مضت حتى الآن عشر سنوات على حادثة تفجير طائرة ل TWA الأميركية فوق قرية لوكربي الاسكتلندية، ومضت سبع سنوات على فرض الحظر الجوي على ليبيا من طرف الأممالمتحدة بسبب إحجامها عن تسليم المتهمين عبدالباسط المقرحي والأمين فحيمة للسلطات القضائية. وتناولت المسائل الفنية والفقهية المتعلقة بفرض الحظر في مقال سابق بهذه الصحيفة أوضحت بطلان فرض الحظر وتعارضه مع ميثاق شيكاغو الذي تقول المادة 4 منه: "كل دولة عضو في المنظمة العالمية للطيران المدني توافق على عدم استغلال الطيران المدني لأي غرض لا يتمشى مع أهداف هذا الميثاق". كما وتقول المادة 44 الفقرة F من ميثاق شيكاغو: "التأكد من حقوق الدول الأعضاء، وان كل دولة تجد الفرصة العادلة لتسيير رحلات جوية عالمية". لكن الواقع الآن هو استغلال الميثاق وفرض عقوبة على ليبيا وحرمانها من تسيير رحلات جوية عالمية أو دخول طائرات إلى أراضيها على رغم ان ليبيا ما زالت عضواً في المنظمة العالمية للطيران المدني وعضواً في الأممالمتحدة أيضاً. ردود الفعل والخلفيات كان اعلان محكمة العدل الدولية عن أهليتها للنظر في قضية لوكربي كافياً ليلغي قرار الحظر بصورة تلقائية، لأن الحظر عقوبة، لكن في قضية لم يتم البت فيها أو ثبوت إدانة. وكنتيجة لإعلان محكمة العدل الدولية تراجعت بريطانيا ومعها أميركا عن موقفهما المتصلب السابق الذي يطالب بتسليم المتهمين إلى السلطات القضائية في بريطانيا وأميركا وقبلتا أن تكون محاكمتهما في هولندا ولكن بشرطين أساسيين: 1- أن يكون القضاة اسكتلنديين وأن تتم المحاكمة بموجب القانون الاسكتلندي. 2- أن يستمر الحظر الجوي على ليبيا حتى يتم تسليم المتهمين للسلطات الهولندية. بعد ذلك تباينت ردود الفعل عالمياً وأيضاً من السلطات الليبية، وما جرى عالمياً لا يمس اسس القضية بصورة فاعلة، لأن المحك كان عبارة عن اجتهاد كل دولة في تفسير القانون في ضوء طبيعة علاقاتها مع ليبيا، لذلك افتت بعض الدول الافريقية ببطلان الحظر وقامت بكسره عملياً من دون ان تتعرض لأي نوع من المساءلة من الأممالمتحدة، والسبب هو انعدام أي مواد تدين الدول التي تخرق الحظر في كل من ميثاقي وارسو وشيكاغو، كذلك قانون الطيران المدني العالمي. أما موقف ليبيا فاتسم بالغموض والتردد والحيرة، فهي لم ترفض أو تقبل الاقتراح البريطاني - الأميركي بصورة واضحة أو قاطعة، وإنما لجأت إلى ترديد نغمة المطالبة بضمانات لتقوم بعملية تسليم المتهمين من دون ان توضح للرأي العام العالمي طبيعة هذه الضمانات، فهل هي: سلامة المتهمين أثناء اجراءات المحاكمة، أم ضمان عدم ترحيل المتهمين إلى بريطانيا أو أميركا، أم توفير مطلق لسبل الدفاع عن المتهمين، أم تحديد مكان تنفيذ العقوبات على المتهمين إذا ما ثبتت إدانتهما، أم كل هذا إلى جانب ضمانات أخرى لم يكشف النقاب عنها. تردد ليبيا في تحديد موقفها بوضوح ليس نابعاً من فراغ، وإنما يعود في المكان الأول إلى اسلوب ممارسة الحكم في ليبيا خلال الآونة الأخيرة، فعندما اندلعت الثورة الليبية في أول أيلول سبتمبر عام 1969 وعصفت بحكم الملك ادريس السنوسي كان المنفذون لعملية الانقلاب من تنظيم "الضباط الأحرار" يمثلون كل القبائل والبطون الليبية على اختلافها لضمان نجاح الانقلاب وكسب جماعية التأييد، لأن الكثير من الليبيين كانوا يدينون بالولاء الأعمى للبيت السنوسي إلى جانب ولاء أكثر تعصباً للعشيرة. والعقيد القذافي وزملاؤه كان يدركون هاتين الحقيقتين تماماً، ولأن "مجلس قيادة الثورة" عند قيام الانقلاب كان يضم ممثلين لكل القبائل الليبية الأساسية ذات الثقل الاجتماعي، فإن