ثمة انطباع مُلَحٌ يكاد يكون من المتعذر على قارىء القصة العربية المعاصرة أن يتجاهله، وهو أنها لم تعد في نماذجها المتداولة خلال العقدين أو الثلاثة الأخيرة على الأقل، فناً يحسن كاتبه التمييز بين ضربين متعارضين من الأداء: السرد والشعر. وبعبارة أخرى فإن تَصنُّع الأداء الشعري في القصة القصيرة كثيراً ما يجهز على القصة العربية ويحيلها الى نص مفتوح، أي نص غير محسوم من حيث هويته التقنية، نص يفتعل شاعرية لفظية تعيق الوصول الى ما يسمى ب"لحظة التنوير". هذا الإحساس، بل الهاجس المسيطر الذي يومىء الى حالة من الانعدام في التوازن بين السرد وبين الشعر، لم يساورني البتة خلال مطالعتي "أشباح اسراب" مجموعة الكاتب السعودي عبدالله محمد الناصر القصصية الأولى التي يوحي أداؤه فيها بأننا آزاء عمل أنجزه بحذق وذكاء كاتب متمرس تجاوز أفق الدربة والمران ليسيطر على أصول اللعبة ويمسك بمفاتيحها. بل أن معرفة القاص الشديدة بأن الشاعرية شيء آخر غير الشعرية وأنها خصيصة إيجابية لا تعني اصطياد العبارات المجانية والمتشبهة بالشعر هائمة على وجهها من دون توظيف سردي صارم، كما هو الشأن في ما نقرأه الآن من نماذج قصصية عربية معاصرة تطرحها دور النشر بلا انقطاع، هي التي تمنح هذه المجموعة فرادتها اللافتة وطعمها المميز. وأعتقد أن القارىء سيتفق معي عندما ينتهي من مطالعتها على أن الناصر قد وفق في الأخذ بيده الى دواخل عالمه الخاص مبرهناً على عبقرية المكان ودوره في الأداء القصصي. وهذا يعني أن الإحساس الشديد بالبيئة يتحول لدى الكاتب الى لازمة متكررة تمنح القصص وحدة شعورية ذات بعد رمزي متعدد الدلالة. فالصحراء، أو قل البيئة المسيطرة، أشبه بموسيقى خلفية تصدح من خلف الأحداث، ليست مجدر مسرح تتحرك على تضاريسه الشخصيات، وإنما هي فوق ذلك، معادل موضوعي للتراث، يحاوره القاص مستدعياً أزمة الهوية والانتماء في عالم يواجه مشكلة الحداثة من دون أن يلزمه التحديث بالتغريب. ولهذا السبب بالذات فإن ملامح كثيرة مما ينطوي عليه مصطلح "ما بعد الحداثة" يبرز هنا بقوة. فمن المعروف أن المصطلح يشير عادة الى عمليات التسليع التحويل الى سلعة التي تطال الحياة اليومية وتكشف بالتالي عن تأثير ثقافة الاستهلاك وفي ابراز ضرورة الاختلاف. وإذا كان مصطلح "الحداثة" يعني من بين ما يعنيه سيطرة نمط حضاري واحد غير متعدد، فإن مصطلح "ما بعد الحداثة" يلح على حق الاختلاف ويقر بوجود علاقة تجاور Juxtaposition بين القدامة والحداثة. في قصة "أشباح السراب" تبرز علاقة التجاور هذه بوضوح شديد. إنها علاقة التجاور بين سيارة "الددسن" التي ارتكست في الرمل وفشل قائدها "نافع" في إزاحة الرمل الصحراوي عن عجلاتها الأمامية والخلفية، وبين جمل أسود لمحه تحت هجير الشمس: "أخذته الحيرة كل مأخذ... ولكنه قرر أن يسير حيث تنقله قدماه... أخذ الحقيبة الصغيرة التي كانت سبب الرحلة!! وضعها في جيب ثوبه الأيسر... لوى غترته فوق رأسه... وهمّ بالانطلاق... تذكر مفتاح السيارة وفكّر... أيأخذه أم يتركه؟... طال تفكيره ثم قرر أن يأخذه... مد يده كي يجتذب المفتاح من مكانه... انزلقت يده على مفتاح الضوء... أشرقت أنوار السيارة... كتلة سوداء أمام السيارة يشع فيها النور تتحرك ببطء... فإذا