الذين رأوا لوران ديزيريه كابيلا في تنزانيا، عندما كان مقيماً فيها في الثمانينات، لم يتفاءلوا كثيراً بتوليه السلطة في جمهورية الكونغو الديموقراطية زائير سابقاً في أيار مايو 1997. فالرجل ليس بالثائر المثالي، أو حتى العادي. فقد كان يجوب شوارع العاصمة دار السلام في عربة مرسيدس فارهة يصطاد بها الغواني، فالرجل زير نساء كبير... وهو بعد تاجر أكثر منه سياسي، أدار فندقاً متواضعاً في العاصمة التنزانية، ولما انتقل الى كمبالا عاصمة اوغندا في التسعينات، عُرف كسمسار يتاجر عبر الحدود في المجوهرات الثمينة... فكابيلا من مقاطعة شابا كاتنغا سابقاً في الكونغو، التي تشتهر بالماس وتجارة الماس! ويبدو ان كابيلا بعد أكثر من عام بقليل، فشل في ادارة البلاد، وكان طبيعياً أن يواجه المعارضة التقليدية القوية، لكنه الآن يواجه المعارضة وأنصاره وحلفاءه القدامى من صفوف ثواره، فأي سيناريو ينتظر الكونغو الديموقراطي؟ كتب إبراهيم الضاهر : يقول المثل السائد انك لا تحتاج لقراءة كل الرسالة لتعرف محتواها، فأحياناً العنوان يكفي ويفي... وهذا كان حال كابيلا عندما تسلم زمام السلطة في جمهورية الكونغو الديموقراطية عبر مسيرة مسلحة... وكيما يكسب أراضي سياسية في بلد لا يعرفه أهلُه، فقد أعلن برنامجه الذي وعد فيه بعودة الديموقراطية والتعددية وفقاً لجدول زمني، وبذل الوعود ببسط الحريات العامة وحرية الصحافة والتعبير، والمحافظة على كرامة الانسان وكل حقوقه المشروعة. ولأن "المانيفيستو"، كما يبدو، كان معداً ومكتوباً، فإن كابيلا على الطبيعة فعل العكس تماماً. فتحرش بالمعارضة السياسية بقيادة ايتان تشيسيكيدي، وجعل من نظامه أداة لوأد الحريات واخماد كل صوت يرتفع بالنصح أو بالحق. فكثرت الاعتقالات وزادت المواجهات. خصوصاً في صفوف المعارضة والصحافة. وظن كابيلا انه قادر على حكم البلاد من خلال القبضة الحديد. ألم يحكم سلفه موبوتو سيسي سيكو ثلاثين عاماً بحد السيف؟ ولأن أداء كابيلا في الحكم خلال عام واحد برهن على خذلان للذين تعاطفوا معه، وساندوه، فمن البديهي أن يتخلى عنه الأخيرون، من اريتريا الى اوغندا الى رواندا والى أنغولا، وقد وصل الحال بكابيلا الى تفجر الثورة ضده، وهذه المرة بقيادة قبائل التوتسي من أصل زائيري في كيفو، وغوما، وكيسنغاني ستانلي فيل سابقاً وانتقلت الى بوكافو ومانياما وبيدوندو وبونجي ماي واوفيرا وكنناقا وكاساي. واضطر كابيلا الى اللجوء الى مسقط رأسه في لويومباشي بحثاً عن مخرج، ولكن لنبدأ القصة من أولها: بازيماهاكاراها هو أحد أبرز وجوه "البانامولنغي" أي التوتسيين الذين نزحوا من رواندا وبورندي في 1959 هرباً من حكم قبيلة الهوتو وسطوتها، وانخرطوا في المجتمع الزائيري تماماً وأصبحوا مواطنين زائيريين واستوطنوا منطقة كيفو الشمالية. وبازيماهاكاراها ظهر كوزير للخارجية في حكومة كابيلا، وكان يعتبر بمثابة الابن لكابيلا قبل