يصعب من نقطة التماس الاخيرة، على الحدود بين بيت حانون، وقرية ديرسيد التي بقيت ضمن الاراضي التي احتلتها اسرائيل في العام 1948، رؤية هذه القرية الاخيرة بالعين المجردة وانت تقف في الموقع الاخير للكتيبة الثالثة الذي يلاصق الجدار الاسمنتي الذي اقامه الاسرائيليون على هذه الجهة الشمالية من الحدود. يقترح احد الجنود الصعود فوق المبنى الحجري الصغير للموقع، لكي يمكن التحقق مما اذا كانت الارض الملاصقة بعد السياج تعود الى قرية دمرة، ام الى ديرسيد، حتى يستطيع الاولاد الذين ولدوا في المهجر، ان ينظروا الى المكان الذي عاش فيه طوال الوقت اجدادهم. لكن من نفس المكان، ودونما حاجة الى صعود المبنى، يستطيع الواقف، عصر يوم، ان يرى بزاوية انحراف قليلة الى الجنوب، وغير بعيد من نقطة وقوفه رؤوس العمال الفلسطينيين المصطفين في طابور طويل، وهم عائدون من عملهم في نهاية نهار شاق، مجتازين معبر ايريز. من هذا المعبر الضخم الذي يضم مبنى الادارة المدنية التي كانت قبل الانسحاب الاسرائيلي من قطاع غزة، هي السلطة الفعلية التي تدير شؤون الاحتلال، في ما يتعلق بالامور الحياتية للفلسطينيين: التعليم، والصحة، والضرائب، والتصاريح، …الخ. وشهدت معظم اجتماعات القمة، بين الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات والزعماء الاسرائيليين اسحق رابين، وشمعون بيريز، وبنيامين نتانياهو، التي كانت تعقد على مدى السنوات الاربع الماضية على فترات متباعدة تقريباً. وعلى رغم مطالبة السلطة الفلسطينية مراراً، بحل هذه "الادارة المدنية"، باعتبار ان بقاءها، حتى بعد ترحيلها من مبنى "ابو خضرة" في قلب غزة، الى ان تكون جزءاً من مباني معبر ايريز، الا انها هذه الادارة لا زالت تضطلع ببعض المهام، التي لها علاقة بتسيير جزء غير بسيط من امور الفلسطينيين الحياتية. خلف الحائط الشاهق، المبني بالاسمنت، على غرار حائط برلين الشهير، تقف عدة باصات اسرائيلية، فيما الجرافات على مسافة غير بعيدة تزاول العمل. يقول الضابط: هذه محطة باصات مركزية لنقل العمال، او العابرين. ومن اين ستكون بوابة الممر الآمن؟ والجواب ايضاً من هنا.. من تحت هذه المظلة الحديدية الضخمة، التي يصورها دائماً مراسلو التلفزيون، كلما ارادوا ارسال صورة تحكي من دون صوت، عن الاغلاق، حيث تبدو طريقاً عريضة جداً، تقسمها مسارب طويلة موغلة في العمق، تقطعها الكتل الاسمنتية الضخمة لنقاط التفتيش. ان معبر ايريز هو الواجهة الامامية لما يسمى باسرائيل،وتبدو هذه الواجهة بتعقيدها، ومساربها، والكتل الاسمنتية، والحديد الذي يظللها، وابراج المراقبة، والاعلام الزرقاء والبيضاء، ورؤوس العمال في الطابور الطويل، في المسرب الذي لا ينتهي، تعبيراً اكثر خشونة ورهبة، وفظاظة عما كانه هذا الحوت الضخم المتقلص الآن، في هذه النقطة المركزة للاحتلال الاسرائيلي. وبالعين المجردة، تبدو التلاوين التي توزع حدود المكان، ملمحاً آخر لهذا التعارض الاكثر ايذاء للبصر، وللتعبير عن حقيقة الواقع بين الكتل الاسمنتية والحديدية، المنحرفة الى العمق داخل حدود الفلسطينيين، وبين المستوطنة الحدودية، التي ترتفع على تلة قبالة بيت لاهيا داخل اراضي السلطة الوطنية، بقرميدها الاحمر الزاهي، وطلاء منازلها الابيض، الى الموقع الفلسطيني ذي البناء الحجري البسيط. والخلاء الذي يحجبه هذا الحائط الاسمنتي الشاهق، ويحول دون تحديد التخوم الفاصلة، بين ماكان يسمى هنا قرية ديرسيد، ودمرة. من على هذه النقطة، سوف ينطلق مسربان جديدان. محور جنوبي، وآخر