اقام فالح عبدالجبار مرافعة دفاع، عن هذه الوسيلة البائسة التي يحسن الاميركيون منذ ثماني سنوات استعمالها، خدمة لاغراض عدوانهم على العراق وشعبه وحركته الوطنية، والمدعوة "معارضة" - "الحياة" في 7 كانون الأول ديسمبر 1998 و8 منه - وهو ما افرحنا كثيراً، فهذا الشخص لم يسبق له ان دافع عن قضية، الا وتسبب لها بالضرر والخسران، يتحدث عن "القبلية" وعودة نفوذها، فيظهر بمظهر آخر من يعلم، بأن القبيلة كانت وما تزال هي التي تشكل السياسة، والدولة على مر تاريخ العراق الحديث، بينما يصر لوحده على "انبعاثها" من العدم، يتحدث عن "كيفية اسقاط السلطة على يد الولاياتالمتحدة" - "لوموند دبلوماتيك" قبل بضعة اشهر - فنضيع في متاهة عبادة التقارير ونشرات مراكز الابحاث بينما هو لا يكاد يعرف الفرق بين العشيرة وبين "شيوخ الحكومة" فيلقي على الأولى اسم الثانية ويشبهها بالجحوش الاكراد من انصار الحكومات المتعاقبة مرتكباً كفرا ما بعده كفر بالنسبة لأي باحث عراقي مبتدئ. ليس هذا الرجل "فردا" والعياذ بالله انما هو ظاهرة عرفها تاريخ العراق المعاصر، وظلت تتمثل بصنف من الافندية الذين تمتزج في تكوينهم "الفطاريه" بهوس التهام الأوراق واحلالها محل الحياة. يقول السيد عبدالجبار بأن "المعارضة العراقية" قوية، على عكس ما يشاع عنها، بينما السلطة العراقية ضعيفة على عكس ما تردده وسائل الاعلام، وكتاب الاعمدة في الصحافة العربية. والحسبة التي يقيمها بسيطة تنحو لبعث عبادة قديمة تحول الكتابة الى علم بداعي "قوة الأرقام" الصماء. وها هو حال السلطة ينحدر متهاوياً مع تناقص الاعداد، في الجيش، في الحزب، في الدخل الفردي، في الناتج المحلي يا الله، لكم انهار الوضع ولكم تناقص ما بيد الحاكمين في بغداد. قبل هذا، يلقي الكاتب علينا بدرس لا معنى له عن السلطة والشرعية، وبعد كلام عن علاقة بقاء الدول بالقدرة الاقتصادية والعسكرية وبالايديولوجيا ينتهي الى القول "تقوم الدول على دعائم توفر لها رضى السكان ورضوخهم، اي ما يعرف بمزيج الهيمنة/ القبول ولم يصل اي مجتمع بعد الى حالة القبول المفردة". كان هو ويا للكارثة قد بدا متظارفاً، ورد على الكتاب العرب مستنكراً انعدام الرابط الضروري من اقوالهم كلما تحدثوا عن "قوة السلطة" و"ضعف المعارضة" ولعله كان يقصد السخرية من هؤلاء، حين اخذ عليهم انعدام "تعليل للسببية المفترضة" في كتاباتهم وغياب الترابط الذي "يشبه الى حد ما، الصلة بين قلة الموز في الصومال، وتنامي الحركة الثورية في الفيتنام. او بين ظهور الدراجة الهوائية وتكاثر السمك في بحر العرب". ولكن اين الالتزام بشروط الترابط وحكم السببية فيما جاء ليعرضه علينا من آراء مدعمة بالنظريات والأرقام تثبيتاً لحقيقة ضعف السلطة وقوة المعارضة. في المسألة الأولى، بادر الى عرض ارقام حجرية مقطوعة الصلة بالبواعث او الاسباب التي بدلتها من حال الى حال، وهو قد فعل ذلك حتى من دون ان يحذر ازاء حجتين بسيطتين، تقول الأولى بداهة: لماذا تجهيل الفاعل، وما الغرض من تحاشي السبب المباشر وراء تهاوي قدرات السلطة المفاجئ، وهل حدث ذلك نتيجة عوامل ذاتية وبفعل حتميات التطور التاريخي، ام بفعل جهود المعارضة القوية، ام هو وقع قسراً ومن الخارج، على يد عدوان عسكري تدميري هائل، ونظام عقوبات لم يعرف التاريخ له مثيلا. ولماذا تهرب الكاتب على سبيل المثال