ان يعزله الأخير مؤخراً من منصبه. وقد نجح كاراها في تحريك توتسي الماسيسي الى صفه ضد أبيه الروحي السابق، بل وانتقده علناً: "ان كابيلا يتمتع بمقدرة فائقة في عدم الاستماع الى النصح، وليست له خطط قصيرة أو طويلة المدى. انه يفتقر الى الرؤية بدليل تصرفاته المتأرجحة حيال وزرائه، فهو يطردهم ويعيد تعيينهم ثم يعتقلهم، وهكذا دواليك"!. وما قاله كاراها هو نفسه ما اكتشفه غيره بأن كابيلا منذ الوهلة الأولى وضحت عدم مقدرته على تولي أمر ركبه مصادفة... الحكم، لكن ظن البعض ان الروانديين حول الرجل يمكن أن يخلصوا له النصح، ويجعلوا منه رئيساً أفضل على الأقل مما هو عليه. لكن كابيلا كان يضرب بكل نصيحة يسمعها عرض الحائط، ويتبع ما تمليه عليه نزواته. وقد بدأت المشاكل تطل برأسها عندما بدأ كابيلا في التنصل من تحالفاته مع الروانديين ومع التوتسي، وحين عمد الى استبدالهم بأهل مسقط رأسه، الكاتنغيين، وظهر ذلك جلياً يوم ازاح الأمين العام لحركته الثورية ديوقراتياس بوقيرا وأحل مكانه الكاتنغي شبالو نتومبو! واعتبر ذلك بداية التحول في توجه كابيلا، خصوصاً انه بعد ذلك مباشرة طار الى كوبا فيما بعث بأمينه العام الجديد نتومبو الى فرنسا برسالة محددة، هي حاجته العاجلة الى مساعدات حربية وعسكرية... وبينما كان كابيلا في كوبا، بعث الى سكرتيره في رئاسة الجمهورية ليخطر رئيس هيئة أركان الجيش جيمس كابريري بالاستغناء عن خدماته، ودبج السكرتير الرسالة التي رفض رئيس الأركان الاعتراف بها قائلاً بانه سيذهب في حال واحدة، وهي اذا سمع ذلك من الرئيس نفسه! ولما عاد الرئيس كابيلا من كوبا، واجهه رئيس الأركان فتنصل من القرار زاعماً ان ثمة سوء تفاهم يجب ازالته... وبدلاً من ذلك عقد كابيلا مؤتمراً صحافياً بعد نصف ساعة من مقابلته لرئيس الأركان، أعلن فيه اعفاء الرجل، وتعيين سيلستين كيفوار في مكانه! أما لماذا ذهب كابيلا الى كوبا وفجأة من دون سابق اعلان، فمعروف ان الرجل له ارتباطات بالثورة الكوبية، وقد قصد أصدقاءه القدامى ليس بحثاً عن مساعدة عسكرية عادية، كما قد يتبادر الى الذهن، وانما ليطلب امداده بقوات كوبية. وحسب مصادر ذات صلة، تذرع الكوبيون بأن زمن الحرب الباردة ولى، وان لا مجال لارسال قوات كوبية الى افريقيا في هذا الوقت! ومع ذلك، فإن كابيلا اطلق اعلانه الشهير في الاسبوع الأخير من تموز يوليو 1998 بطرد القوات الرواندية من الكونغو الديموقراطية. ولم يضع الأخيرون وقتاً، فقد قاموا باحتلال كيتونا على الساحل الغربي وبوكوفو وقوما ومانياما وبيدندو وكيسنغاني وبونجي ماي واوفيرا وكانانغيا وكاساي. وكل هذه المدن فيها مطارات حربية. والمدهش ان الثوار الجدد لم يواجهوا أي مقاومة تذكر بل وفي كثير من الحالات لقوا تأييد الحاميات المحلية والسكان، مما يعني ان حكم كابيلا لم يكن مقبولاً، رغم ان منطقة كيسنغاني شهدت قتالاً عنيفاً بين الثوار والموالين