المدينة الهادئة تحتفل بسياحها على مدار السنة. أشعة الشمس الدافئة التي ترخي سدولها فوق ارجائها تعانق بخفر النسائم المنعشة التي تهب في كل آن. كل نهار يحمل معه مزيداً من الزوار، من اسبانيا والعالم. يردونها ليشاهدوا هذا البساط المترامي من الدور والأحياء حيث القديم يختلط بجديده الحديث. الرحلة الواحدة لم تنقطع على مدى 13 قرناً متواصلة. قرطبة تعد اليوم 320 ألف نسمة. طابعها الريفي بادٍ والبلدة إلى ذلك تجمع في نواحيها خليطاً من الحداثة والثراء. لكنها لا تزال تحمل بأنفة صور مجدها القديم كمحطة وسيطة بين الشرق والغرب، وكجسر حضاري ربط بين العالمين المسيحي والمسلم والأوروبي والعربي. طوال ثلاثة قرون من الزمن تربعت قرطبة فوق وجدان أوروبا وكانت أكبر عاصمة أوروبية جاهاً وفخامة ومنعة. منها انطلقت أمواج الحضارة لتمدّن أوروبا الهمجية ولتزرع في وجدانها تراثاً من الأنوار والاشراق الإنساني الذي كان العامل الأول الذي أحيا الفكرين اليوناني والروماني بعد خمولهما. عدد مساجد وقصور قرطبة التي كانت تشمخ فوق مساحة هذه المدينة فاق المئة مسجد وقصر. القليل منها بقي والكثير تداعى وأتلف. والقرطبيون المسنون يذكرون كيف دمر الكثير من هذه الصروح منذ مطلع القرن الجاري لبناء الوسط التجاري الجديد. الأحياء في وسط قرطبة لا تزال تحتفظ في رسمها وتخطيطها بالتقسيم المتعرج للمدينة القديمة، حيث انقذت مئات البيوت وأعيد ترميمها وصيانتها، إلا أن الأمر نفسه لا ينطبق على الصروح التاريخية الضخمة التي خلّفها العرب والتي أزيلت ليحل محلها نسيج عمراني حديث يستجيب في صورة فورية أكبر لحاجات التنمية والاستثمار. المرور بالمدينة والتوقف فيها يثيران ألماً في القلب لا سبيل لدفعه. في هذه "الزواريب" والحارات الضيقة حيث تشرئب الطريق وتتعرج وتلتف في كل اتجاه كانت تعيش مملكة عربية ذهبت ضحية للصراع بين الأديان والقوميات، كما كانت ضحية للمطامع الفردية والرؤى الضيقة والتشبث بمعاني السلطة والاستئثار. الدروب المتعرجة تحيط، إحاطة السوار بالمعصم، بجدران المنازل البيضاء التي تعلوها نوافذ خشبية متقنة ومشربيات محفورة وشرفات فاتنة ذات تصميم بسيطة تستند إليها أصص الزهور والورود. وسط هذه الدروب تمتد خطوط عريضة من حجارة الزلط المرصوفة بعناية لتكون مسرباً للمياه الجارية حين تهبط الأمطار وتسيل بين الأحياء القديمة المتدرجة ارتفاعاً وهبوطاً، حيث البصمات العربية وملامح الحضور الاسلامي لا تترك قائمة. من هنا ان يمر أبناء هذا الشعب البائد وعلماؤه وجنوده وقادته وملوكه. ابن رشد ترك بصماته وكتاباته قبل أن يرحل بعيداً. عباس ابن فرناس لقي حتفه عام 888 في قرطبة. استنبط صناعة الزجاج من الحجارة وكان أول رجل في العالم يطبق فكرة الطيران ويسعى إلى التحليق بجناحين من ريش، لكنه لاقى حتفه في محاولته الجريئة التي لم تكلل بالنجاح. أول اسطرلاب في العالم دعي "صفيحة الزرقالي" وصنعه إبراهيم بن الزرقالي ابن قرطبة. كما وضع مع ابن صاعد مبادئ جداول طليطلة الفلكية المعروفة بالزيج الطليطلي. ابو القصيص المولود في الزهراء قرب قرطبة عام 936 يعتبر أحد أكبر