مرة أخرى تجددت الحياة في منزل الطيار الحربي السعودي المفقود منذ 1991 بعدما قرأت العائلة أمس في صحيفة "الحياة" اعلان وزير الدفاع الكويتي الشيخ سالم الصباح اعتراف الحكومة العراقية بوجوده أسيراً لديها، فتفتحت لها طاقات الأمل في فترة انتظار قد تكون الأشد توتراً مخافة أن يضيع الخيط مرة أخرى أوتمتد مأساة الإنتظار لتدخل القضية دوامة جديدة. وكانت العائلة عانت طوال السنوات الماضية من حالات الانتظار الصعبة، وأرهقتها أنباء متناقضة عن مصيره تُعلقها بحبل الرجاء حيناً وتسقطها في قاع اليأس أحياناً، من دون أن تستقر على حال أو تعرف لمفقودها مصيراً محدداً. إلا أنها لم تيأس بل تابعت الأخبار واتصلت بكل الجهات المحلية والدولية بحثاً عن معلومة. ولعل مصادر النفع الكبرى جاءت من بعض الأسرى الذين اطلقوا وأكدوا لأفراد العائلة وجود طيار سعودي ولكن من دون أن يعرفوا إسمه أو وضعه. وبعدما أكد الجندي محمد منسكي وجود طيار سعودي في العراق، أثبت بدر المطيري عام 1994 للعائلة، اثر مشاهدته شريط فيديو، أن الطيار المحتجز هو ابنها. ثم ضاعت الخطوط بعد ذلك ولم يبق للأسرة سوى إيمانها وحدسها الأبوي وشوقها البنوي. والطيار السعودي هو المقدم محمد صالح ناضرة، وكان أقلع بطائرته "ف - 5" من تبوك في الثاني والعشرين من شباط فبراير 1991، لكن الطائرة أسقطت داخل الأراضي العراقية واعتبر قائدها في عداد المفقودين. وحتى نهاية الحرب لم تعرف الأسرة هل هو حي او ميت. لكن اتصالاً من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز طمأنها الى سلامته، وأكد أنه لايزال حياً. ثم أكد الفريق أول ركن الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز، قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات وقتها، أكثر من مرة أن الطيار المفقود في عداد الأحياء. وبينما يقضي المقدم ناضرة سنوات من عمره في الأسر حيث تختلط التواريخ وتضيع فروقات الأيام والسنين وتبهت الصور نتيجة تكالب الوحدة وحرقة الحنين، والحرمان من معرفة وضع عائلته وماجرى لها بعده... استمرت عائلته في البحث والمتابعة بإصرار وحماسة لم تضعفهما السنون وجفاف المصادر حتى أصبحت لديها خبرة في هذا المجال. كما أرادت، في الوقت نفسه، أن تنمو فروعها لتصبح مثمرة حينما يعود الأب من غربته القسرية ليجد تاريخه يتجذر وصورته البطولية تتعمق، وأنه يحيا في ذاكرة الأهل والأصدقاء والزملاء. لا يعرف المقدم ناضرة، وهو يشرف على الخمسين أنه فقد أباه قبل بضع سنوات بينما لا تزال والدته، مشحونة بيقين الأم الداخلي، تترقب عودته وتدعو له بالسلامة. أما ابنه عبدالرحمن الذي ودعه وهو رضيع فبلغ التاسعة الآن وهو ينتظر عودة أبيه بعدما حاصره اليتم مرتين. فقد أباه أولاً ثم فقد - الأسبوع الماضي - جده لأمه عبدالرحمن داغستاني الذي تولاه ورعاه وتبناه، حتى لكأن الطفل لايعرف له أباً سواه. وعبدالرحمن هو الأكثر شوقاً لرؤية والده الذي لم يعرفه سوى عبر صورة مموهة في شريط فيديو تعرضه الأسرة في لحظات الحنين والوجد، وذكريات لم يعايشها كأنه فيها الطرف المفقود. وبخلافه تحتفظ الأبنة الصغرى 14 سنة وأخوها صالح 13 سنة في ذاكرتيهما الطفولية ببقايا صور ومواقف ومشاهد تسمح لهما باحتضان الأب المفقود وإن عن بعد. ولعل ناضرة حينما يعود سيجد طفلاً رضيعاً يحمله مرة أخرى لكنه لن يكون عبدالرحمن بل حفيده من ابنته الكبرى التي تزوجت العام الماضي لتبني للعائلة فرعاً جديداً يحتفل بعودة الغائب. والمقدم ناضرة ضابط ملتزم ومجتهد، يشهد له زملاؤه بأنه كان دقيق التصويب وماهراً في التحكم فهو لم يكن طياراً فقط بل كان مدرب طيران يستخدم طائرته ببراعة تجعل من يتابعه يظنها طائرة "ف - 16" أو ماشابه. ويتذكرون أنه كان يشجعهم ويثير حماستهم. وينصحهم، حال وقوع طائراتهم أو اسقاطها، بأن يلتزموا الهدوء ويتبعوا خطوات الاحتياط وأن تكون ثقتهم كبيرة. ولا يزال ناضرة عضواً منتسباً الى القوات الجوية وتتسلم عائلته مخصصاته باعتباره من المفقودين. وتتابع الإدارة شؤون عائلته من باب المسؤولية والزمالة والوفاء. هل يعود المقدم طيار محمد صالح ناضرة الى وطنه وأهله قريباً؟ الحكومة تبذل جهدها لاستعادته، وتسعى الجهات المعنية بالتعاون مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر الى اطلاقه. وأمه وزوجته وابناؤه، واخوانه وأخواته يستبشرون خيراً ويرون أن ماحدث هو خطوة غير مسبوقة. وأن الإعتراف العراقي أثمن ماحصلوا عليه حتى الآن. أما الفرحة الكبرى فهي حينما يستغنون عن شريط الفيديو بحضوره الشخصي ليعوضهم مرارة السنوات الصعبة ويعوضوه سنوات الوحدة الموحشة.