لكابيلا. وفيما قالت المعارضة التقليدية، على لسان ايتيني بيزماوا، من الحركة الكونغولية للديموقراطية، ان الأمر ليس كابيلا أو كينشاسا كما انه غير شخصي، فالمطلوب عودة الديموقراطية لكن من دون كابيلا كرئيس للبلاد، فإن الثوار، ومن خلفهم رواندا، لا يريدون قتالاً يفرز منتصراً أو مهزوماً، بقدر ما يريدون برنامجاً سياسياً واضحاً يتم بموجبه تشكيل مجلس وزراء يضم كل الطيف القبلي في البلاد، بما فيهم كابيلا، ثم تحديد القيادات الصحيحة في المنفى واختيار أحدهم رئيساً للبلاد. والى أن يتم ذلك، فإن القائد المرتقب الذي يمثل كل مجموعات شرقي البلاد، يجب أن يكون كونغولياً صرفاً حتى لا يتكرر السيناريو بأن التوتسي يحتلون الكونغو! ولا يعرف حتى الآن من هو القائد الجديد لكن آرثر زاهيدي نجوما يقوم مرحلياً بالمهمة وما تريده مجموعة بازيماكاراها هو التحاور مع كابيلا في شأن ترتيبات اقتسام السلطة، وعلى هذا الأساس فإن استراتيجية الثوار هو تحويل المدن والمواقع التي يحتلونها الى مراكز نفوذ سياسي. وحتى الآن، فإن اوغندا وقفت على الحياد حيال الصراع الجاري، ونقل هذا الموقف الرئيس يوويري موسيفيني الى كابيلا واعداً بمناقشة الموضوع مع رجل رواندا القوي، والحاكم الفعلي، بول كاغامي، وقيل ان موسيفيني وكاغامي احتدا مع بعضهما في الحديث. وقيل ان موسيفيني حذر رواندا من مغبة احتلال الكونغو الديموقراطي ضارباً المثل باحتلال تنزانيالاوغندا في 1979 وتنصيبها لملتون أبوتي رئيساً، ونبه موسيفيني الى أن القائد الحقيقي للبلاد يمكن العثور عليه من داخل الكونغو الديموقراطي نفسه! وماذا عن كابيلا؟ من الواضح ان الأوغنديين يريدون لكابيلا أن يحتفظ لنفسه بموقع تفاوضي قوي، لكنهم في الوقت نفسه لا يمانعون أن يتم تسجيل عدد من الانتصارات على قواته حتى يمكن اجباره على قبول مبدأ الجلوس الى مائدة المفاوضات. لكن ما تخشاه اوغندا - حسب مراقبين في المنطقة - ان يسقط كابيلا فريسة لنصائح الذين حوله من أهل كاتنغا، فيرتكب اخطاء وحماقات تؤدي الى مواجهات دموية والى اراقة دماء. ان جهود دول المجموعة الاقتصادية لدول الجنوب الافريقي سادك المتمثلة في ارسال بعثة رباعية من وزراء الخارجية لكل من اوغندا ورواندا تعتبر محاولة سياسية للتوسط مثلها مثل وفد منظمة الوحدة الافريقية الذي بعثت به الى الكونغو الديموقراطي. بيد ان ما يلزم التوسط هو قبول الطرفين المتنازعين به، فهل يقبلان؟ أما مجلس الأمن فقد أصدر قراراً يدعو الى تحاشي العنف ويدين التدخلات الأجنبية، من دون تسميتها رغم انها معروفة كالشمس وهي اوغندا ورواندا وانغولا. ووسط اجواء ملتهبة وجدت الدول الغربية نفسها مضطرة الى اجلاء رعاياها من الكونغو الديموقراطي. والسيناريو غير واضح لغاية الآن، لكن مؤشراته تدعو للانزعاج والقلق. فقد أقال كابيلا رئيس أركان الجيش الذي عينه قبل أيام لفشله - كما زعم - في صد التمرد