الجراحين الذين عرفتهم الإنسانية بدون منازع وظلت كتبه تدرس في الجامعات الأوروبية لأكثر من 500 عام. أبو عبدالله الإدريسي، المعروف بالشريف، والمولود في سبتة عام 1099 درس في قرطبة. يعود إليه فضل وضع نظام جديد مسطح لرسم الخرائط الجغرافية مما ساهم في الاكتشافات الجغرافية الكبيرة التي عرفها العالم بعد أربعة قرون. مكتبة الحكم الثاني كانت تضم في القرن العاشر 400 ألف كتاب في وقت كانت مكاتب أوروبا مجتمعة لا تعد أكثر من بضع مئات. الأمثلة كثيرة على عظمة المدينة أيام الحكم العربي وهي تعطي للسياحة فيها معنى خاصاً لا يمكن انكاره. مجد غارب قرطبة المتكئة على نهر الوادي الكبير تتوسط الأندلس وتمتد من شمالها إلى غربها. وإلى شمال المدينة تنتصب جبال مورينا في حين تمتد سهول لاكامبينيا الخصبة إلى جنوبها. منذ انشائها كمستعمرة رومانية نشطة عام 169 ق.م واتخاذها عاصمة لصعيد اسبانيا، استمرت في لعب دور سياسي بارز حتى فتحها على يد المسلمين عام 711 حينما أصبحت عاصمة لاسبانيا المسلمة. كانت تابعة لدمشق عاصمة الخلافة الأموية إلى أن نصب عبدالرحمن الأول نفسه أميراً عليها عام 756 بعد انهيار سلطة الأمويين واستئثار العباسيين بالخلافة. عام 929 عمد عبدالرحمن الثالث إلى قطع علاقته ببغداد منشئاً خلافة مستقلة عاصمتها قرطبة التي كانت تعد 100 ألف نسمة آنذاك وتعتبر أكبر مدينة في أوروبا الغربية في وقت كانت لندن، على سبيل المثال، لا تعد أكثر من عشرة آلاف نسمة ومثلها مدن وعواصم أخرى كثيرة في القارة القديمة صارت اليوم من أكبر الحاضرات الدولية وأعرقها. وعزز وضع قرطبة امتلاكها ثروات كبيرة استفادت فيها من قوتها العسكرية ومن انفتاحها العلمي والفكري على كل الشعوب والقوميات والأديان، بالاضافة إلى الخبرة الزراعية الكبيرة التي كانت تملكها والتي لا يزال يستفيد منها إلى اليوم الكثير من البلدان المجاورة لاسبانيا. سلطة الخلافة امتدت إلى أغلب أنحاء شبه الجزيرة الايبيرية وجزر البليار وشطر من المغرب العربي حينما كانت قرطبة في أوج قوتها. وفي نهاية القرن العاشر استأثر المنصور، وهو أحد القادة العسكريين بالسلطة في قرطبة. شن 50 غزوة في مدى 20 عاماً من الحكم، وكان صاحب بأس شديد أوصله شمالاً إلى كاتدرائية سانتياغو دي كومبوستيلا التي تحتل مكانة مقدسة في نفوس الكاثوليك الاسبان. عمد إلى تدمير الكاتدرائية وإجبار المسيحيين المستعبدين على حمل أبوابها وأجراسها إلى قرطبة حيث نصبت هذه الأجراس رأساً على عقب واستخدمت كمصابيح عملاقة في المسجد الكبير في المدينة. لدى وفاة ابن المنصور عام 1008 سادت الفوضى في قرطبة وهاجمت القوات القادمة من المغرب عاصمة الخلافة وقامت بسلبها وإثارة الذعر في قلوب السكان. ولم تلبث سلطة الخلافة في قرطبة ان انهارت نهائياً عام 1031 لتتجزأ إلى نحو 20 طائفة مختلفة. ثم أصبحت قرطبة تابعة لطائفة اشبيلية عام 1070. ومع ذلك، وحتى ظهور حكم الموحدين والمرابطين في القرن الثاني عشر، استمرت الحياة الفكرية نشطة فيها، إلا أن الأمر لم يلبث أن تغير بعد ذلك وفقدت المدينة ابهتها إلى أن استولى عليها فرناندو