في تعريف التراجيديا أنها صراع شخصيات تحت خيمة القدر المحتوم أو المكتوب، وقد يتعقد الصراع الحي الواقعي حين يشمل الجماعات والأفراد، فتذوب مأساة الفرد في الجماعة، وتذوب مأساة الجماعة في الفرد. ولكنه يبقى في مساره ومآله تحت خيمة "القدر" هذه. وربما تكون احدى مشكلات التفكير لدى الانسان العربي احساسه بالاضطرار الى اتخاذ موقفه على مضض، من مجريات الأمور حين يراها، أو حتى حين تمر على جسده. ويحدث ذلك اذ يدعم سلطة لا يعتقد باخلاصها بتاتاً، لأن موقفها صحيح ميكانيكياً في اللحظة المعنية، أو يؤيد عملاً ممجوجاً في جوهره، لأنه موجه ضد خصم تاريخي، خصوصاً حين يكون أمام خيارين يصبان في عكس مصلحته. ويحدث هذا كثيراً في السياسة والعمل السياسي، في مناورات مواقف تكتيكية محددة، ويحدث في مستويات اكبر احياناً، فيتطور الحال عندئذ بسرعة الى خطأ يتم تداركه أو خطيئة قاتلة. وفي الوضع العربي يكاد هذا أن يكون القاعدة المقيمة. هو اضافة ساخرة على براهين وجود الأمة والقومية، هذا الاستعصاء المتكرر في كل مسألة على حدة من المسائل الفلسطينية، والعراقية، والجزائرية والليبية والسورية واللبنانية واليمنية... الخ. الاستعصاء الذي لا تفضي اية محاولة لفكه، ومهما اختفلت طريقة التناول والمعالجة، الا الى المزيد من التدهور. لننظر الى العراق مثالاً، والنظر في وقت كتابة هذه السطور لا يحيد اساساً عن العراق، في ذهول وغضب ومرارة أمام حمم الجحيم الاميركية التي تنصب فوق أرضه وشعبه. ماذا تعني حكاية "لافونتين" الشهيرة حول الدب قاتل الذبابة فوق رأس صاحبه بحجر كبير؟! الجواب يتراوح ما بين الغباء والقتل العمد. ونفترض هنا ان الصاحب هو الشعب العراقي، أو العراق عينه بشكل أدق. كما نفترض ان الذبابة هي النظام، أو رأسه... ايضاً عينه، وأيضاً بشكل أدق. أما الغبي أو القاتل، فهو الولاياتالمتحدة الاميركية وشركاؤها: طليعة البشرية في انجازات القرن العشرين، وقائدتها الى المجهول في القرن الحادي والعشرين، واستدراكاً لتهمة الغباء التي تلحق بمن يتحدث عن الغباء الاميركي يجب توضيح المسألة بكونها موقفاً من اختيار الاميركيين سياسة التهديد والبلطجة والعصا الغليظة وشرطي العالم... الخ، خارج بلادهم، الأمر الذي أخذ يؤثر على صدقية نظامهم الداخلي والعالمي، وينعكس من ثم ضعفاً على الصعيدين، الا اذا كان ذكياً وصحيحاً ان تخطط دولة للهيمنة على الكوكب بطريقة فاشية تشبه العديد من الافلام الاميركية، ولا تنسجم مع "الايديولوجيا الاميركية" ذاتها التي تتمحور حول الليبرالية. ان هذا الرأي يهمل، الى هذا الحد أو ذاك مسائل القوة والقيادة في هذه الايديولوجيا، وما يتفرع عنها من غطرسة متفاقمة. والأمر لا يخلو من فذلكة المصالح "القومية": إن الأمر الأكثر ضماناً لاستمرار الاستقطاب الأحادي في المستقبل هو نفط المنطقة، وبقاؤها بذاتها عاجزة عن الاستغناء عن الاميركيين من منظور الانظمة، وعاجزة عن النهوض عموماً من منظور الشعب. لذلك يضرب العراق النظام، ولهذا يضرب العراق الشعب. فكما يحدث في حكايات