والعصيان، وعين نجله جوزيف كابيلا قائداً للجيش، وعين الجنرال كالوم نومبي نائباً له، وهو من جنرالات الحرس القديم في عهد الرئيس السابق موبوتو سيسي سيكو، وجنرالات الجيش "الزائيري" القديم اتخذوا مواقف متباينة. فواحد وأربعون منهم قابلوا مدير ديوان كابيلا، يورديان ومباسي عارضين خدماتهم لصد ما أسموه الغزو، وفي نفوسهم مرارة قديمة، فهم لا ينسون هزيمة كابيلا لهم في 1997، وفي الوقت نفسه، وللسبب ذاته، فإن جنرالات من الحرس القديم يتعاونون مع الثوار في شرقي البلاد للانتقام من كابيلا. فبالنسبة الى الثوار فإن تحرك منظمة الوحدة الافريقية وتحرك دول الجنوب الافريقي أصبح غير ذي معنى، كما قال سلفين بوكي، أحد قادة الثوار: "الوقت أصبح متأخراً جداً للحديث أو الحوار مع كابيلا" وهو ما ردده قائد الثوار - بيير أوندكان - 36 سنة قائد الفرقة العاشرة ستة عشر ألف جندي في حكومة كابيلا الذي قال بأنه يجب انهاء الأمر بسرعة، ولا ضرورة لحرب استنزاف، فيما قال كابيلا ان الحرب ستكون طويلة، طويلة. وفي تقدير بعض المحللين العسكريين في منطقة البحيرات العظمى، فإن جيش كابيلا لا ينقصه العتاد لكن قوته الجوية ضعيفة، ان لم تكن معدومة، فليس في حوزته سوى طائرتي هيلوكبتر صناعة سوفياتية من طراز "م.أ.24" ويزعم الثوار ان كوبا زودت كابيلا بمن يديرونهما له. وتزعم كل من الحكومة والثوار بأن مقاتلي الماي ماي التقليديين انحازوا لهم، لكن المؤكد ان جيش كابيلا مليء بما يعرفون بأطفال الحرب الكودوسو، والذين ورد ذكرهم في قرار مجلس الأمن. وفيما يعتقد الثوار بأن كابيلا ارتدى ملابس سلفه موبوتو واعتمد المحسوبية وسوء الادارة والفساد برنامجاً سياسياً له، فإن فرنسا ألمحت مجدداً بأنها ستكون سعيدة برحيله وكذا الولاياتالمتحدة الأميركية لكن الغريب ان كلاً من زيمبابوي وزامبيا وتنزانيا وكينيا تقف الى جانب كابيلا وفي الجانب المناوئ تقف اوغندا ورواندا وانغولا. وعلى هذا الأساس فإن المعركة الدائرة تعتبر صراعاً بين الواقع السياسي والانتهازية السياسية. فقد اختارت اوغندا ان تلعب من وراء الكواليس، بيد أن علاقاتها مع رواندا - وتعتبران في نفس الخندق - قد توترت، والرئيس الأوغندي موسيفيني لا يستبعد أن يستخدم كابيلا قوات مرتزقة لطرد التوتسي من شرقي البلاد، خصوصاً انه متهم بالتورط في تدريب قوات "الانترحاموي" الهوتية التي تحارب نظام كيغالي في رواندا. وفي هذا السياق، فإن المراقبين السياسيين يعتبرون كابيلا هو "فرانكشتاين" نائب الرئيس الرواندي بول كاغامي، الحاكم الفعلي لرواندا. فهل ينجح فرانكشتاين في الاستمرار رئيساً بعد مصالحات ومفاوضات متوقعة. أم ان اطاحته لا بد منها؟ المنطق يقول ان كابيلا بدأ فعلاً في الصعود الى أسفل، وان البحث عن بديل له يجري من وراء الكواليس، وفي أحسن الظروف يمكن قبول كابيلا كلاعب سياسي في التركيبة الجديدة، لكن بعيداً عن مقعد الرئاسة