تعرفت إلى أفلام رينير فاسبيندر للمرة الأولى في باريس عندما شاهدت "الخوف ينهش الروح"، عن مهاجر مغربي معزول يرتبط بعلاقة حب مع امرأة المانية. وسيعرض الفيلم مع مجموعة كبيرة من أفلام فاسبيندر في المعهد الوطني للأفلام الذي ينظم مهرجاناً يعرض فيه أعمال هذا المخرج على مدى شهرين. ابتداء من نهاية كانون الثاني يناير الجاري. وعلى رغم حياته العملية القصيرة، انتج فاسبيندر 1945 - 1982 ما يزيد عن أربعين فيلماً، إضافة إلى عمله في المسرح، وأدائه أدواراً في أفلام لمخرجين آخرين. هذا النشاط المتواصل كان نتيجة اعتقاده بأن الفن يحمي النفس من شرور الحاضر. وأنه بواسطة العمل الفني يمكنه المقاومة والنجاة. هذا الاعتقاد يتكرر أيضاً، في صورة عامة، في كتاب "فاسبيندر: حياته وأعماله" لكريستيان تومسون. ويستعرض السينمائي تومسون في كتابه المترجم حديثاً إلى الانكليزية الخصائص التي تميزت بها أفلام فاسبيندر المستمدة أساساً من حياته الشخصية، مستنتجاً انه على رغم أن تلك الأفلام تصف استغلال العواطف بلغة سوداوية، إلا أنها توحي بعالم متفائل. النهاية "السعيدة" نادرة في أفلام هذا المخرج فقد كان يرى ان الناس قادرون على استنتاج ذلك بأنفسهم، من دون حاجة إلى قصص تصف لهم تلك النتيجة. تدرب فاسبيندر على الاخراج في المسرح عام 1966 ورفضته أكاديمية برلين السينمائية، مع أنه حصل على جائزة في الدراما عن مسرحية "من أجل قطعة خبز فقط"، عن مخيمات الاعتقال. وحوّل المسرحية إلى سيناريو قدمه إلى الاكاديمية مع طلب الدخول. لكن فشل المحاولة لم يمنعه من اخراج فيلمين قصيرين قدمهما إلى المعهد في العام التالي. ورفضته الاكاديمية للمرة الثانية قائلة إنه لا يملك مستقبلاً في السينما. إلى جانب خمس مسرحيات وأربعة أفلام طويلة أخرجها في عام 1969 وجد الوقت للتمثيل في ثلاثة أفلام لمخرجين آخرين، فلعب الدور الرئيسي في فيلم "بعل" المقتبس عن مسرحية بريخت. ويتضح من مقارنات عدة ان نوع الحياة التي عاشها فاسبيندر في ذلك الوقت كانت مستوحاة من شخصية الفيلم: شاعر لا يرتاح وسط المجتمع، فيظل وحيداً يجول في الطبيعة والمقاهي، ومع ذلك ينجذب إليه الناس، بعض عشيقاته انتحرن. يحبه الأصدقاء ويعاملونه كأنه طفل. إلا أنه يقتل واحداً منهم بسبب الغيرة. الممثلة جين مورو غنت في آخر أعمال فاسبيندر "كواريل"، "كل إنسان يقتل الشيء الذي يحب". أول أفلامه الروائية الطويلة ويحمل عنوان "الحب أبرد من الموت". لغة فاسبيندر السينمائية تطورت من أسلوب طلائعي إلى منحى شعبي، مع بقائها ضمن الشكل الدرامي القصصي، كما نجد في أفلام بونويل وبيرغمان. التأثير القوي عليه جاء من افلام المخرج الأميركي دوغلاس سيرك الذي التقى به في سويسرا. وكانت نتيجة الزيارة فيلم "تاجر الفصول الأربعة" الذي يروي قصة حدثت في عائلة فاسبيندر، إذ يصور رجلاً يدعى هانس، تعامله النساء بسوء. أمه لا تنظر إليه جادة، وتتركه عشيقته وتتزوج رجلاً آخر لاعتبارات اجتماعية. أما اخته التي تتفهم أوضاعه فلا تجد الفرصة للقائه. يقضي أوقاته في الحانات يشرب همومه حتى الموت. اتبع المخرج في الفيلم اسلوب الواقعية الاجتماعية. وجعل لكل مشهد طويل اقصوصة. في نهاية الفيلم يزرع بذور التغيير، لكنه يترك البادرة للجمهور. اختار فاسبيندر ان يتبع النموذج الأميركي في أفلام "الغانغشر" وسيلة للتركيز على الحدة العاطفية التي كان لها دور كبير في أعماله. كان أيضاً يقود عملية الانتاج على طريقة هوليوود، في حين اعتمد على مجموعة خاصة من المساعدين كما في المسرح. ويمكن القول إن الاسلوب المسرحي ظل يطغى على أعماله حتى في فترة الأفلام "البورجوازية" التي توسع فيها إلى السينما العالمية. يظل المحرك لقدراته ما سماه "الاستغلال العاطفي"... يبرز في أفلامه موضوع الاستغلال سواء بين أشخاص يحطمون بعضهم في علاقات عاطفية، أو استغلال الدولة للشعور الوطني. قوة أفلام هذا المخرج سواء كانت عائلية: "الخوف يأكل الروح" أو أفلام عن النساء: "بيترافون كونت" و"زواج ماريا برون" هي في التركيز على الاتجاه العاطفي السلبي عند الاشخاص: الخيانة، الثقة، الآمال الخائبة، الشك المحطم للنفس، والحب الذي لا يلقى صدى... في فيلم "الخوف ينهش الروح" نرى "ايمي" المنظفة تلتقي بمهاجر مغربي يدعى "علي"، عزلتهما تؤدي بهما إلى العيش معاً ثم الزواج. لكن أبناء المرأة وأصدقاءها لا يحضرون الحفلة ويرفضون لقاء علي، وتتبدل نظرتهم إلى الزوجين شيئاً فشيئاً عندما تصبح لديهم مصالح خاصة، مثل حاجة الجيران إلى ايمي لحضانة الأطفال اثناء غياب آبائهم. لكن هذا الانفتاح يأتي متأخراً، إذ يصاب علي بقرحة شديدة بسبب الضغط والعزلة وينقل إلى المستشفى. الفيلم مأخوذ عن قصة نشرتها صحيفة المانية. وعلى رغم ان تلك القصة انتهت بمقتل المهاجر، فقد غيّر فاسبيندر النهاية، فقدم القصة في صورة شفافة يشعر معها المتفرج ان من الممكن التغلب على المأساة فيها. ليس في الفيلم اسلوب رفيع، ولكنه يروي القصة بطريقة مباشرة يسهل الاندماج فيها منذ اللقطات الأولى. وإلى جانب الحدة العاطفية ركز فاسبيندر في الفيلم، كعادته، على الاتصال بالهوية والابتعاد عنها. وعلى مقدرة الإنسان على تحمل مسؤولياته مهما كانت الصعوبات، وتغيير حياته مهما كانت الظروف.