كان احد اهم الأهداف التي سعت القيادة العراقية الى تحقيقها في الازمة الاخيرة المستمرة مع الأممالمتحدة، هو امكان ان تساهم الاجواء التي خلفها التصعيد واحتمالات مواجهة عسكرية جديدة مع الولاياتالمتحدة في بلورة موقف عربي عام مساند للعراق يتم في النهاية تجييره لمصلحة عودة العلاقات الطبيعية مع الدول العربية الرافضة للتطبيع مع بغداد. ومن وجهة النظر العراقية فمن الطبيعي ان تكون مثل هذه الخطوة، اذا ما تحققت، احدى الوسائل التي من شأنها ان تساعد على طي صفحة الماضي التي ترتبت على ازمة عام 1990 والحرب التي تلتها ومن ثم العودة الفاعلة للعراق الى الساحة العربية. والأهم من ذلك هو دق المسمار الاخير في نعش الحصار المفروض على العراق وأيضاً، ولعله الأهم، حسم الخيارات الدائرة حول مستقبل العراق باتجاه الحفاظ على الوضع الراهن. وسواء كان التوقيت الذي انطلقت فيه الازمة مختاراً من قبل القيادة العراقية، وهو الأغلب، ام انه كان مجرد مصادفة بحتة فانه جاء في وقت رأته ملائماً عربياً بسبب تزايد الشعور بالنقمة في العالم العربي ازاء سياسات اسرائيل وتعنتها في عملية السلام الشرق اوسطية ومشاعر الاحباط الناتجة من الشعور بعجز الولاياتالمتحدة من ان تفعل شيئاً لاقناع او اجبار اسرائيل على الالتزام بالاتفاقات التي وقعتها مع الفلسطينيين. ان هذا الربط بين الوضع العراقي وتطورات عملية السلام او الصراع العربي - الاسرائيلي عموماً اصبح امراً مقبولاً من المراقبين لشؤون المنطقة رغم ان البعض يرى فيه مبالغة تعتمد على جزئية معينة في عملية السلام وآخرون يرون انها مجرد محاولات عراقية لادخال عناصر خارج اطار المشكلة القائمة بين العراقوالأممالمتحدة بشأن اسلحة الدمار الشامل العراقية. وفي هذا الاتجاه جاء الخطاب العراقي بخصوص الموقف العربي والذي عبرت عنه سلسلة من بيانات اجتماعات مجلس قيادة الثورة وقيادة حزب البعث وتصريحات نائب رئيس الوزراء طارق عزيز ووزير الخارجية محمد سعيد الصحاف وافتتاحيات الصحف الرسمية والتي صبت جميعها في مجرى واحد وهو القول باستبعاد قيام الولاياتالمتحدة بعمل عسكري ضد العراق بسبب وجود موقف عربي مناهض لذلك. بل ان بعض هذه التصريحات لمحت الى ان ضرب العراق قد يجر الى عواقب وتبعات ضد المصالح الاميركية في المنطقة بما ذكر بالخطاب الذي ساد عشية حرب الخليج عام 1991. ان مثل هذه البيانات بنت حجتها على اساس ان القلق العربي من سلبية الدور الاميركي في عملية السلام سيتفجر غضباً اذا ما قامت الولاياتالمتحدة بضرب العراق مجدداً وهو استنتاج أثار دائماً الجدل بشأن واقعيته وفسّر غالباً على انه يأتي في اطار التمني او نتيجة ما يدعي في علم السياسة الحديثة بالادراك الزائف. والواقع ان ما بدا كأنه يتفق مع هذا التوجه العراقي وأيضاً يدعمه هو سلسلة من المواقف التي عبر عنها بعض الاطراف العربية الرسمية اثناء اشتداد الازمة ومنها تصريحات لوزير الخارجية الكويتي الشيخ صباح الاحمد في القاهرة والتي بدت رافضة لأية ضربة عسكرية توجهها الولاياتالمتحدة ضد العراق. وعندما تأخرت الضربة وظهر وكأن هناك ميل لدى واشنطن لتفضيل الخيار الديبلوماسي اصبح من المؤكد لدى القيادة العراقية ان تحليلها للموقف العربي المعارض للأسلوب الاميركي للتعامل العسكري مع العراق هو الاقرب لديها للصحة مما يستدعي العمل على البناء عليه وتطويره. لكن السؤال الى اي مدى يمكن اعتبار هذا التحليل منطقياً ومنسجماً مع واقع السياسة العربية الحالية تجاه الوضع العراقي، اذ جاز القول بوجود مثل هذه السياسة؟ فهل ان استمرار مثل هذه الازمات والمواجهات مع الأممالمتحدة والوصول بها في كل مرة الى حافة الهاوية، وهو الاسلوب الذي يبدو ان العراق قد اختاره، سيؤدي في محصلته النهائية الى بلورة موقف عربي متطور من وجهة نظر القيادة العراقية ازاء الموضوع العراقي يمكن ان يفضي، من بين وسائل اخرى، في النهاية الى عودة كاملة للعراق للحضيرة العربية وبالتالي يساعد على انهيار نظام العقوبات الذي يفرضه مجلس الأمن باصرار اميركي؟ ترتكز الاستراتيجية العراقية في مواجهة نظام العقوبات الذي تضربه الأممالمتحدة منذ اكثر من سبع سنوات بتبسط شديد على قاعدة مفهوم تآكل الحصار. وهي نظرية تقول ان مجلس الأمن لن يرفع العقوبات في وقت قريب بسبب الرفض الاميركي القائم على رؤية تستبعد ذلك قبل تحقيق شروط معينة. وطالما كان الأمر كذلك فان الطريق الوحيد امام العراق هو تهديم جدار الحصار شيئاً فشيئاً على رغم انف اميركا ومجلس الأمن. وفي هذا السياق فان ابرز ما يتوخاه العراق هو مساعدة دول الجوار وخاصة العربية له في كسر الحصار عبر مختلف الطرق والوسائل وتحويله بالتالي الى مجرد قرارات لمجلس الأمن لا قيمة للحبر الذي كتبت به. ووفق هذه الرؤية العراقية فان المطلوب ان يتعدى اي تحرك عربي في هذا الاطار مجرد محاولة ارسال طائرة محملة بالأدوية على غرار ما قام به مؤخراً السياسي الروسي جيرنوفسكي او عقد صفقات تجارية بموجب اتفاق النفط مقابل الغذاء بل ان يكون رسالة تحد صارخ للأمم المتحدة وعقوباتها الاقتصادية. ان ما يساهم ايضاً في تكوين هذا الاقتناع العراقي هو عدم انقطاع بل تواتر التصريحات التي تكاد تصبح شبه يومية وبلسان كبار القيادات العربية عن محنة الشعب العراقي ومعاناته جراء استمرار الحصار وذهاب البعض شوطاً ابعد في الدعوة الى ضرورة نسيان الماضي والى المصالحة العربية وإعادة لم الشمل. وبالنسبة الى العراق فإن مثل هذه المواقف لا بد ان تكون خطوات مشجعة على الطريق على رغم انها ليست كل شيء. فإن ما يهم القيادة العراقية ليس عبارات التعاطف التي يطلقها هذا المسؤول العربي او ذاك بشأن المأساة الانسانية التي يولدها الحصار والمخاوف التي يعبر عنها مثل احتمالات تمزق البلد وانهياره بل هو الدفع الى ترجمة هذه المواقف الى فعل بخاصة من خلال كسر قرارات الأممالمتحدة وتحديها وإقامة قوة مثال يحتذي به الآخرون، وهو الامر الذي سيعتبره العراق بداية تآكل الحصار الذي يسعى اليه. هنا يكمن جوهر الاستراتيجية العراقية في استخدام الازمات الدورية مع الأممالمتحدة في الدفع باتجاه موقف عربي مساند يعول على تنامي المشاعر المتعاطفة مع الشعب العراقي وادراك المخاطر الخارجية التي من الممكن ان يتعرض لها العراق في حالة استمرار الحصار وتكرار المواجهات مع الولاياتالمتحدة. لكن السؤال بالتأكيد هو الى اي مدى نجح العراق لحد الآن في دفع الدول العربية وحتى اشدها قرباً اليه في تبني مثل هذه القناعة ومد يد العون اليه في محاولاته الدائبة لانهاء الحصار؟ من الواضح ان هذه المحاولات العراقية المستميتة اصطدمت ولا تزال بجدار سميك من الرفض الصريح من البعض واللامبالاة من الآخرين او تفضيل حالة الترقب والانتظار من قبل الاغلبية على رغم وجود اقتناع عام ظاهر بأن هناك مشكلة انسانية وان هذه المشكلة تستدعي حلاً قبل ان تستفحل وتتحول الى كارثة. فالموقف الذي تلتزم به جميع الدول العربية رسمياً وعملياً هو ان على العراق ان ينفذ كل قرارات الأممالمتحدة وينصاع لارادة مفتشي الاسلحة الدوليين حتى يقرروا هم متى يمكن ان ترفع العقوبات ويعود العراق عضواً كامل الأهلية في المجموعة الدولية. ان استمرار كل دولة عربية بالالتزام بهذه القرارات، وهو الأمر الحاصل فعلاً، يعني ببساطة رفضها للمنطق العراقي الداعي لتحدي الحصار ومحاولة كسره بل على