تشكل تقييدات حرية الحركة والتنقل داخل الارض الفلسطينية او السفر منها الى الخارج مظهراً بارزاً من مظاهر محنة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة باعتباره احد تجليات السياسات والتدابير التي واظبت سلطات الاحتلال الاسرائيلي على انتهاجها منذ الايام الاولى للاحتلال. لكن مشكلة التنقل والحركة والسفر لها وقع خاص على اهالي قطاع غزة، وخصوصاً فئة الشباب وتحديداً الطلبة لذين يدرسون في جامعات ومعاهد في الضفة الغربية. ويعود ذلك الى اختلاف الاجراءات المعتمدة بحق الغزيين، الى درجة انه اصبح محظوراً على الطلبة الغزيين الذهاب الى الضفة الغربية والبقاء فيها لغرض الدراسة او لأي غرض آخر. وعليه، اذا كنت طالباً من قطاع غزة وقررت الدراسة في جامعة او معهد في الضفة الغربية، او تريد الالتحاق بجامعتك التي بدأت الدراسة فيها قبل بضع سنوات، عليك ان تتحلى بروح المغامرة، وان تكون قادراً على ابتكار خطط جهنمية لبلوغ مرادك. ومن هذه الخطط، على سبيل المثال، ان تسافر الى الضفة الغربية عبر مصر والاردن، بعد الحصول على تأشيرة سفر الى تركيا او بريطانيا او اي دولة اجنبية اخرى لتتمكن من دخول الاراضي المصرية، وعلى ورقة عدم ممانعة اردنية لتتمكن من دخول الاراضي الاردنية. او عليك ان تسلك مساراً آخر، كأن تسافر براً الى القاهرة ومنها جواً الى مطار بن غوريون بالقرب من تل ابيب. ورغم كل ذلك، فوصولك الى الضفة الغربية ليس مضموناً. ففي الحالتين تنتظرك مفاجآت، كأن تتم اعادتك، في الحال الاولى الى الاردن، بعد استجوابك، على نقطة العبور "جسر اللنبي"، ومنه الى مصر بعد الحصول على تأشيرة دخول من القنصلية المصرية في مدينة العقبة الاردنية بعد ابراز بطاقة الهوية التي تثبت انك من سكان قطاع غزة. اما، في الحال الثانية، تتم احتجازك ساعات في زنزانة اعدت خصيصاً للنزلاء من غزة قبل ان يتم اعادتك الى القطاع. وهذا يعني ان تعود في الحالتين الى حيث انطلقت. اما اذا حالفك الحظ فتصل الى مقصدك في الضفة الغربية، وغالباً ما تقرر عدم مغادرتها لزيارة ذويك في قطاع غزة ضماناً لمواصلة تحصيلك العلمي، وتجنباً لما حلّ بك في وقت سابق. التتبع الزمني للاجراءات الاسرائيلية بشأن تقييد حركة الفلسطينيين وتنقلهم يقودنا الى ايام الاحتلال الاولى، لأن هذه الاجراءات تشكل ركناً ثابتاً في سلوك المحتلين. ولكن مع قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية في اواسط العام 1994، جرى وضع المزيد من العراقيل امام تنقل وسفر المواطنين. وتعاملت السلطات الاسرائيلية مع نقاط العبور الى قطاع غزة كنقاط حدودية مع جهة معادية، فأقامت سلكاً اليكترونياً يفصل بين القطاع واسرائيل ما حال دون تسرب الافراد عبر الحدود، وانعدمت امكانات استخدام تصاريح السفر الى الاردن كمبرر للمرور، وزادت نسبة الطلبات المرفوضة بشكل ملحوظ، اذ لم تمنح التصاريح الا لقلة قليلة، كذلك تغير الاجراء المتبع في تقديم الطلبات، واصبحت لا تقدم مباشرة الى الادارة المدنية الاسرائيلية، وانما من خلال الارتباط المدني الفلسطيني، الامر الذي لم يعد معه ممكناً ان يراجع اصحاب الطلبات المرفوضة الادارة المدنية للاستفسار عن سبب الرفض، وهو ما كان يؤدي في بعض الحالات الى التراجع عن قرار الرفض. وهناك انطباع بأن السلطات الاسرائيلية تقصد من هذه القيود الضغط على السلطة الفلسطينية واظهارها كسلطة عاجزة، وبالتالي ليس لهذه التدابير المشددة اي موجب امني قوي. وللدلالة على ذلك، لمح الحكام الاسرائيليون للمواطنين، عشية قدوم السلطة، بأن اوضاعهم ستزداد سوءاً، خصوصاً في ما يتعلق بمنحهم التصاريح. وعلى