ولم يذكر تناقص قدرات عراقية اخرى، منها على سبيل المثال موت اكثر من مليون عراقي، وفقدان الاطفال العراقيين بغالبيتهم الساحقة لفرصة التعليم... الخ. هذا كما نظن توجه غير واع قد يكون مبعثه ان صاحبه قد تعود، داخل الاوساط التي ينتمي اليها على تبادل آيات التأييد والاتفاق العقيم، فلا احد يحاجج، على عكس ما يدعي هو، ولولا ذلك لفكر باحتمال نهوض حجة اخرى تطالبه بالتحسب لاحتمال - مجرد احتمال - ان تكون الظروف التي وضعت السلطة بمواجهتها منذ عام 1990 لا تخلو من، امكانات وفرص، يمكن ان تتيح لها، آفاقاً تساعدها على اعادة انتاج سيطرتها على المجتمع بحيث وحسب التقدير النسبي للأشياء، تبقى قوتها النسبية لا المطلقة، على ما هي عليه. مؤكد ان القيمين على السلطة العراقية هم اذكى بما لا يقاس. فأولئك قد رأوا في تخفيف اعداد الجنود، وأعضاء الحزب، ضرورة، تقتضيها الظروف الناشئة عن العدوان العسكري والحصار، وهم ما زالوا يمسكون برقبة المجتمع ما داموا مستمرين على اعالته من خلال توزيع الحصص الغذائية الذي لم ينقطع لحظة، بينما هم نموا خطاباً جديداً استمدوه من واقع الفقر والموت ومن انحياز المعارضة الى صف القوى التي تفرض الحصار، وها هي السلطة تنادي بلسان آخر فهي دولة "مقاومة قبل ان تكون حاكمة" وبين هذا الخطاب المقاوم وأدوات القمع وانغلاق الافق الوطني امام ارادة التغيير وأهوال الحرب والحصار والمجهول، تنشأ قواعد استثنائية وخاصة لاستمرار السلطة. يذكر في المناسبة ان صدام حسين قال لجمع من المقربين بعد اندلاع انتفاضة آذار مارس 1991 جملة ذات دلالة، فلقد ابلغ هؤلاء منذرا "ها انتم خارج السلطة، تصرفوا على هذا الأساس واذهبوا واحصلوا عليها". وأصبح هذا الاعلان قانوناً نافذاً يحكم اللحظة الراهنة، التي لم نجد اي ظل من ظلالها بين تضاعيف هذا التحليل الصوري الذي نناقشه اليوم، اذ غابت اية محاولة انتباه لعامل القوة الذي يمكن ان يضيفه الحصار والتهديد العسكري الى رصيد السلطة، ويأخذه من موجودات معارضة مفلسة اصلاً. وانتهى الامر الى حد ابتكار نظام تشريع الرشوة والسرقة. وفي دولة كانت تعاقب المرتشين بالموت اصبحت المؤسسات ودوائر الدولة وحتى الجامعات تمارس خطة يطلق عليها اسم "التمويل الذاتي" اي سرقة الجمهور علناً وشرعاً فهل سمع احد بشيء كهذا من قبل. لا نريد الدخول في التفاصيل جرياً وراء محاججة حول هذه المسألة الاساسية في الوقوف على حقيقة ما تتمتع به السلطة من قوة او ضعف، نسبي او بالحساب المطلق، مقارنة بحال اولئك الذين يحاربونها تحت راية الولاياتالمتحدة، ويصر السيد عبدالجبار على الجزم بأنهم اقوياء وان الامر حين يتعلق بهم انما تنطق عنه الأرقام التي سرعان ما تداهمنا صعوداً بمقابل ذلك الهبوط المريع. والله وحده يعلم ما الذي يقصده الكاتب من ذلك البلاغ المدعم بپ"الجداول" عن آلاف المناصرين، هل يعني ان هذه القوى هي التي اضعفت السلطة او استطاعت ان تدوس لها على طرف حتى بعد ان تناقصت قوة هذه الاخيرة، وما عادت تنتظر سوى الهلاك، الذي لن يكون بأي حال من الاحوال على يد اي من احزاب او قوى المعارضة، ام هو يريد اعلامنا عن عزم هذه القوى بحكم ما تتمتع به من "قوة" على اخذ شؤونها بيديها. شيء واحد يلفت النظر في هذا الجزء من المرافعة، هو ذلك الذي يقول بأن الحزبين الكرديين احرزا في الانتخابات التي