الثالث عام 1236 مما أدى إلى فرار غالبية السكان. قام الملك المنتصر بإعادة الأجراس إلى كاتدرائية سانتياغو دي كومبوستيلا لتستمر الحياة السياسية في المدينة بعد ذلك، ولكن على درجات من الأهمية والعظمة أدنى مما كانت تعرفها. التاريخ محرك السياحة تنتشر محلات بيع التذكارات والهداية والأفلام والبطاقات البريدية في قرطبة، لا سيما الأحياء القديمة، بعدما تحولت السياحة إلى أكبر مورد فيها وحلت محل الصناعة التي حملت إليها بعض الانتعاش القرن الماضي. وتقوم المدينة برمتها حول محور أساسي يتوسطها المسجد الكبير الذي يعرف اليوم باسم "الكاتدرائية - المسجد القديم". ويحاذي البناء الذي يعتبر أبرز معالم المدينة قاطبة ضفة نهر الوادي الكبير. ويقع الحي المسلم القديم إلى شرقه مشكلاً المدينة القديمة في حين يقع الوسط الحديث للمدينة في ساحة "دي لاس تنذياس" على بعد مئات الأمتار شمالاً. ويقع ما يطلق عليه "الخوذرية" إلى الغرب والشمال من المسجد الكبير. وتقول تفسيرات عدة إن الاسم أصله "الخضرية" - وهو سوق الخضار الكبير الذي كان يقع عند بوابة سور المدينة مباشرة - وان تشابهه مع كلمة "خوذيو"، وتعني اليهودي بالاسبانية، ليس إلا مجرد مصادفة. إلا أن هذا الالتباس يتعزز بوجود الكنيست في منتصف الطريق بين بوابة السور والمسجد. وهو كنيست صغير يحظى باهتمام عدد كبير من الزوار اليهود من إسرائيل وغيرها. ويبدو ان هذا الطابع السياحي والرغبة في استقطاب السياح اليهود شكل مبرراً للترويج لكامل الحي على أنه حي يهودي وليس اندلسياً عربياً. وينطبق هذا الأمر على الملصقات السياحية والاشارات المنصوبة داخل الحي وفوق المطاعم والمحال. ووصل الأمر حد اطلاق اسم الميمونة على كامل هذه المنطقة بعد نصب تمثال فيها للفيلسوف العربي اليهودي الكبير ابن ميمون، الذي ولد في قرطبة عام 1135 وفر منها مع ابن رشد ليموت في القاهرة عام 1204. وكان كل كتاباته بالعربية. ومع تحوير المكان وافقاده هويته باسم الفولكلور السياحي وامتناع الزوار العرب عن فرض طابعهم الخاص وحماية هوية الحي، تبدو مشكلة المحافظة على هوية قرطبة العربية قائمة بدليل ان المسؤولين عن المسجد الكبير، كما يقول أحد العاملين في جامعة المدينة يواصلون تغيير الطابع العربي والإسلامي في المسجد. ويلفت مثل هذا الأمر النظر، في ظل المبالغة في تعظيم الحضور اليهودي في قرطبة وأهميته مع التركيز على شخصية ابن ميمون لاعطاء هذا الحضور طابعاً علمياً يفوق حجم هذه الطائفة ومشاركتها في تاريخ الأندلس. وعلى رغم كل الاعتبارات الخاصة تستحق قرطبة زيارة ملية إليها. ففيها القصور والمتاحف وفيها الحارات القديمة وفيها النسائم العذبة وفيها من الجو الأليف ما يجعل المرء يتخيل أنه في إحدى المدن العربية الساحلية. ويكفي ان السير في أزقتها والتنقل بين أحيائها يوماً واحداً يكفي ليجد المرء طريقه فيها بكل سهولة إذا قادته قدماه إلى المكان نفسه مرة ثانية. والاسبان في قرطبة سياحاً وسكاناً على درجة عالية من اللطافة والود. وهم في حديثهم عن الحضارة العربية والإسلامية يبدون قدراً من الفخر والإعجاب يمكن تلمسه في كل آن.