سبيل المثال، افاد الطالب جمال محمد صافي، من مخيم البريج وطالب في جامعة بيرزيت، انه عندما ذهب، عشية قدوم السلطة الفلسطينية، الى مقر الادارة المدنية الاسرائيلية في دير البلح لتسلّم تصريح الذهاب الى الضفة، قال له الحاكم الاداري لمنطقة دير البلح وهو يسلمه التصريح: سيأتي الوقت الذي ستتمنى فيه ان تعود الى المرحلة التي كنت اسلمك فيها التصريح بنفسي. وبلغت التشديدات الاسرائيلية ضد اهالي قطاع غزة، خصوصاً الطلبة، ذروتها في نهاية شهر شباط فبراير 1996، بعد وقوع اربع عمليات انتحارية ضد اهداف اسرائيلية، اذ تغيرت السياسة المتبعة على النحو الآتي: اتصلت الادارة المدنية الاسرائيلية بجامعات الضفة الغربية، وابلغتها بأن على طلبة قطاع غزة مغادرة الضفة الغربية لأن وجودهم فيها اصبح غير قانوني، واعقبت ذلك بحملة ملاحقة واعتقال للطلبة وترحيلهم الى غزة، وأبلغت الادارة المدنية الجانب الفلسطيني بأنها توقفت عن اصدار التصاريح للطلبة، بينما استمرت باعطائها لفئات اخرى، ولكن على نطاق ضيق، اذ تحدد سن مقدم الطلب بأربعين عاماً فأكثر، وأصبح الحصول على التصريح يقتضي عموماً ما يُعرف بپ"الواسطة". الى ذلك، تقلصت كثيراً فترة التصريح، واصبحت لساعات، وفي احسن الاحوال ليوم او يومين او ثلاثة. ولم تسفر المحاولات التي بذلها طلبة الجامعات والارتباط الفلسطيني عن حل لهذه المشكلة. ومجمل هذا الوضع دفع بالطلبة البحث عن طرق اخرى للالتحاق بجامعاتهم في الضفة الغربية. وعلى صعيد السفر الى الخارج، تراوحت الاجراءات الاسرائيلية بين حظر السفر كلياً لأيام محددة في مناسبات وحوادث معينة، وحظر السفر على اشخاص محددين، لأسباب امنية مبهمة، كانوا يعدون في اي وقت بعشرات الآلاف، وبين فرض قيود على فئات عمرية شبابية. ومن هذه القيود اشتراط سفر من تقل اعمارهم عن 25 عاماً بمكوثهم في الخارج فترة لا تقل عن ستة اشهر، ثم جرى في سنوات الانتفاضة رفع العمر الى 35 عاماً، والفترة الزمنية الى تسعة اشهر. ومع ان هذا القيد توقف، الا ان سياسة حظر السفر ما زال معمولاً بها. وحتى لو سمحت سلطات الاحتلال لشخص ما بالسفر واجتياز اي من نقاط العبور، يتم ارجاعه من قبل السلطات الاردنية لمن يسافر عبر "جسر اللنبي" او السلطات المصرية لمن يسافر عبر معبر رفح. كما ان دخول الاراضي الاردنية لسكان غزة يتطلب الحصول على ورقة عدم ممانعة من السلطات الاردنية، يستغرق الحصول عليها شهراً. وقد لا يتم الحصول عليها. بينما يتطلب دخولهم الاراضي المصرية اثبات ان المسافر لا ينوي البقاء في مصر، وانه يستخدمها للمرور فقط. والاثبات يكون عادة من خلال ابراز تأشيرة دخول لبلد آخر وتذكرة طيران اليها. كما هو واضح ان واقع الحال لم يتغير في ظل العملية السياسية التفاوضية الراهنة التي انطلقت في مؤتمر مدريد في خريف 1991، ولا في ضوء ما تمخضت عنه من اتفاقات ومذكرات تفاهم بين الجانبين الاسرائيلي والفلسطيني على رغم ما تضمنته من بنود بشأن التنقل بين الضفة الغربية وقطاع غزة. كما ان سياسة فرض الحصار او الاغلاق على الاراضي الفلسطينية ككل، او اجزاء منها لم تتغير وان خفت وتيرتها. وعندما يفرض الحصار او الاغلاق، تتفاقم محنة الفلسطينيين في ظل الاجراءات المشددة المفروضة التي لا تأخذ في الاعتبار الحالات الانسانية. فعلى سبيل المثال، وضعت المواطنة زاهية حرب، من قرية قبيا في محافظة رام الله، مولودها بتاريخ 11/8/1997 على الحاجز العسكري المقام على المدخل الغربي لمدينة رام الله، بعد ان رفض الجنود السماح للسيارة التي تقلها بالدخول الى رام الله والوصول الى المستشفى، على رغم علمهم ان