتحدة تخطط لهما معاً في ما يتعلق بالترتيبات الأمنية وتحديد الاستراتيجيات. هدف بغداد، ومعها العديد من الدول، هو التوصل الى رفع العقوبات، وبالتالي رفع الحصار عن البلد وإعادته الى الأسرة الدولية. في مجلس الأمن ثمة دول ثلاث، هي روسيا والصين وفرنسا، لا تخفي اقتناعها بأن العقوبات أدت غرضها وإذا لم تنجح في تحقيق أمنية اطاحة صدام حسين ونظامه فلأنها غير مؤهلة لذلك. ويبدو من النقاش الدائر حول التجارب النووية الهندية والباكستانية ان خيار العقوبات أصبح ممجوجاً، ولا يدل إلا الى عجز النظام الدولي عن ابتكار وسائل وسياسات أخرى أكثر جدوى في تحقيق ما يفترض أنه مبادئ دولية تهجس بسلم عالمي. عملياً، استخلصت واشنطن بعض الدروس من أزمة الخليج، ويبدو أنها باتت مستعدة للانفتاح على ايران بشكل متدرج ومبرمج وهادف. أي انها ستفكك سياسة الاحتواء ولو لم تعلن ذلك رسمياً. ولا يجري ذلك فقط على خلفية الاشارات والرسائل التي اطلقها الرئيس الايراني سيد محمد خاتمي، وانما يستند خصوصاً الى نقاشات بعيدة عن الأضواء بين اميركيين وايرانيين. وهكذا اقتنع الأميركيون، أخيراً، بأن هناك فرصة يجب عدم تفويتها في ايران. هذا الانفتاح على ايران لا ينهي سياسة الاحتواء كلياً، بل يتطلب "توازناً" ولو صورياً لإرضاء الموتورين الدائمين في الكونغرس. لذلك تولد اقتناع قوي بالفصل بين ايرانوالعراق. وبالتالي فإن الموقف الأميركي الراهن يستبعد أي احتمال لرفع العقوبات، بالشكل الذي تتصوره بغداد وتتمناه، وإذا طرح الموضوع فإن واشنطن لن تتردد في اعلان رفضها رفع العقوبات في ظل صدام ونظامه. وأمام الأميركيين هامش مناورة كبير توفره حزمة القرارات الدولية ذات الصلة بالغزو العراقي للكويت فضلاً عن السلوك الصدامي تجاه العراقيين والأكراد. صحيح ان حصار العراق شأن دولي لكنه تحول فعلاً الى شأن أميركي. ولعل المأخذ الرئيسي عليه يكمن تحديداً في أمرين: الأول أنه يظلم بلداً بشعبه ومستقبله من أجل هدف مشتبه به هو معاقبة النظام. والثاني ان سياسات الولاياتالمتحدة في الخليج والشرق الأوسط ظلت في قوالب جامدة ولم تتردد في استخدام الحصار ضد اصدقائها وحلفائها ترهيباً وترغيباً. من هنا لم يعد مستغرباً ان يصبح رفض سلبيات السياسة الأميركية رفضاً للحصار نفسه، لأن الحصار فرض على العراقيين وجيرانهم جميعاً ان ينتظروا، لكنهم ينتظرون المجهول.