الجنوب خصوصاً، تفاقمت قوة النظام حتى غدت خطراً عملياً كما أثبتت تجربة الكويت. وظهر في الساحة جيش عربي قومي لا يريح أحداً، إلا "عامة الناس". كما ان شكلاً من الاعتماد على الذات في التنمية والتطور العلمي والتعليمي قد أخذ يظهر نموذجاً لا بأس به للعالم الثالث. لقد غدا العراق خطراً و خللاً لا يمكن استمراره، وكان على شركة التأمين الدولية هذه ان تنهي هذا الخطر على الأطراف الحليفة والمعتمدة في المنطقة: اسرائيل. ولا تحتفظ به إلا كفزاعة لتخريب نوم الآخرين وأحلامهم. من ناحية أخرى، كان يمكن لتجربة العراق ان تستمر طويلاً كغيرها، لو لا حجم وطبعية الطموح، الذي تقاطع وتناقض مع المصالح الأكبر. ان تستمر، من دون ازدهار أو نهوض. فالتجربة المعنية ما كان لها الا ان تشحب وتذبل من دون الشعب الذي ينشط ويمارس حريته، ويحكم. وما كان لها ايضاً الا الاختناق من دون علاقة صحية مع البيئة العربية المحيطة. الآن، نحن مطالبون من قلبنا، وأبنائنا، وإحساسنا بالخطر، ان نفعل أي شيء من أجل فك الحصار عن العراق، فحين تغدو الأوضاع أمام الأعين مجزرة وقحة، يبرر للبعض حتى نسيانهم الموقت لمعضلة النظام، ولا يبرر العكس أبداً. نصل من جديد الى مأساة الموقف، وهي مأساة النشاط السياسي العربي بأكمله. هل كان هذا مؤامرة امبريالية واضحة المعالم؟! هل كان الوضع العاجز الذي وصلت اليه الشعوب العربية مقصوداً بعينه، أم هو نتيجة طبيعية للقصور الذاتي المزمن؟! نحن أمام خيارين أساسيين في كل محطة: في الأول منهما نقول: منذ عشرات السنين، بل منذ أكثر من مئة عام ونحن نحاول عبثاً ان ننهض. توصل كثيرون الآن الى حيث يرون الكوابح في غياب أو تغييب النشاط البشري الفعال والحر، الذي ينتج عن المجتع المدني. وعلى رغم ان مكونات هذا المجتمع لم تظهر إلا لماماً، وإلا لتعود وتخنق في بعض الأحيان، فقد أنتجت تيارات وأفكاراً متنوعة، وغدا الاستمرار والتقدم أكثر استحالة، من دون الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان، من دون التعددية شكلاً للحياة السياسية. في العراق أزمة مستفحلة على هذا الصعيد منذ عام 1958 على الأقل. وفي العراق مشاكل متعلقة بتركيبته المذهبية والقومية، وبجواره مع ايران وتركيا. وبتاريخ علاقاته بالمحيط العربي في هذا القرن. ان كل تأخير - من ثم - لمسائل شرعية الحكم، والتعددية، والعيش الحر المشترك بالتراضي والتعاقد والأمان لمواجهة الحاضر والاستعداد للمستقبل، يزيد المسألة سوءاً وقرباً من جدار العجز المصمت. لذلك لا يقدر حملة هذا الرأي ان يوافقوا على اعطاء من يستبد بالأمر أية فرصة للتلكؤ، مهما كانت الأسباب، بل إنهم يتخيلون ان أية عواصف في الداخل أو الخارج هي من صنع النظام، أو أنه من ينفخ فيها حتى يجعلها بحجم كبير يقلب به الأولويات، ويجرح المجتمع. ومن خلال هذا الفهم لعقلية النظام، تأتي أفكار المواجهة ورد الفعل كما يرونها: ينبغي ألا يعطى النظام فرصة التعمية أبداً، وينبغي تحويل المواضيع التي يبتز بها التضامن والتأييد الى عوامل اضعاف مستمر