تعرف دار الهلال المصرية بأنها واحدة من أقدم وأكبر دور النشر العربية، اذ تصدر اضافة إلى مجلة "الهلال" الشهرية سلسلة كتب وروايات منذ نحو خمسين عاماً. ونظراً لأهمية الاصدارات وديمومتها حازت دار الهلال على ثقة القراء العرب من مختلف المستويات. الا ان هذه الثقة اهتزت قليلاً مع اصدارها طبعة جديدة من كتاب جمال حمدان "6 اكتوبر في الاستراتيجية العالمية" ضمن سلسلة "كتاب الهلال". فالطبعة القديمة منه صدرت عن دار عالم الكتب في القاهرة عام 1974 وجاءت في 400 صفحة من القطع الكبير. اما طبعة دار الهلال ففي 600 صفحة من القطع الصغير. وعند المقارنة بين الطبعتين تبين ان دار الهلال اصدرت الطبعة الجديدة في الذكرى الپ24 لحرب تشرين في تشرين الأول/ اكتوبر 1997 بعد أن حذفت باباً كاملاً مؤلفاً من فصلين سبق ان نشر كباب ثالث في الطبعة القديمة، من دون اية اشارة منها الى حذفه بحيث صدر الكتاب وكأن لا وجود لهذا الباب اصلاً. واكتفت دار الهلال في تصديرها للكتاب على غلافه الاخير بالقول ان المؤلف قام بمراجعة هذه الطبعة وتنقيحها قبل رحيله، في محاولة ربما للايحاء بأن المؤلف هو الذي حذف الباب الثالث او انه وافق على صدوره هكذا ببابين فقط. وكان الاجدر بدار موثوق بصدقيتها كالهلال ان تشير في المقدمة او في تصديرها للكتاب الى ان المؤلف هو الذي حذف الباب الاخير والى اسباب ذلك ان كان هو الذي حذفه بالفعل. اما في حال قيامها هي بحذف هذا الباب وهو الارجح فقد كان حرياً بها ان تشير الى ذلك وأن تبين اسبابه. علماً ان الباب الاخير هو الأهم بين أبواب الكتاب الثلاثة، كون المؤلف بما عرف به كباحث استراتيجي تميزت كتاباته بالعمق والشمول، عرض فيه رؤيته الاستراتيجية لمستقبل الصراع العربي الاسرائيلي واحتمالاته. وهي رؤية تستحق الوقوف عندها وعرضها نظراً لما فيها من عمق ونفاذ بصيرة ممتدة الى يومنا هذا. خصص الفصل الأول من الباب الثالث للحديث عن احتمالات المستقبل من خلال عناوين عدة في مقدمها شعار ازالة العدوان وبدء المعركة السياسية بعد توقف المعركة العسكرية، مشيراً الى انه منذ بدأت المعركة السياسية اصبح البعد الدولي هو الغالب والمسيطر بينما كان البعد المحلي على اشده اثناء المعركة العسكرية. ثم تحدث عن التوصل الى اتفاقات فصل القوات على الجبهتين المصرية والسورية وانعكاسات ذلك على اسرائيل، وقال ان حرب تشرين كما هزت مجتمع العدو وزلزلت كيانه السياسي بلبلت افكاره وخططه التوسعية ولكن، من دون ان تستأصلها او حتى تخفف من غلوائها. اما استراتيجية السلام الاسرائيلية فهي باختصار تكتيك الحل الجزئي. ويخلص الى ان العدو لم يتغير ويرفض ان يتغير او ان يعترف بالحقائق الجديدة والواقع الجديد. وينبه حمدان الى حقيقة اساسية هي مفتاح للخطر كما هي مدخل الى المستقبل: حالة الجمود او التجميد القديمة في الموقف الصراعي عموماً التي سادت قبل حرب تشرين الأول انتهت بفضل المعركة، وبعدها حلت حالة من السيولة أو التميع قلقة ومربكة، من دون ان تظهر بعد حالة تبلور واضحة. وفي ظل هذا التميع فإن كل شيء اصبح الآن ممكناً: إما الحل أو اللاحل، اما الحل او الحرب. وعلينا ان نعمل للتسوية السلمية كأنها لا تأتي ابداً وان نستعد للجولة الثانية كأنها تجيء غداً. ويخصص جمال حمدان الفصل الثاني وهو الفصل الاخير في الكتاب للحديث عن مستقبل الصراع مؤكداً ان الصراع المفروض علينا متعدد الابعاد والمستويات والاهداف، فهو اولاً صراع بقاء وقوة معاً، اي صراع وجود ومصير في الوقت نفسه، ثم هو صراع حضارات كما هو صراع اجناس وصراع قوميات مثلما هو صراع اديان، وما بيننا وبين اميركا هو صراع قوة تاريخي، اما ما بين اميركا واسرائيل فهو لقاء مصالح تاريخي ينبع من وحدة النشأة والايديولوجيا ووحدة العدو. ومصير صراعنا يتوقف على مدى نجاحنا في فك وخلخلة هذه العلاقة بين اميركا واسرائيل ان لم يكن تحطيمها تماماً. ويؤكد ان الصهيونية مجرد غزوة، كما ان اسرائيل مجرد تجربة مهما طالت. ويقول ان الصراع مثلث الابعاد: سياسي عسكري وحضاري، وكلما تقادم العهد به سيكتسب البعد الحضاري اهمية اكبر وافعل. ويخلص الى القول ان السلام الحقيقي يبدو علامة استفهام محيرة ولئن كانت اسرائيل ادمنت مخدر الامن فليس للعرب الآن ولا في المستقبل ان يدمنوا مخدر السلام. بعد عرض ابرز ما جاء في الباب المحذوف 83 صفحة يبقى السؤال: هل يحق لمؤسسة بادرت الى اعادة نشر كتاب مهم لمؤلف كبير مثل جمال حمدان ان تنشره وقد حذف منه باب كامل من دون اشارة لهذا الحذف؟ وهل تم ذلك لاسباب سياسية راهنة؟ وكيف يمكن للقارئ ان يثق ويستجيب لكلمة دار الهلال عن الكتاب ونصيحتها انه كتاب لا بد ان يُقرأ فالصحيح انه كتاب لا بد ان يُقرأ كاملاً ومن دون اي حذف. * كاتب فلسطيني مقيم في دمشق.