الانقلاب حظي بالقبول والتأييد من الشعب الليبي مع وجود بعض التحفظ من سكان ما يسمى ولاية برقة في شرق البلاد التي ضمت مناطق بنغازي والبيضا وطبرق والجبل الأخضر وتؤمها قبيلة البراعصة بغالبية واضحة، وكانت هذه المنطقة من ليبيا أكثر وعياً من باقي المناطق بسبب متاخمتها لمصر ووجود تجارة حدودية وتغلغل ثقافي وعلاقات اجتماعية وصلت درجة التزاوج والمصاهرة، وكانت تعادلها وعياً في الناحية الغربية لليبيا منطقة زواره التي تتاخم الجمهورية التونسية. وخلال السنوات الأولى لقيام الثورة الليبية كان لبرقه وزواره تمثيل معقول في مجلس قيادة الثورة وكانت القيادة جماعية على رغم ان الرجل الأول كان العقيد معمر القذافي. بمرور الوقت طرأت تحولات عدة في اسلوب الحكم، وبدأت التحولات بصورة لافتة عندما استحدث العقيد القذافي "النظرية الجماهيرية" التي حواها "الكتاب الأخضر" بفصوله الثلاثة، وعلى اثر ذلك دبت الشقاقات والخلافات بين صفوف "الضباط الأحرار" الذين شاركوا القذافي في عملية الانقلاب لشعورهم بأن القذافي يسعى للانفراد بالسلطة على أساس ان "نظرية الجماهيرية" لم تكن ضمن مبادئ الثورة المعلنة وإنما عمل فردي من اجتهاد القذافي، وتمكن العقيد من إبعاد البعض، وشيئاً فشيئاً تمكن من التخلص من معارضيه وانفرد بالزعامة والسلطة. وكان هذا الانفراد على حساب التحول في أسلوب ممارسة الحكم لضمان سلامته الشخصية، إذ أنه لم يجد سبيلاً لضمان هذه السلامة إلا باللجوء إلى العشيرة، لذلك انتقلت السلطة إلى بعض الأفراد بسبب الانتماء إلى القذاذفة والمقارحة بداية من أعلى المناصب إلى الاشراف على "المؤتمرات الشعبية" التي من المفترض أن تكون قاعدة الحكم في ليبيا كما ورد في "الكتاب الأخضر". فأسلوب الحكم اليوم ليس هو ذاته الذي كان سائداً قبل ثلاثين سنة عند قيام الانقلاب. كانت السلطة في البداية جماعية، ولكن بمرور الزمن تقلصت لتستقر في أيدي بعض العشائر بقيادة القذاذفة والمقارحة. ما جعل العشائر الأخرى تشعر بالمرارة والغبن، وهذا هو أكبر تهديد لاستمرارية القذافي في الحكم ولسلامته الشخصية داخلياً. إن تردد القذافي في تسليم المتهمين فحيمة والمقرحي له أسبابه المحلية والعشائرية، فاسم المتهم عبدالباسط المقرحي يدل بوضوح على انتمائه القبلي. والمبدأ في التصرف في هذه القضية أصبح الانتماء، وهو أمر لا يمكن ان يفرط فيه العقيد القذافي بعد أن أصبح الانتماء هو اسلوب الحكم في الآونة الأخيرة. فالقضية حتى الآن لم تتجاوز مرحلة الاتهام، والحصول على أي ضمانات دولية لتوفير مبادئ العدالة أصبح من أيسر الأمور في عالم اليوم، فإن كان القذافي واثقاً من براءة المتهمين لما تردد في تسليمهما عند توافر القواعد الأساسية للعدالة، لكنه يتردد على رغم الوساطات حتى من طرف الأمين العام للأمم المتحدة. وهذا ما يدفع المرء إلى الاعتقاد بوجود أسباب أخرى لا يستطيع العقيد القذافي أن يفصح عنها، على رأسها علاقات القرابة وصلات العشائر بالحكم. ويفسر الكثير من المتابعين تشدد بريطانيا وأميركا في قضية لوكربي على أنه دليل لامتلاكهما حقائق دامغة. ولربما تكشف اجراءات المحاكمة تورط بعض المسؤولين الليبيين في عملية التفجير، وسيكون ذلك بمثابة لطمة قوية للقذافي ومعاونيه ودليلاً على مساندة السلطات الليبية للارهاب، وبالتالي فرض عقوبات جديدة بمباركة من الرأي العام العالمي. ولكن يبقى الخطر الأكبر داخل ليبيا نفسها حين سيدرك الليبيون حقيقة الذين يهيمنون على مقاليد السلطة فيها إذا ما أسفرت اجراءات المحاكمة عن تورط المسؤولين. * كاتب وصحافي سوداني مقيم في بريطانيا.