شمالي. يصل الاول ايريز ببلدة ترقوميا الى الجنوب من مدينة الخليل، فيما الثاني، يصل من هذه النقطة الى رام الله. وبعد اربع سنوات من الاخذ والعطاء، امكن اخيراً ان يبدأوا بتخليص الفلسطينيين في كلا الشطرين من الارض التي تم نقلها الى السلطة، الضفة الغربية وقطاع غزة، مما كان يبدو وكأنه حصار وعزلة الى الابد. ويقول المسؤولون الفلسطينيون، ان هذا سيضع نهاية للحصار الاسرائيلي، وهو سيؤكد الوحدة الجغرافية، ما بين اراضي السلطة الفلسطينية، ويؤدي الى تغيير حياة الناس اقتصادياً الى الافضل. وربما يؤثر بنفس القدر في امزجتهم، فمزاج العزلة والحصار، غير مزاج الحرية والتنقل. وهكذا يستبشرون خيراً، فلعل وعسى! لكنهم قبل ذلك، يحتاجون الى مناقشات اخرى للاتفاق على الاجراءات الاخيرة لموعد وآلية تشغيل الممر الجنوبي اولاً، وهذا ما يبحث في لقاء يعقده الجانبان تقرر موعده مع بدء سريان تنفيذ الاتفاق. وبعد ان يبحثوا في الموعد الذي تحدد بعد اربعة اسابيع من الاتفاق، سوف يبحثون في المسألة التالية، وهي الايام التي سيغلق فيها الممر. وتصاريح العبور في المنطقة الصناعية في كارني، توصلوا الى عدم الاغلاق حتى في حال حدوث عمليات تستوجب الاغلاق. اتفقوا على استثناء المنطقة الصناعية، لئلا "يطفش" اصحاب رؤوس الاموال. فالمال حساس للخسارة. ولايحتمل الازعاجات. اما في الممر، فقد اختلفوا حتى الآن، حول عدد الايام التي سيغلق فيها لا بسبب مشاكل امنية، ولكن بسبب الاعياد هذه المرة. اذ طلب الاسرائيليون اغلاق الممر في ايام السبت والاعياد اليهودية، فيما طالب الفلسطينيون باغلاقه فقط خلال الاعياد وهي ثلاثة ايام فقط، وفق ما جاء في الاتفاق. وبشأن التصاريح، يطالب الاسرائيليون بأن يحصل المسافرون على تصريح للمرور قبل 48 ساعة من موعد ركوبهم للمر الآمن، لكن الفلسطينيين يبحثون في اجراءات اقل تعقيداً للحصول على هذه التصاريح. وفي التفتيش الامني ستكون الاجراءات بالنسبة الى الافراد والسلع كما هو معمول الآن، على معبر ايريز، وزيادة في التدقيق والمتابعة، ستكون هناك مراقبة تعمل داخل الممر، متحركة طوال الوقت، والرجلان اللذان يقرران بحث كل هذه المسائل، هما اللواء عبدالرزاق اليحيى، وايمي بلانت المدير العام لوزارة الداخلية عن الجانب الاسرائيلي. لكن عدا ذلك، سيكون مسموحاً للفلسطينيين السفر بسياراتهم الخاصة، كما في باصات مغلقة للأشخاص الذين تشتبه فيهم اسرائيل. اما كبار المسؤولين، حملة بطاقة الشخصية المهمة، فلن يجري تفتيشهم. ويقال ان الرئيس ياسر عرفات قد يسافر على الطريق البري بعد فتح الممر، بدلاً من استخدام طائرته الهليكوبتر في التنقل بين غزة والضفة، كما هو حاصل الآن. ويكتفي فقط، بطائرة الرئاسة، في تنقله بين مطار غزة الدولي وباقي عواصم العالم. لربما يردد عرفات في الطريق البري الذي يربط غزة بالضفة، مروراً باسرائيل او ما كان يسمى فلسطين التاريخية، عبارة من وحي الخاطر نقلها عنه كريم بقرادوني ايام كان يقطع الطريق البري في لبنان، طريق بيروت - دمشق: "اما انا فأصل ما يقطع". فقد يمكن التثبت حقاً بعد فتح الممر الآمن، حتى ولو عبر التصاريح الكريهة، ان ارض فلسطين المقطعة قد امكن اعادة وصلها، وكذا يسمر الاولاد الذين ولدوا في المهجر، في الشتات الفلسطيني، بأرض قرية ديرسيد، لكي يصلوا الماضي المنقطع بالحاضر الذي لا يزال قلقاً. هنا كان اجدادهم قد زرعوا، ومن هنا رحلوا، وفي الطريق الواصل، يعيدون وصل ما انقطع ويعيدون ربط التاريخ. فالتاريخ هو قصة الأمكنة.