ها هي السلطة العراقية وقد اعلنت فجأة عن استقبال وفد من "قوى عراقية" موجودة في الخارج، ذهب الى بغداد، وأقام حواراً قيل انه استغرق ما يقرب من 15 ساعة على مدى يومين، التقى خلالها وزير الداخلية محمد زمام وعبدالغني عبدالغفور عضو القيادة القطرية لحزب البعث، وحامد حمادي الوزير السابق ومستشار رئيس الجمهورية، ومسؤول العلاقات في القيادة القطرية لحزب البعث، بالاضافة لسعدون حمادي الغني عن التعريف. هذا في حين ذكرت مصادر في بغداد وعمان ان نائب رئيس مجلس قيادة الثورة عزة الدوري اشرف على تلك العملية، وانه هو ونائب رئيس مجلس الوزراء طارق عزيز كانا وراء التحضير لها وظلا يتابعانها منذ مدة. حين يلتقي كل هذا الحشد مع المسؤولين، و قيادي الصف الاول في السلطة، والحزب الحاكم، مع جمع من الاشخاص المجهولين ومع "احزاب" لم يسمع بها احد من قبل، فان اشياء كثيرة تتبادر للذهن منها ان السلطة تريد الايحاء بمدى الاهمية التي اصبحت توليها لمسألة الحوار الوطني، سواء تلبية لمطلب لم يعد بالامكان التهرب منه او كجزء من محاولات قطع الطريق على احتمالات تطور المواجهة الراهنة وبلوغها حد اقامة "حكومة منفى" او "حكومة موقتة" من بين قوى المعارضة بدفع من الولاياتالمتحدة، وبحكم ما قد تخلقه من امر واقع ينجم عن توالي الضربات العسكرية وتشديد الضغط الاقليمي ما يضعف السلطة للحد الذي يصبح امر تغييرها مهمة عربية واقليمية تكون وقتها ضرورية لتحاشي ما هو أسوأ. وسوى هذا فان تلك "القوى" التي جيء بها الى بغداد لا تشكل بحد ذاتها اي مغزى يمكن ان يترجم عملياً. قد يكون هنالك من يظن داخل السلطة الآن بأنه نجح في فتح الباب المفضي الى "الحوار" الذي تحتاجه السلطة، في التوقيت المناسب، وحسب رغبة النظام الدائمة في الامساك بخيوط هذه القضية التي لم تفلح في السنوات الثماني الماضية في ادارتها، وعجز عن الامساك بها، لكن ليس من الصعب اكتشاف الى اي حد يمكن ان يكون هذا الظن في غير محله، فهذه القوى من السهل الطعن بصدقيتها او بقيمتها التمثيلية حتى لو اريد اظهارها بمظهر "المتصلب" الذي يردد المواقف المعلنة للتيار الرائد في تبني مبدأ "الحوار الوطني" والحوار مع السلطة، ويظل ما هو حاسم بعد هذا، مدى الحاح الحاجة التي عادت لتدفع بقيادة السلطة اخيراً وفجأة الى اطلاق هذا البالون المزركش. وبعدما اظهرت هذه حاجتها الملحة على هذا الصعيد، فانها اصبحت امام مأزق لا تملك ما يلزم من الوسائل للخروج منه الا عن طريق العودة الى فتح باب الحوار الجدي او الاضطرار لاتخاذ خطوات "ادارية" منفردة تتحول معها قضية الديموقراطية الى قرارات حكومية. فلا احد سيذهب الى هناك، اذا لم يتم اتباع الطريق المستقيم والمباشر، ولم تطرأ اية اسباب من شأنها ان تجعل التيار الوطني المؤمن بالحوار يقبل طرقاً متعرجة وجانبية يشوبها الغموض والشك، ويعلم ممثلو السلطة، بأن هذا التيار اختبر مسألة الحوار واشبعها درساً بعد 2 آب اغسطس 1990 حتى اللحظة الحاضرة، وهو ينظر اليوم الى ما يجري بذهول، بعدما سمع بهذه الخطوة الغريبة، التي استضافت ولا بد الى سلسلة الغرائب والاعاجيب التي ظل النظام يبتدعها على مدى الفترة الماضية بلا كلل، تهرباً من تبعات التحول الفعلي نحو التعددية والديموقراطية. من الواضح ان السلطة ارادت بما اقدمت عليه، ان تنزع المبادرة من يد التيار الوطني المؤمن بالحوار، وخصوصاً في مجال رهن اي انتقال بالحوار الوطني الى حيز التطبيق العملي بتحقق شروط اساسية لا يمكن من دونها بدء عملية التحول نحو الديموقراطية فهذا "التكتيك" ظل يشعر السلطة بالعجز وهي تواجه قوى، تقف ضد العدوان الاميركي، وضد الحصار، ولا ترفع شعار اسقاط السلطة، وتؤمن بالحوار وتعتبره وسيلة التغيير المناسبة للظروف والمتوافقة مع طبيعة التحول المنشود نحو الديموقراطية ، وتقول في الوقت نفسه: نحن موجودون هنا في الخارج، نحاور على هدف "تغيير النظام"، فاما ان توضع أسس واضحة وثابتة تؤمن هذا التغيير والا فنحن باقون في مكاننا، نواصل عملنا الوطني ضد الحصار والعدوان ونطالبه بالتغيير. ولا يوجد الشيء الكثير لكي يقال الآن، فقد سبق ان انتهت النقاشات الى خلاصة مفادها ان مسألة التحول نحو التعددية والديموقراطية هي حتمية موضوعية من جهة وملحة بسبب العدوان والتحولات العالمية، وان هذه المسألة اما ان تتحقق "وطنياً" او انها ستتحول الى شعار وذريعة من ذرائع العدوان، على العراق وشعبه وحركته الوطنية. انتهى نظام الحزب الواحد، قيلت هذه الحقيقة، منذ اكثر من ثماني سنوات، بينما ظل النظام يصرّ على "الخروج من المحنة منفرداً كما دخلها منفرداً"، واستمر واثقاً من نفسه ومن قدرته على الخروج من المواجهة كما هو، هذا بينما كان التيار الوطني المؤمن بالحوار توصل في سياق استكمال رؤيته على الصعيد العملي الى اعتماد مفهوم يجعل حزب البعث الحاكم نفسه طرفاً في عملية التحول، فألقى على هذا مسؤولية صعبة وجعله يقف بمواجهة نفسه وامام تحديات تصل الى حدّ الثورة داخل الحزب والسلطة فلا تغير ديموقراطي من دون تغيير في مجمل البنية الوطنية وفي عموم المفهوم السياسي العراقي. وينطوي المقترح الذي يوصي بقيام "لجنة عليا للعمل الوطني" تضطلع بمهمات التحول الوطني نحو الديموقراطية ضمن اجل زمني محدد، وتكون ذات صلاحيات استثنائية وتتشكل من ممثلين عن التيار الوطني ومن اعلى المراتب في قيادة الحزب الحاكم والسلطة على الابعاد التي يجب ان تتناولها عملية التحول مدار البحث، وتفاصيل هذا المقترح قدمت قبل بضع سنوات، ونشرت مراراً، وهي ما تزال حيّة وصالحة على رغم فوات الكثير من الوقت الثمين، وتعاظم التحديات والضغوط والمخاطر، واهم ما في ذلك المقترح انه يربط التحولات القانونية والدستورية، باعادة بناء الحركة الوطنية حتى تتواكب "دقرطة" القوى السياسية، الوطنية بما فيها حزب البعث مع التقنيات والتشريعات الضرورية بحيث تتوافق عملية التحول حين تصل اجلها المقرر مع بدء غياب الاحزاب القائمة الآن، فلا بد من انتقال هذه القوى من حالها الحاضرة لتكتسب بنية وتكويناً وطرقاً في الممارسة تتناسب وطبيعة حقبة تاريخية جديدة تفرض عليها ان تغدو قوة دفع للعملية الديموقراطية التي ستطبع من هنا وصاعداً العمل الوطني وتحركه، والديموقراطية لا تقوم ابداً من دون ديموقراطيين. كان ممثلو السلطة يدعون منذ طرحت مسألة الحوار الوطني قبل بضع سنوات بان الحركة الوطنية متشظية، وان التيار الوطني لم يتشكل في اطار سياسي، وهو ما كان يمثل عقبة تدعي السلطة انها لا تستطيع تجاوزها لانه كدولة لا بد ان تتحاور مع "جهة منظمة" اي انها تريد عقد الحوار مع قوى محددة وثابتة الملامح وهو ما يساوي في الظروف الحاضرة طلباً تعجيزياً او في اقل تعديل غير واقعي ناهيك عن انه يفرض رجحاناً مسبقاً لكفة السلطة وحزبها. والا فمن من بين القوى والتيارات الاساسية ما زال يملك بعد 22 سنة بفرض ان الحديث بدأ يجري بهذا الخصوص منذ عام 1990 مع التصفية المنظمة والاقتلاع والنفي واشتراطاته، ان يقف على قدم التعادل او ما يشبه التوازن مع حزب حاكم، الغى كل اشكال التعبير السياسي، وجند مئات الالوف من المناصرين والاعضاء الى درجة ان احد قيادييه الاساسيين قال في معرض النقاش الشهير الذي عقدته قيادة الحزب الحاكم بعد انتهاء الحرب العراقية - الايرانية حول مسألة الديموقراطية بأن لا داعي للتفكير بهذه المسألة لان لحزب البعث مليونين من الاعضاء، واذا كان لكل عضو خمسة اصدقاء اذن فالعراق كله بعثي. هذا والمعضلة هنا في طريقة النظر للاشياء، فهنالك من يقول لدينا مليونان من الاعضاء، اذا لا داعي للديموقراطية، بينما ثمة من يقول اذا كنا نملك قلوب الشعب الى هذا الحد فلماذا نخاف من صناديق الاقتراع؟ ما اسهل اقامة الاحزاب على الطريقة التي رضيت السلطة اخيراً ان تضع نفسها بموضع المتحاور معها، فلو اراد التيار الوطني المؤمن بالحوار الخوض في هذه الطريق لأقام عشرة احزاب كل واحد منها يفوق تعداده ووزنه مجموع تعداد ووزن تلك "الاحزاب" الاربعة التي استقبلها مسؤولون متقدمون في الحزب والدولة. لكن هذا ليس بالهم الذي كان يشغل اولئك الذين ينظرون لقضية الحوار والتحول الوطني نحو الديموقراطية، كعملية تغيير لا بد ان تشمل عموم البنية الوطنية، ولا ننفي ان هذا المرض كانت له بعض الظلال حتى داخل صفوف التيار الوطني. فقوة العادة والميل للتمسك بالقائم اكثر صلابة مما تدعيه او توحي به حال الصراخ المعمم عن الديموقراطية، ولهذا بني الاقتراح المتعلق بإقامة "لجنة عليا للعمل الوطني" اصلاً على تلبية غرض اساسي، هو اعادة بناء الحركة الوطنية العراقية اي تغييرها بما يتناسب وشروط التحول التاريخي نحو التعددية والديموقراطية. والفرق واضح بين الوجهتين، فالسلطة تريد "ديموقراطية من دون ديموقراطيين" وتريد التغيير من دون تغيير، اي هي تصرّ على بقاء كل شيء على ما هو عليه، حزب البعث كما هو ببنيته وتكوينه وطريقة تفكيره ومن موقعه كحزب حاكم، وقوى واحزاب "منظمة" من بين تلك المعروفة، التي لها تاريخ في الواقع السياسي العراقي، تنهض لتعيد تنظيم صفوفها وتأتي لتعقد مع الحزب الحاكم السيد اتفاقاً لا حول لها فيه ولا قوة. وهذا توجه لا اسم له غير تكريس الديكتاتورية وتعزيز صورتها وموقعها بما يخالف تماما الضرورة التاريخية والمصلحة الوطنية، خصوصاً في ظروف المواجهة الحالية اذ لا مهرب من تغيير نظام الحزب الواحد، والانتقال نحو التعددية والديموقراطية. فلتبق الديكتاتورية اذن، ما دام الاصرار على الوسائل التي تعيدها تحت غطاء ديموقراطي زائف باق كما كان، لكن من الذي خسر بهذه المناسبة يا ترى. حطت السلطة، ومسؤولوها من قدر انفسهم، وظهروا بمظهر لا يحسدون عليه وهم يعلنون بهذه الطريقة عن استقبالهم ل "قوى" لا يعرفها سوى اولئك الذين شجعوها ورعوها من خلال مؤتمرها "جمعيات المغتربين العراقيين" فهل كان هذا اقل من قصور وتخبط مصدره الاصرار العجيب على معاندة منطق الاشياء، الم يكن من الافضل للسلطة لو انها استمرت على رفضها للتغيير، وتمسكت الى النهاية بقناعتها المعتادة بهذا الخصوص وليكن ما يكون. ضاق على اية حال مجال الاستجابة وتراجع الامل وانعدمت الثقة اذ لم يبق امام السلطة سوى الاقدام علنا وجهاراً على اتخاذ خطوات جدية وملموسة او ان تبحث وبأضيق نطاق مسألة اعلان تلك الخطوات من زاوية ضمان النتائج والاستجابة العملية، اما الحديث الآن عن مقترحات تدرس وجولات النقاش تعقد وآراء تجري دراستها ، فهذا كله دليل صارخ على انعدام الجدية، وهو يوحي بعدم احترام الآخرين وحتى بازدراء مواقفهم وجهودهم التي بذلوها على مدى السنوات الثمان الماضية. لا يمكن ابداً حل القضايا المصيرية والحساسة بهذه الطريقة. فالحوار له ممثلوه ومريدوه والخطأ بحق هؤلاء والتهرب من الاستحقاق الذي كانوا المبادرين الى تبنيه، يتطلب كتعبير عن حسن النية التوجه كحد ادنى ومباشر نحوهم هم بالذات، خصوصاً وان كل حديث عن نتائج جدية يمكن التوصل اليها من دون هذا التيار غير ممكن ان لم يكن من قبيل المستحيل. وهذا الاعلان الماثل هنا هو نتاج اوسع تداول واروع اتفاق بين الوطنيين بكل توجهاتهم، وهو بحدّ ذاته تعبير جديد عن حسن النية وعن قوة الايمان بالحوار كوسيلة للتغيير كما عن الوقوف ضد العدوان والحصار، وضد اصرار الطرف الحاكم على محاورة نفسه وعلى وقفته المفاجئة اليوم وهو يهزّ يده بعصبية في الهواء مصراً على رغم انف الطبيعة على التصفيق بيد واحدة. * كاتب عراقي مقيم في فرنسا.