السيدة زاهية على وشك الولادة. ولم يسمح الجنود للسيارة بالدخول الا بعد حدوث الولادة. وفي حادثة اخرى في شهر تموز يوليو 1997، مُنع 25 طفلاً تتراوح اعمارهم بين 10 الى 12 عاماً من الالتحاق بعائلاتهم في الضفة الغربية، بفعل الحصار الشامل الذي كان مفروضاً على الاراضي الفلسطينية في اعقاب حادثي تفجير انتحاريين، وارغموا على البقاء في غزة بعد ان عادوا اليها عبر معبر رفح اثر مشاركتهم في معسكر صيفي في المغرب. علماً ان بحوزة هؤلاء الاطفال تصاريح تسمح لهم بدخول القطاع والعودة الى اماكن سكناهم في الضفة. جرى في مذكرة التفاهم التي تم التوقيع عليها في "واي ريفر" بتاريخ 25/10/1998 التأكيد على تسيير الممر الآمن وفتح المطار البند 3، الفقرتان 3، 4. واتفق الجانبان على تشكيل لجنة مصغرة لاستكمال بحث الاجراءات والوثائق التي يستخدمها المسافرون في الممر الآمن، تمهيداً لانهاء بروتوكول الممر الآمن. علماً ان المسؤولية الامنية على الممر الآمن لاسرائيل التي تملك صلاحية الموافقة او الاعتراض على مرور الاشخاص. وهذا ما تم تأكيده خلال اجتماع اللجنة الاسرائيلية - الفلسطينية لشؤون الممر الآمن في "نيفيه ايلان" بتاريخ 22/11/1998 حين اتفق الجانبان على ان تقوم اسرائيل بفحص الاوراق الشخصية للفلسطينيين الذين يستخدمون الممر الآمن، وان من حقها فرض "فيتو" مرور اشخاص تشتبه في انهم قد يضرون بأمنها. ومن المتفق عليه، ايضاً ان تكون نقاط عبور الممر الآمن النقاط الآتية: نقطة عبور ايرز للاشخاص والمركبات فقط، نقطة عبور كارني للبضائع فقط، نقطة عبور ترقوميا، ونقطة عبور ميفو حورون. بروتوكول اعادة الانتشار والترتيبات الامنية لعام 1995، المادة العاشرة، البند1، فقرة ج. من المفيد التنويه ان النقطتين الاولى والثانية موجودتان في قطاع غزة وتستخدمان لحركة الاشخاص والبضائع بين اسرائيل وقطاع غزة. اما الثالثة والرابعة فلم يتم افتتاحهما، علماً ان هناك اتفاقاً على تشغيل نقطة ترقوميا بداية، وهي النقطة التي ستربط جنوب الضفة بقطاع غزة، بينما ستواصل البحث حول موقع النقطة الاخرى، اذ تريد اسرائيل ان تكون في بلدة بيتونيا المحاذية لرام الله، بينما يريد الجانب الفلسطيني ان تكون محاذية لحدود عام 1967 الى الغرب من رام الله. في حال تشغيل الممر الآمن يخشى، في ضوء التجارب السابقة، ان تعمل اسرائيل على تعطيل الحركة فيه كلياً او لفترات تحدد هي امدها، متذرعة بالحجج الامنية، ما دامت تضطلع بالمسؤولية الامنية الكاملة عنه، وما دام يمر عبرها. من ناحية اخرى، تبقى امكانات الاستفادة من المطار في غزة لسفر المواطنين من الضفة الغربية مرتبطة بتشغيل الممر الآمن بشكل اعتيادي. كما ان امكان استخدامه من قبل المواطنين عموماً تبقى مرهونة بطاقات الملاحة الجوية الفلسطينية التي ما زالت محدودة جداً، وبمزاج اسرائيل التي تتولى مسؤوليات مشابهة لتلك القائمة في المعابر الاخرى. ما ينبغي ذكره ختاماً بشأن حركة وتنقل الفلسطينيين داخل الارض الفلسطينية والى خارجها، ان محنة الفلسطينيين، وبالذات طلبة قطاع غزة على هذا الصعيد ستتواصل، وما من حل جذري لها من دامت السلطات الاسرائيلية تضطلع بالمسؤولية الامنية على الحدود والمعابر، وما دامت تتخذ من الامن ذريعة لسائر سياساتها واجراءاتها، خصوصاً التقييدية منها. ولا ترمي هذه التدابير اساساً الى تحقيق غايات امنية بقدر ما ترمي الى تضييق الخناق على المجتمع الفلسطيني واضعافه، وبالتالي منعه من ممارسة حقوقه الوطنية المشروعة في العودة وتقرير المصير واقامة دولته المستقلة. * كاتب في مركز اللاجئين والشتات الفلسطيني شمل، رام الله.