يبدو اليوم، في شكل متزايد، ان عقبات كثيرة تعترض الخطة الأميركية - البريطانية الخاصة بإجراء محاكمة للمتهمين الليبيين في قضية لوكربي أمام محكمة اسكتلندية في هولندا. فما هو وضع هذه الخطة اليوم، وما هي حظوظها في النجاح؟ لا بد من الإشارة، في البدء، الى ان ليبيا لم تعد اليوم في موقع الدفاع الذي التزمته منذ فرض العقوبات الدولية عليها في نيسان ابريل 1992. إذ لا يختلف إثنان على انها باتت الآن في موقع الهجوم الذي يقوم على شكل "حرب استنزاف" طويلة الأمد لا يبدو ان أميركا وبريطانيا مستعدتان اليها. وتعرف ليبيا، من دون شك، انها تملك ورقة التفاوض الأساسية في مواجهة أميركا وبريطانيا اللتين خسرتا ورقة العقوبات وعمادها الحظر الجوي المفروض على طرابلس الحدود البرية لليبيا لا تتأثر بالحظر. ويظهر فشل الحظر، في أوضح صوره، في انتهاك الزعماء الأفارقة، الواحد تلو الآخر، منع الطيران المباشر من ليبيا واليها. ولعل طيران ستة زعماء أفارقة رؤساء السودان واريتريا وتشاد ومالي والنيجر وجمهورية افريقيا الوسطى مباشرة الى طرابلس، قبل أيام، للإحتفال مع الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي بانقلاب "الفاتح" الذي قاده الى السلطة قبل 29 سنة، يُمثّل أكبر تحدٍ للعقوبات على ليبيا التي فرضها مجلس الأمن، خصوصاً ان هذا يبدو عاجزاً عن اتخاذ أي إجراء في حق الذين خرقوا قراراته، وهم كُثُر لا شك. وإضافة الى ورقة فشل العقوبات، تعرف ليبيا انها تملك ورقة أخرى لا تقل أهمية. إذ ان أميركا وبريطانيا تبدوان عاجزتين عن فرض أي عقاب جديد على ليبيا لرفضها تسليم المتهمين في قضية لوكربي السيدين عبدالباسط المقرحي والأمين خليفة فحيمة. ويبدو، في هذا الإطار، التهديد الذي ضمّنته واشنطنولندن في مشروعهما الأخير الى مجلس الأمن تبناه تحت الرقم 1192، باللجوء الى فرض عقوبات إضافية على طرابلس اذا لم تسلّم المتهمين الى هولندا للمحاكمة، تهديداً غير جديٍّ. إذ تعرف طرابلس ان شريان الحياة الإقتصادية فيها لن يسوء أكثر مما هو الحال حالياً، سوى باغلاق انابيب تصدير النفط والغاز، عماد إقتصادها. وتعرف طرابلس كذلك ان تلويح واشنطن - لم تجارها لندن في ذلك - بالسعي الى توسيع العقوبات عبر فرض حظر نفطي عليها اذا لم تسلّم المتهمين الى لاهاي هو تلويح فارغ لأن أميركا ما كانت لتنتظر حتى اليوم لو استطاعت فرضه في السنوات الماضية. وتعلم واشنطن، مثلما تعلم طرابلس، ان غالبية دول اوروبا الغربية لن تتجاوب مع أي مسعى لفرض حظر على صادرات ليبيا من النفط والغاز، وهي صادرات تنتهي في أسواق أوروبا. ماذا تريد ليبيا اليوم؟ لا يبدو ان ليبيا قد حسمت موقفها بعد. إذ انها لا تزال تدرس كيفية التعاطي مع المشروع الأميركي - البريطاني في خصوص المحاكمة في هولندا. ويتجلّى ذلك خصوصاً في الارتباك في مواقف طرابلس من المشروع الغربي. إذ في حين أعلن الزعيم الليبي، في البدء، انه يوافق على خطة واشنطنولندن ومستعد لنقل المتهمين الى هولندا فور حصوله على بعض "الضمانات" في شأن إجراءات المحاكمة، يبدو اليوم انه غيّر موقفه. إذ قال في خطابه، أمام زوّاره من الزعماء الأفارقة ليل السبت - الأحد، انه يرفض خطة هاتين العاصمتين، في شكلها الحالي. غير ان "الضمانات" التي يُطالب بها الليبيون لا يبدو انها ستكون محل ترحيب في أميركا أو بريطانيا. إذ ترى الدولتان ان ليبيا "تراجعت" اليوم عن قبولها، قبل سنوات، بإجراء المحاكمة وفق القانون الاسكتلندي في دولة ثالثة، غير أميركا وبريطانيا. وكانت ليبيا كررت مراراً في السابق انها تقبل بمحاكمة اسكتلندية في هولندا. لكنها باتت اليوم تطالب بأن لا يكون في هيئة المحكمة الاسكتلندية سوى قاضٍ اسكتلندي واحد مع أربعة قضاة آخرين من دول أخرى تشارك ليبيا في اختيارهم لضمان حيادهم. وإضافة الى هذا المطلب، تشترط طرابلس عدم تسليم الرجلين الى خارج هولندا، مهما كانت نتيجة الحكم عليهما، براءة أو إدانة. كذلك تشترط ان يقضي الرجلان فترة عقوبتهما، إذا دانتهما المحكمة، في ليبيا، وهما أصلاً يعيشان حالياً في إقامة جبرية تحت حراسة أمنية في طرابلس. ولن تقبل لندنوواشنطن، على الأرجح، بمثل هذا المطلب. ويعتقد بعض الأوساط ان هذا المطلب الليبي يدخل ضمن استراتيجية تقضي بان لا يتعاون المتهمان مع المحكمة، خلال محاكمتهما، مع توقّع صدور قرار منها بادانتهما. ويبدو ان ليبيا تريد، من وراء ذلك، تلافي إمتداد تحقيق المحكمة مع الرجلين الى طلب مثول شخصيات أُخرى في الحكم. لكن ذلك يبقى من باب التكهّن، طالما ينفي المتهمان علاقتهما بتفجير الطائرة الأميركية فوق لوكربي عام 1988. والمعروف ان واشنطن لم تكشف حتى اليوم أدلتها ضد الرجلين، وهو أمر تقول انه يُعلن في المحكمة حال مثولهما أمامها. عشر سنوات مرّت منذ تفجير الطائرة، وسبع منذ توجيه الإتهام. لكن يبدو ان مصير المحاكمة سينتظر من سيكون أطول نفَسَاً: أميركا وبريطانيا، أم ليبيا. وقد أثبتت ليبيا، حتى اليوم، ان نفسها بالغ الطول.