ومتصاعد، لذلك لا بأس بالحصار، ولا مانع من الضرب الموجع والتضحيات بالخسائر الشعبية والوطنية الموقتة لأن الزمن يمر، وفرصة انقاذ البلد التاريخية تتلاشى بسرعة متزايدة. في الخيار الثاني نقول: ان العراق جزء مهم من الأمة، له ما له من القوة على الصعد المتنوعة الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، والفاعلية في ما يوجد حالياً من النسيج القومي. ولا تقوم الولاياتالمتحدة اذ تضربه بمثل هذا الشكل بالحد من مخاطره على مصالحها المباشرة وحسب، بل توجه الى طموحات "الأمة العربية" في التقدم والوحدة والتحرير ضربة كبيرة ايضاً، وبشكل ملموس، تزيد الولاياتالمتحدة عمق الهشاشة والتفتت في قدرة العرب على المناورة والمطالبة والضغط. إن الحصار المفروض على العراق لا ينال من النظام بقدر ما ينال من الشعب العراقي والكيان العراقي، وهو باستمراره، ينقص من طاقة الشعب على التغيير، مما يزيد قدرة النظام على المقاومة. بل ربما يلبي حاجته الى الاستفراد بشعبه، والاستقواء عليه، وابتزاز المحيط القومي والانساني. يمكن لهذا الموقف - الخيار - ان يكون في منتهى القوة في فترات العدوان الاميركي المتكرر. ولكنه ليس ضعيفاً في الأوقات الأخرى، ما يجعله اكثر ضعفاً طبيعة أخصامه الأقوياء والنافذين اقليمياً ودولياً. الناحية التراجيدية في الخيارين، وأيضاً في الخيارات المتفرعة والثانوية والباقية على السطح، هي ما يفعل كل منهما في الأو ضاع العربية عموماً، والعراقية خصوصاً: لا ينتج هذا إلا المزيد من التدهور، والمزيد من البعاد عن امكانية استدراك شيء من النهوض، الإمكانة التي ما زلنا نصر على وجودها. بعض أهل الفكر السياسي المؤطرين في فصائل اكثر قدرة على الفعل والتأثير ينسون الاشكالية أو يهملونها في زحمة نشاطهم المباشر وضمن التشويش الذي يحدثه ايقاع البيانات والخطب. والبعض الآخر، يزداد احساسهم بالاشكالية، وتزداد رؤيتهم وضوحاً... نسبياً، لكنهم أقل قدرة على التأثير. هذا التناقض ضريبة تصاعدية ترتبط بتفاقم التناقض الأكبر، المنوه عنه اعلاه. لا يمكن لمن كان سبباً في الأزمة ان يحلها، يستطيع ان يساعد وحسب، اذا أفسح مجالاً وهواء للآخرين، فحين تسود النظافة يكون الخيار نقياً وواضحاً، ولا يتشابه ويشتبك الى الحد الذي نراه على الأقل. فهل يمكن للعربي ان يخرج من عباءته قليلاً، فيحارب الحصار والغزو والتفتيت بلا هوادة من دون ان يكرس الاستبداد، ويعمل من أجل الوحدة والتقدم والديموقراطية من دون ان يعطي شرعية للعدوان؟! محاولة أحد أطراف المعارضة العراقية زيارة البلد لدعم الناس وإدانة الحصار مع التمسك العلني بمطلب الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان صحيحة ضمن هذا المنظور. ومثلها امتناع معارضة الجنوب عن الانتفاض بالتزامن مع العدوان كما رغب الاميركيون، وكذلك الاستمرار بالاعتراض - بكرة وعشية - على كل مبادرة في الشمال يمكن ان تشكل خطوة مباشرة أو ملتوية باتجاه الانفصال والتقسيم. وأيضاً تشجيع العرب الأقربين على خرق الحصار. * كاتب سوري