العكس من ذلك اصرارها على ان ينفذ العراق كل القرارات الدولية. ومع ذلك فان هذه المحاولات العراقية لم تخل من نتائج لصالح النهج الذي تتبعه بغداد والتي من المؤكد انها توضع الآن تحت المجهر في العواصم المعنية لاستكشاف امكانية تحقيقها للاختراق المطلوب. لا ينبغي النظر هنا الى زيارات طارق عزيز الى القاهرة ودمشق او ذهاب وفد من الفنانين العرب الى بغداد رغم ما تنطوي عليه هذه الاعمال من دلالات رمزية. اذ من المؤكد ان القيادة العراقية تنظر الى ما هو اكثر من ذلك. ان اهم ثمار المواجهة الاخيرة بالنسبة اليها هو ما كشفته من تناقض جوهري في مواقف بعض الاطراف العربية المعنية بالملف العراقي مع موقف الادارة الاميركية بشأن اسلوب ادارة الازمة مع العراق والهدف النهائي، وهو الامر الذي كشفته رسالة الرئيس كلينتون الى القمة الخليجية الاخيرة وبعض المواقف التي تم التعبير عنها خلال القمة. ذلك هو في الواقع جوهر الاستراتيجية العراقية الحالية والتي من المتوقع ان تكشف عنها الفصول القادمة من الازمة مع الولاياتالمتحدة التي ربما سيرفع عنها الستار بعد شهر رمضان. ومع هذا فان هناك شكوكاً كبيرة في ان الرؤية العراقية هذه تنطلق من وعي بالبيئة الحقيقية التي تجري في داخلها صياغة المواقف والقرارات الخاصة بالعراق. ان ما يغيب عن الحسابات العراقية هو ان سبع سنوات بعد حرب الخليج كانت محصلتها الاساسية تغير قيمي في العلاقات العربية واستبدال قواعد اللعبة في المنطقة والتي كانت ابرز ملامحها هو تعالي نبرة نظام اقليمي جديد قائم على تقويض الركائز التي كان يقوم عليها نظام السبعينات والثمانينات. هذا النظام كما هو واضح من لهجة الخطاب الرسمي العربي ينتقد السياسة الاسرائيلية وتقاعس حكومة نتانياهو في تنفيذ اتفاقات السلام كما يلوم الولاياتالمتحدة لعدم قيامها بما ينبغي لحضها على ذلك لكنه يدعم استمرار العملية السلمية بكل ما من شأنه ان يمنع انهيارها. ان مثل هذا الموقف العربي يفسر عدم جدوى المبالغة في الاتكال على موضوعة الربط بين الشأن العراقي والموقف العربي من عملية السلام كمخرج للأزمة، على الأقل في المنظور القريب. اضافة الى هذا فان هناك بوادر الى ان مثل هذه الاستراتيجية قد تدفع بالدول العربية المعنية التي ملت تكرار المواجهات العراقية الاميركية الى الاتجاه المعاكس اي الضغط على واشنطن لاتخاذ القرارات الأصعب التي ترددت في اتخاذها طويلاً بشأن حسم رؤيتها لمستقبل النظام في العراق. هناك الكثير من المؤشرات تؤكد ان الاعتراض الذي ابدته بعض الاطراف العربية المعنية بالوضع العراقي على الضربة الاميركية للعراق اثناء التصعيد الاخير جاء ازاء نوع الاهداف التي كانت ستضرب وليس ضد مبدأ المواجهة العسكرية بحد ذاته. وفي ضوء ذلك فان من الواضح ان اي تصعيد جديد قد يؤدي الى ارتداد النهج الذي يسلكه العراق لإحداث شرخ بين هذه الاطراف العربية والولاياتالمتحدة بشأن العراق ويعمل بدلاً عن ذلك على اجبارها لانضاج الخيارات المؤجلة منذ عام 1991. جوهر الامر اذن ان مواجهات اخرى بين العراقوالولاياتالمتحدة قادمة لا محالة بسبب كونها الاسلوب الوحيد المتاح امام القيادة العراقية للفت الانظار بين حين وآخر للحصار الذي تصرّ على انه المشكلة الوحيدة التي تواجهها. وسيظل العراق ينتظر حلاً عربياً وان يكون العرب هم البادون في كسر الحصار وانهائه. ولكن السؤال المطروح هو هل ستفلح مثل هذه التكتيكات في كسر الحلقة التي تدور فيها السياسة العربية تجاه العراق منذ نهاية حرب الخليج والقائمة على عوامل وحسابات تتعاطى مع الوضع العراقي بأسلوب التأجيل حتى ينضج الحل المنتظر المناسب والمريح للجميع اقليمياً ودولياً.