جرت في كردستان قبل انفجار الحرب الاهلية الكردية من الاصوات، ما يدل على ان مئات الألوف يؤيدون هاتين القوتين المسلحتين في تلك المنطقة. وكالعادة يرى في تلك الانتخابات وما تمخضت عنه مظاهر اقل بؤساً، او هي تختلف عن تلك التي تذكرنا بها عادة نتائج انتخابات حكام نسبة الپ99 في المئة. نعلم يقيناً ان "كل حزب بما لديهم فرحون" والبؤس هنا لا يشبه البؤس لدى الآخرين. لكن السيد فالح يتحدث بعد ان قام الفائزون بقتل ثلاثة آلاف من ناخبيهم في حرب هوجاء طاحنة لم توقفها سوى عصا العسكر التركي والقرار الاميركي. اظن انه من قبيل تعميم الجهل ان نقول بأن الديموقراطية تقتل الناخبين خاصة ناخبيها وداخل ارضها. ما الجدير بالمناقشة في ما يتعلق بأوضاع ومصادر قوة المعارضة وضعفها، قطعاً ليس للأرقام شأن كبير هنا، حتى لو صدق فالح هذه اللعبة وأراد لنا ان نلعبها معه على هواه، وحتى لو ظل يصر على عقد مقارنات مقطوعة العلة وبعيدة عن شروط الترابط السببي بما في ذلك مقارنته الساخرة بالقضية الفلسطينية، التي هي ظاهرة نموذجية لما يمكن للعامل العربي في ظروف معينة ان يمنحه من قوة لمعارضة او لشعب عربي مظلوم ومقتلع، لكننا امام شخص لا يصدق سوى الأرقام، مع انه يعدد منها فقط ما يريد. يعد مناصري "المجلس الأعلى" و"الحزب الشيوعي" و"القوى الكردية" و"حزب الدعوة الاسلامية" ويهمل عدد مناصري او اعداء المعارضة العراقية في العالم العربي، وكأنه يظن ان زيادة او نقصان الارقام في هذا الحيز العربي والاقليمي المحيط بپ"الأمة العراقية" - التي يكرر ذكرها في مقاله بلا تحفظ - لا تدخل في موازين القوى، وان كتابة مقال كالذي يتفضل به هو صادحاً: "اتركونا وشأننا" تكفي لعبور هذه المعضلة التي لا يزحزحها سوى صواب الموقف السياسي. هل يريد السيد فالح حل هذه المعضلة، كما يفعل، حين يقول ان ثلاث جهات معارضة فقط هي التي تقبل التعامل مع الولاياتالمتحدة، بينما المراقب لا يجد نفسه مضطراً للملاحقة. فكل ما نحن بحاجة اليه نجده لأنه جرى ويجري في العلن. وقبل ايام حدث هذا ويا للمصادفة في اليوم نفسه الذي بدأت "الحياة" فيه نشر مقال فالح اصدر ممثلو، المجلس الاعلى، والحزب الشيوعي العراقي، ولجنة تنسيق العمل القومي، وحزب الدعوة الاسلامية، بياناً تمخض عن اجتماع عقدوه في باريس اكدوا فيه اتفاقهم على تنشيط عملهم في فرنسا، بين الجالية العراقية في هذا البلد، ناهيك عن التوجه للرأي العام، والحكومة الفرنسية. ليس هذا هو المهم بل المهم هو ان هؤلاء السادة المجتمعين بدفع من سورية وإيران لاعلان موقف يخالف التوجه الاميركي المعلن لاسقاط السلطة، اعلنوا صراحة، وبلا مواربة، ونصاً بأن مسألة التغيير هي شأن يقع على عاتق الشعب العراقي". علماً بأن انديك وفاتشيتوحتى اولبرايت وكلينتون يكررون هذه المقولة وهي كانت النصيحة الأولى التي جرى تقديمها في اجتماعات لندن الاخيرة بالاضافة لتلك التي تدعو الى تجاوز الخلافات ورص الصفوف. في هذا البيان جاء ايضاً ما نصه بأن "التجربة اثبتت بأن الحصار هو عقوبة على الشعب العراقي، وليس على النظام" مما يتطلب رفع شعار المطالبة برفعه. وبعد موت اكثر من مليون عراقي بسبب هذه العقوبة - ها هم - "عراقيون" يمثلون مصالح الشعب العراقي، يكتشفون بأنهم كانوا على خطأ حين ايدوها. فلنترك الظنون لأصحابها، ولنأخذهم على ما يفعلون