به الشبح الجمل!! أو الغول... أدار الشبح رقبته وهو رابض، مصوباً رأسه نحو الضوء... ينظر بخوف أو بحذر...". وفي قصة "محيميد" تخفق علاقة التجاور هذه وتنتهي بمشهد تراجيدي... فهي تصف مزرعة توجد فيها مكينة ماء للري حيث يعمل "محيميد" العامل وحيث يسود احساس غامر بالتعايش بين القديم والجديد... غير أن المصير المأسوي لهذا العامل ينطوي على دلالة تشير الى فشل تلك العلاقة: "لقد أمضى أربع سنوات في المزرعة يعمل بخفة ونشاط... يصحو قبيل آذان الفجر... وبعد الصلاة مباشرة يشغل المكينة يحرث الأرض ويسقي الزرع... يعلف البهائم، ويشذب النخل... يعمل بهمة وخفة تسابق الريح. هذه المرة أمضى سنة لم ير أهله... لم ير زوجته ولا ابنته الوحيدة والتي تركها وعمرها يقارب السنتين... يغني وهو في رأس النخلة وينظر وراء الأفق البعيد... يخيل اليه أنه سيرى أهله!! ولكن أينه وأين أهله؟... هو في الوسط وهم في أقصى الجنوب... ينتظر آخر الموسم على مضض... فبعد شهرين سيصرم النخل وسيأخذ راتبه ويركب أسرع سيارة بريد ليقبل رأس والده وأمه وليضم ابنته الصغيرة الى حضنه... الريح تهب ورأس النخلة يميس... ومحيميد يغني". ويضيف الكاتب: "امتلأ المخرف رطباً جنياً... أزاحه محيميد ليعلقه على ساعده الأيمن ثم ينزل به الى العريش. طرف "المخرف" ينزلق على عود الكر "الطيار" المشبوك في الطرف الآخر... انفلت العود... هوى محيميد من رأس النخلة الشاهقة سقط على رأسه فوق جدار البركة... اختلط ماء البركة بالدم والرطب...". وأما "لحظة التنوير" فتتحقق على النحو التالي: "محيميد أصبح جسداً يدور في ماء البركة... وكان صوت المكينة يدق، يدق... ودخانها يتصاعد في السماء... تدفعه الريح الى الأفق البعيد...". يا لبؤس ما حدث!... لكننا ندرك أن الناصر هنا لا يدين الآلة ولا يرفض تعايش العامل معها وإنما يومىء ككل كاتب يحمل في أعطافه الهم البشري، الى أن هذه التجربة تجربة ذات ثمن باهظ جداً. وخلافاً لما فعله كثيرون من الكتاب العرب الذين رصدوا مشكلة المواجهة بين الغرب والشرق، كالحكيم والعجيلي وسهيل إدريس، فإن القارىء سيلاحظ أن الناصر لا يشعر في قصة "الإيغال في ارتياد الأمكنة" التي يستهل بها المجموعة، بعقد النقص والاستخذاء. ذلك أنه يقوم بدور شاهد لا يدع أحاسيس بطل الشاب الذي ذهب الى أميركا، للعمل أو الدراسة، تغير من طبيعة عواطفه تجاه الصحراء المكان الرمزي الذي تنسحب عليه القصص عموماً وإنما يكتفي بسرد قصة صاحبة فندق أميركي ينزل فيه، من خلال سراب الصحراء الذي يمعن في الرحيل معه. وهذه صورة رمزية أخرى من صور الانتماء الى البيئة أو قل الشرق في هذه المرة، يقلبها القاص على وجوهها ليكتشف القارىء أنه شاهد يسمع ويرى ويروي تفاصيل حياة "الآخر" بتأمل وبرود، وليس تلك الشخصية المتوقعة في هذا الضرب من قصص الصراع الحضاري الرازحة تحت وطأة الشعور بالاستلاب والاغتراب والنفي والاقتلاع. هذه المؤشرات التقنية والموضوعاتية لا تغطي محاور المجموعة كلها. فهناك قصص أخرى مغايرة، تقوم على عنصر المفارقة الصغيرة أو السخرية الشديدة الإضحاك. في قصة "الذيب" ثمة صحراء وراع وبندقية وذئب: "أمام بيت الشعر الأسود الكبير كان مستلقياً يراقب القمر متى يغيب. راح يعد على أصابعه: قتلت في