أصبحت قضية الجاسوس جوناثان بولارد مقياساً دقيقاً لكل من هو أميركي او نصف أميركي، فالذين يرفضون الافراج عنه او تخفيف الحكم عليه بعد ادانته بالتجسس لاسرائيل اميركيون، والذين ينظمون الحملات للافراج عنه هم من اصحاب الولاء المزدوج، الذين يقدمون مصلحة اسرائيل على مصالح بلدهم. قضية بولارد عادت الى الصدارة بعد ان وجّه رئيس وزراء اسرائيل بنيامين نتانياهو وزعيم المعارضة ايهود باراك رسالة مشتركة الى الرئيس كلينتون الاسبوع الماضي يطلبان فيها الافراج عن بولارد. ولعل القراء يذكرون ان نتانياهو اوقف توقيع اتفاق واي في اليوم التاسع والاخير من المفاوضات مطالباً بالافراج عن بولارد كثمن للاتفاق. ورفض الرئيس كلينتون الطلب الا انه وعد بإعادة النظر في الموضوع. وبما ان نتانياهو وقح استثنائي، فهو لم يكتف بربط مصير السلام بجاسوس مُدان، وانما زعم بعد ذلك ان الرئيس الاميركي وعده بالافراج عن هذا الجاسوس. وردَّ الرئيس كلينتون بغضب انه لم يعد بشيء سوى اعادة النظر في الموضوع. والنتيجة ان تشارلز راف، المستشار القانوني للبيت الابيض طلب من دوائر الحكومة ذات العلاقة اعطاء رأيها في تخفيف العقوبة على بولارد. وكان يفترض ان تردّ هذه الدوائر في موعد اقصاه الاثنين الماضي، الا ان بعضها لم يفعل بعد. وأرسل نتانياهو وباراك رسالتهما لزيادة الضغط على الادارة، فالحكومة والمعارضة الاسرائيلية تختلفان على كل شيء، الا ان اطلاق بولارد سيفيد الجهة الاسرائيلية التي تقنع الناخبين بأنها وراء اطلاقه. بولارد سيظل في السجن مدة طويلة، فالاميركيون لا يبحثون في اطلاق سراحه، وانما بتخفيف العقوبة عليه من السجن المؤبد الى 25 سنة. وبما انه قضى في السجن حتى الآن اكثر من 13 سنة، فإنه قد يسترد حريته خلال ثلاث سنوات بعد خفض المدة لحُسن السلوك. غير ان قراءة اولية لردود الفعل من الدوائر الاميركية ذات العلاقة بالموضوع تظهر انها لم تغيّر رأيها في فداحة جريمة بولارد وضرورة بقائه في السجن. وكان جورج تينت، رئيس وكالة الاستخبارات المركزية سي آي اي هدد بالاستقالة بعد مفاوضات واي، اذا أُفرج عن بولارد. وامس قالت وزيرة الخارجية السيدة مادلين اولبرايت ان الافراج عن الجاسوس لا يخدم مصالح السياسة الخارجية الاميركية. ويعتقد ان وزيرة العدل جانيت رينو ابدت تحفظاً مماثلاً على الموضوع، ومثلها مكتب التحقيق الفدرالي اف بي آي. بولارد اعتقل سنة 1985 بعد ان حوّل الى اسرائيل على مدى 18 شهراً الوف الاوراق السرية عن اميركا وغيرها. وهو ضُبط مرة داخل السجن وهو يحاول تسريب معلومات اخرى الى اسرائيل، ما يعني انه لم يتب او يندم، فدفاعه كان يقوم على انه اعطى المعلومات لدولة "صديقة" وبالتالي لم يضرّ بأمن الولاياتالمتحدة. والهيئات التي تتبنى الافراج عنه الآن، او تخفيف العقوبة، لا تزال تروّج هذه الحجة، اي انها تقول ان اسرار الولاياتالمتحدة حق مشاع لاسرائيل. وهكذا يصبح من السهل ان نعرف من هو الاميركي الخالص، ومن هو الجاسوس بالقوة، حسب تعبير الفلاسفة، لاسرائيل الذي ينتظر ان يعطى فرصة ليصبح جاسوساً بالفعل. ولعل انصار بولارد اعتقدوا ان الرئيس كلينتون في وضع ضعيف مع بدء محاكمته في الكونغرس، وانه يحتاج الى مهادنة اللوبي اليهودي القوي، وهو ربما كان كذلك، غير ان ثمة معارضة قوية جداً للعفو عن بولارد او تخفيف العقوبة عليه. ومَثَل واحد يكفي فالنائب بورتر غروس، رئيس اللجنة الدائمة للاستخبارات في مجلس النواب، كتب داعياً الى عدم الافراج عن بولارد، واتهمه مرة اخرى بخيانة بلده، وتعريض ارواح اميركيين كثيرين للخطر، وزاد انه قبض مالاً من السفارة الاسرائيلية في واشنطن، وانه قدم لها ما يعادل 360 قدماً مكعباً من الاوراق السرية، او ما يبلغ حجم غرفة نوم متوسطة الحجم. هذا معروف كله، الا انه لم يمنع انصار بولارد من ان يحاولوا اطلاقه سنة 1993 و1996، ثم العودة للمحاولة هذه المرة. كم مرة يجب ان يصدر حكم على جاسوس ليثبت نهائياً؟ لو لم يكن بولارد جاسوساً لاسرائيل لكانت محاولات الافراج عنه توقفت بعد المرة الاولى، فهي بمثابة استئناف او تمييز لحكم المحكمة عليه. غير ان اسرائيل وانصارها سيظلون يحاولون، وستكون هناك محاولة رابعة وخامسة ومحاولات ما بقي بولارد في السجن، فأنصاره من وقاحة نتانياهو الذي يكذب على الاحياء والاموات، ويقول للرئيس الاميركي انه "وعد" بالافراج عن بولارد، مع ان كل ما وعد به هذا هو اعادة النظر، وقد فعل، ويبدو ان الردود جاءت ضد بولارد مرة اخرى.