بالوقائع المعلنة والنصوص، ولنسأل لماذا لم تأخذ المعارضة العراقية بكل اتجاهاتها وتياراتها موقفاً ثابتاً وصريحاً ضد العدوان العسكري وضد العقوبات، مع كل ما هو معروف من اعلان رفض الديكتاتورية والقمع وسياسات المغامرة واستسهال الحروب. وكيف امكن لقوى "عراقية" ان ترى في اسقاط ما يعادل اكثر من سبع قنابل هيروشيما على العراق مناسبة تتوقف عندها الحساسية الوطنية وتموت بحيث لا ترى العراق الا كبيت للوحش بالضبط كما ظلت الدعاية الاميركية توحي محولة العراق الى "صدام حسين"، وهل خدمت مواقف هذه القوى قضية الديموقراطية في العراق او مجمل القضايا العربية ام انها قدمت خدمة جليلة للسياسة وللمخططات الاميركية المعادية للعراق وللمنطقة. وضعت هذه القوى وما تزال نفسها في خدمة الدولة القادرة على تغيير السلطة في العراق بما يوافق اغراضها وهي لن تنتقل الى الموقع الوطني والديموقراطي، الا اذا اتخذت موقف العداء والرفض الصريح للسياسة الاميركية المصممة على تدمير العراق، بحجة معاداة النظام. فمثل هذا الموقف لا تفرضه الدواعي الايديولوجية او الاخلاقية على اهميتها، انما هي لازمة اكيدة لضمان كل تحول وطني نحو الديموقراطية. لا يوجد موقف يريد تحقيق الديموقراطية وتغيير النظام والحفاظ على وحدة العراق وضمان مستقبله اذا كان يتبنى الموقف الاميركي او يهادنه خصوصاً بالنسبة لطرف عراقي يعد نفسه مسؤولاً ومعنياً بمسألة التغيير، والسؤال لو ان المعارضة اتخذت موقفا يرفض العدوان العسكري والحصار، وعملت عربياً ودولياً وفق هذا التوجه، وسعت الى حشد التأييد العربي والدولي للقضايا الوطنية والديموقراطية العراقية ورفعت بقوة شعار التحول الوطني نحو الديموقراطية، وأكدت على ضرورة تغيير النظام وطنياً وأبرزت بجلاء وحدة موقفها وصفوفها كنواة ومثال على قوة ورسوخ الوحدة الوطنية. فهل كانت تجد آنذاك من يعاديها عربياً، ام كانت ستصبح قوة فعل طليعية في هذه الحقبة من التاريخ العربي، هل كانت تساعد الشعب العراقي وارادة التغيير الوطني داخل العراق وتخفف عن العراقيين وطأة القمع والديكتاتورية المضافة للفقر والحصار، وهل كان هذا الموقف سيشجع التغيير بناء على توفر اطار وطني قابل لاحتضانه، بدل ان تقتل مثل هذه الاستعدادات وتجبر اما على الانكفاء والتردد او على التعامل حصراً مع خيار التغيير الاميركي الذي لا تريده ولا تستطيع بناء على تراثها وواقعها الانحياز اليه والعمل تحت امرته؟ مجرد اسئلة وتخيلات، عن الوجهة التي تخدم السلطة او لا تخدمها تفتح الباب امام التغيير الوطني، او تغلقه وتضيق السبل بوجهه لصالح الابقاء على طريق واحد لا طريق غيره هو ذلك الذي لا يقيم سوى "ديموقراطية العبيد". لكن ماذ تقول لشخص يجد في تمزق المعارضة نموذجاً لأرقى اشكال التطور في العمل السياسي حيث يتحول نشاط القوى الاجتماعية في اوروبا اليوم الى "الالتقاء الظرفي على قضايا" آنية؟ لن نغوص في هذا الدفاع البائس والمغلق على الاوهام ولم نناقشه اصلاً سوى بدافع الرغبة في عدم الرضوخ، ولأن هذه الظاهرة التي تصدق نفسها الى درجة الجرأة على مهاجمة الآخرين يفترض بها ان تصمت، فليس هنالك على العراق وتاريخه ومستقبله ما هو اثقل وطأة من النظام الديكتاتوري والكارثي سوى هذه الظاهرة التي لا يتمنى النظام حتى في احلامه ما هو افضل منها. * كاتب عراقي مقيم في فرنسا.