حياتي ستة ذئاب وهذا الذئب اللعين افترس عشرين رأساً في ستة أشهر... ولم أتمكن من اصطياده أو قتله!!". وفي موضع آخر يقول الكاتب: "يتقلب على فراشه وينتظر غياب القمر. فالذئب لا يعدو على الأغنام إلا في الظلام الدامس". كلمات والده على قهوة العشاء تخز جنبه كالشوك، فيتأوه، ويتأفف. لقد أتعبه هذا الذئب الغدار... "ترصَّد" له كثيراً. تتبع أثره في الأودية والشعاب، ترقبه على الطرق والدروب. نصب له الفخاخ... وضع له السم و"الزرنيخ" في التمر... ولكن لا فائدة". هنا تنتهي القصة بمفاجأة، غير أن هذه النهاية ذات دلالة رمزية لا تخطئها العين. إنها ليست مفاجأة من النوع الصارخ على طريقة "موباسان" الفرنسي، وإنما هي مفارقة مشحونة بالسخرية وتنتمي الى نموذج "تشيكوف" الروسي. وثمة قصة أخرى بالغة الرهافة ومفعمة بحس الفكاهة عنوانها "شباش"... ترصد الحدث من وجهة نظر صبي صغير: "سأل الصبي نفسه ما معنى: "شباش؟" ما هذه الكلمة الغريبة التي يسمعها لأول مرة؟... كلمة خفيفة جميلة لا شك أنها تعني التشجيع من الشيخ لا يرددها إلا في هذا الموقف الذي يدعو فيه الى العمل بهمة ونشاط... ويقول في موضع آخر: "انتشرت بشكل مذهل. سمعها تتردد في أنحاء الحي وبين طلاب المدرسة. شعر بأنه صاحب الكلمة ومخترعها الأول... صار الناس يرددونها وقد أذهله أنه سمع أحد الأساتذة يقول مشجعاً لأحد الطلاب: "شباش عليك"...". وتنتهي القصة على النحو التالي: "حينما أصبح الصبي قادراً على طرح السؤال عن معنى الكلمة غاب الشيخ واختفى عن مسرح القرية وبقيت الكلمة نشطة على الألسن... أما هو فلم يعد يستعملها. ولكنها ظلت عالقة في ذهنه مع صورة الشيخ وصورة القرية وأهلها الطيبين... "شباش على القرية... شباش على الشيخ... شباش على شباش!...". هذه قصة تشيكوفية بامتياز. غير أن هذا التنوع القصصي المدهش لا يومىء الى وجود خيارات أسلوبية متباينة أو متعارضة، وإنما يسهم في تقديم بانوراما غنية تؤكد على لا نهائيتها... فكما أن الصحراء لا نهائية فإن زوايا الرؤية اليها يمكن أن تكون لا نهائية أيضاً. إن أهمية هذه القصص تكمن في أنها تعيد الاحتفاء بالفن القصصي من دون أن تقع في حبائل الحيل التقنية المقصودة لذاتها... بمعزل عن الدور البنائي المسند اليها. فعلى الرغم من أنها تعتمد أشكالاً متعددة من القص تتراوح بين السرد العادي والمتكسر والوصف ذي الخاصة الاختزالية ذات الدلالات الرمزية الموحية والمونولوج الداخلي والتمييز المحكم بين أنا الراوي وأنا الكاتب فإن الناصر يستخدم هذه التقنيات بمهارة وسيطرة وتحكم في الصيرورة القصصية. وهذا يجنبه الكثير من العيوب التي حوّلت هذا الضرب من الفن كما يمكن ملاحظة ذلك بوضوح الى نصوص مفتوحة تتداخل فيها الأجناس الأدبية بهدف الاستعراض والمباهاة بأدوات القص على حساب سياقاتها الأدائية ودراسة عامل الضرورة ودوره في استدعائها. ان "أشباح السراب" كما يلاحظ الطيب صالح بحق، لا بد أن تدهش القارىء عندما يعلم أنها مجموعة الناصر الأولى. بل ان قدرتها الفائقة على الامتاع والمؤانسة لا تحول دونها ودون أن تكون قصصاً حداثية عربية بامتياز، قصصاً تفصل بين شرط التحديث وشرط التغريب. قصصاً تجعلها المثال الفني المحكم على ما حققته القصة العربية حتى الآن.