عندما كنت منفياً بتاونات على بعد 80 كيلومتراً من فاس سنة 1941 - 1943 زرت جبل أسطار وهو يشرف على مجموعة من القبائل الجبلية المتناثرة في شعابه، ورأيت عدداً من النصب التذكارية أقامها الفرنسيون لضحاياهم في معركة من تلك المعارك الكبيرة التي خاضها عبدالكريم الخطابي مع المجاهدين الأشاوس ضد الجيوش الفرنسية المدججة بالسلاح، والتي استعدت لمواجهة جيش الخطابي الزاحف. وكانت هذه المنطقة بالنسبة للفرنسيين مفتاحاً استراتيجياً حيوياً يتحكم في أبواب الطرق المؤدية الى داخل المغرب من جهة وفي اتجاه وجدة والجزائر من جهة أخرى. وكان الخطابي بدوره يعرف أهمية الهجوم على هذا المفتاح وتكسيره والانطلاق بحرية خارج الدائرة التي انحصرت فيها حربه مع الاسبان وأعد للأمر عدته، وعندما زحف مع المجاهدين المتمرسين على حرب المواقع الوعرة، كان أول ما فعلوه وهم في سفح الجبل أن حفروا الخنادق الحلزونية الملتوية وتحصنوا داخلها فيما يشبه حزاماً أحاط بالجبل من جميع نواحيه. وكانت مدافع الجيش الفرنسي تصب حممها من تحصيناتها في أعالي الجبل. وحكى لي أحد الرجال ممن شاركوا في تلك المعركة فقال: كانت القنبلة إذا سقطت بالخندق الحلزوني فإن أثرها يبقى محصوراً في المكان الذي وقعت به. كانت المعركة شرسة وفي أوج احتدامها وعندما اعتقد القادة العسكريون الفرنسيون ان مدافعهم دكت الخنادق ومن فيها نزلوا من الجبل، فكان المجاهدون لهم بالمرصاد، إذ خرجوا من الخنادق وأوقدوا فيها النار وتحصنوا خلفها ببنادقهم وبالسلاح الذي غنموه في سلسلة المعارك الأخرى فأوقعوا بالجيش الفرنسي خسائر فادحة. وهكذا دخل اختراع الخنادق الحلزونية قاموس خطط حرب التحرير الشعبية، حرب المواقع، حرب الحصار الهجومية والدفاعية في نفس الوقت، لاستنفاد ذخيرة العدو وتكسير قوته الضاربة ومباغتته من حيث لايحتسب. وكانت الخنادق تتخذ في الحروب ليتحصن داخلها المقاتلون فتكون في خطوط مستقيمة فإذا سقطت القنابل حصدت عدداً لايستهان به من الرجال. وجاء عبدالكريم الخطابي ليبتدع هذه الخطة العبقرية التي استخلصها من تجارب الحرب ومن الحس العسكري الاستراتيجي والتكتيكي الذي ميز خططه ومبادراته كقائد عسكري محنك. مدخل إلى قلب البطل كان محمد بن عبدالكريم الخطابي ضنيناً في الحديث عن نفسه وخططه الحربية وتفاصيل تلك السنوات الخمس التي حمل فيها السلاح وصال وجال في جبال وهاد وآجام الريف أسداً يزرع الرعب في قلوب أعدائه، والحماس والأنفة والثقة في صدور رجاله، وفيما أعلم فإن الكثيرين حاولوا هتك ستار ذلك الصمت الذي أحاط بتفاصيل حياته النضالية فما ظفروا من البطل بغير ابتسامة تصد برفق رغبتهم، فيدارون بها لهفتهم. كان يرى الجهاد عبادة بل قمة العبادة، والعبادة يجب أن تكون خالصة بعيدة عن المراءات. ولكن البطل الأسطورة الذي فتنت صورته خيالي منذ الطفولة، لم ينسني، وأنا أقابله، رغبتي وتصميمي على الظفر منه بحديث صحفي لجريدة "الرأي العام"، لا، بل إني كنت أكثر تصميماً على الغوص في أعماق الرجل، واكتشاف درر حياته ونضاله، وهكذا حملت معي إليه جموح طفل مفتون به، وفضول صحافي لا يبل ظمأ قلمه للجديد والمفيد، وإعجاب ومحبة مناضل فخور بهذا البطل الذي أنجبته بلاده وجلب الاحترام لشعبه. ولكن، كيف السبيل لاقتحام هذا الحصن الحصين؟ وما هي المسالك التي أنفذ منها الى باب من بواباته المنيعة؟ وتركت للمصادفة وحدها أن تمنحني فرصة الإمساك بخيط يربطني إلى اهتمامه، ويشده الى صدق رغبتي وسلامة طويتي، وكنت أعلم منذ طفولتي ان البطل الأسطورة قضى بضع ليال، بعد أن وضعت حربه مع الاستعمار أوزارها وأصبح أسيراً، في بيت عمنا محمد بن عبدالسلام بن سودة في حومة الزيات بمدينة فاس قبل أن يبدأ رحلة المنفى الطويلة المعروفة تفاصيلها، وقلت في نفسي لعله يتذكر فيسألني من أكون من عائلة بن سودة، فإن هذا هو أفضل مدخل الى قلبه، وأيسر مسلك لتحريك كوامن نفسه واستئناس حبه. وبالفعل سألني في أول لقاء عن أسماء من عمومتي وأهلي، يذكر بعضهم كانوا رفقاء له في الدراسة بالقرويين، ويذكر آخرين ممن أخذ عليهم كأساتذة، فحدثته عمن بقي منهم على قيد الحياة. وماهي إلا أن رأيت وجهه المستدير يتهلل بابتسامة لا أنساها، فهي تكسو سائر وجهه، أنفه وفمه وعينيه وصدغيه. كان يتذكر، وسألني عن عمي محمد بن عبدالسلام وقال: كان له ولد شيطان مريد مشاغب لايفتر عن الحركة ماذا فعل الله به؟ قلت: لقد تخرج عالماً من القرويين وهو الآن قاض شرعي في وادي زم، قال والابتسامة تزداد اتساعاً وتألقاً في محياه: ذاك أصبح قاضياً؟... هذا من علامات الساعة! وحكى لي قصة تلك الأيام والليالي التي قضاها في بيت عمنا محمد بن عبدالسلام بن سودة في مدينة فاس، وقال: عندما أخذني الفرنسيون أسيراً وعلمت أنهم سيستبقونني في مدينة فاس مدة من الوقت ريثما يرتبون أمرهم ويعرفون ما هم فاعلون بي وإلى أي مكان بعيد ينقلونني، قلت لهم: إذا كنتم ستضعونني في منزل فأنزلوني في بيت آل بن سودة، وهكذا أقمت في بيت محمد بن عبدالسلام بن سودة، ورغم أنني كنت في الأسر فإن مقامي في ذلك البيت وفي تلك الأسرة كان مصدر سعادة وعزاء لنفسي، كنت أحظى بأكرم رعاية وألطف وأرق عناية، وكأنني في بيتي وبين أهلي. ويذكر البيت فيصفه كما لو أنه غادره منذ لحظة لا سنوات، ويقول: كان أهل البيت يخبرونني بأن أهل فاس عرفوا بمقامي في بيتهم. وكانوا يقولون: ان بن عبدالكريم يوجد في بيت فلان. وأضاف: ان تلك الأيام ذكرتني بأيام دراستي في القرويين، إنها أيام لا تنسى، وكم كنت أتمنى لو التقيت برفقائي في الدراسة وبزيارة من بقي على قيد الحياة من شيوخي الأجلة الذين درست عليهم. وقلت له: لقد سمعت من بعض أهل فاس أنك قبل أن تعزم على خوض الجهاد كاتبت بعض العلماء تستفتيهم وتطلب رأيهم. وهز رأسه بحركة ايجاب وقال: لا تنس أنني قاض شرعي، والفتوى في أمر كالجهاد واجبة لأهل العلم. وقلت له: وأذكر وأنا طفل ان صورة لك كانت تباع بمدينة فاس ويتخاطفها الناس خفية ويضعون لها إطاراً ويعلقونها في جدران بيوتهم، وسمعت أن هذه الصورة أخذت لك عندما كنت طالباً بالقرويين بباب مدرسة العطارين وأنت لابس جلابة ومعتمراً عمامة مثل هذه التي تلف رأسك، ابتسم وقال: علمت ذلك في تلك الأيام والليالي التي قضيتها ببيت عمكم محمد بن عبدالسلام بن سودة. واستدرجني هذا المدخل إلى قلبه فسألته: لماذا اخترت أن تكون أسيراً عند الفرنسيين لا عند الاسبان؟ وأجاب: أولاً لم يكن لدي اختيار لأولئك أو هؤلاء، فالمعركة كما تعلم جرت في المنطقة التي كانت تحتلها اسبانيا، أما الفرنسيون فإن المعركة معهم كانت في نهاية المطاف. وصمت قليلاً ثم أضاف: وظني ان الفرنسيين حينما تحالفوا مع الاسبانيين ضدي كانوا يقولون في قرارة أنفسهم بأنني على حق وان الاسبانيين على باطل، ثم إنه لم يكن بيني وبين الفرنسيين ثأر، على خلاف الاسبانيين الذين كانت بيني وبينهم بحور من الدم، فقلوبهم كانت مليئة بالحقد عليّ، فلو قدر الله وكنت وقعت أسيراً في أيديهم أنا وأسرتي واخواني من المجاهدين فإن مصيرنا كان واحداً من اثنين: الاعدام أو التعذيب والإهانة، أما الأول فيهون على الكريم، وأما الإهانة فإنها تدفع المسلم لأحد أمرين: الانتحار، أو قبول الذل، الأول حرام شرعاً، والثاني لاتقبل به النفس الأبية، لهذا كان من عناية الله بي وبأسرتي أن كنت أسيراً عند الفرنسيين لا عند الاسبانيين، وكانت إرادة الله أن ينتهي هذا الأسر بما لابد أنك تعرفه من قصة نزولي في ميناء بورسعيد ومقامي حيث أنا الآن في دولة إسلامية وبين إخوان مسلمين. ومن حديثه علمت ما في قلبه من محبة يكنها للعائلتين السودية والوزانية، وعن هذه سألني عن آل الوزاني ولأول مرة عرفت أن رفيقه وكاتبه ومستشاره ومستودع أسراره كان وزانياً هو والد الشهيد ابراهيم الوزاني الرجل الذي أديت أول قسم في حياتي على يده، وتبينت وقتها سر تلك الروح الثورية الفياضة للمناضل ابراهيم الوزاني، ولماذا كانت مواقفه دوماً تجنح الى الثورة والى استعمال القوة ضد المستعمر، ولكنه كان يذعن برضا لرأي الأغلبية ويلتزم بما التزمت به، وتلك شيمة قلما يتحلى بها مناضل، شيمة الثورية والانضباط الديمقراطي في نفس الوقت. مذكرات البطل كانت الزيارة الأولى مفتاحاً للدخول الى قلب البطل، وهكذا تكررت زياراتي له أثناء تلك الرحلة سنة 1951 ثم بعدها في الرحلات التي توالت الى عاصمة الكنانة. وفي كل مرة كان بيته بحدائق القبة مقصدي وهدفي، وفي بيته تعرفت على أفراد عائلته وكانت لي جلسات مع أخيه المجاهد امحمد الخطابي الذي لعب مع بطل الريف دوراً كبيراً كمقاتل ودبلوماسي للثورة، وقد شغل ما يشبه دور وزير الخارجية، وقد وجدته كأخيه على قدر كبير من الذكاء، متواضعاً، مثقفاً، يقرأ كثيراً وينخرط مع محدثيه في مناقشات تدل على سعة اطلاعه وثاقب فكره. وقد كان حنينه للعودة الى بلاده جامحاً يعبر عنه بلوعة من برحه الشوق واستبد به الهوى، وهو كأخيه كان يعيش في بيت مستقل آخر، حياة مغربية خالصة. وعرفت أيضاً عمه عبدالسلام وكان يشغل ما يشبه دور وزير مالية الثورة الريفية، وكان يكن لابن أخيه احتراماً عميقاً وتقديراً جليلاً، وكان يقول لي: ان هذا الرجل أنعم الله عليه بصفات الصالحين، وكان يردد: هنيئاً لك فإني أراه يحدب عليك ويحبك ويقربك ويفضي اليك بما لايفضي به لغيرك، وهذا دليل على أنك من أسرة طيبة وأرومة كريمة، وان أسرتك أسرة علم وصلاح وجهاد. كانت حواراتي مع البطل تطول لايقطعها إلا دخول ضيف أو زائر، فتكون حينئذ حوارات مفتوحة. وعنَّ لي أن أسأله أكثر من مرة عن مذكراته، وكنت أقول له: إن تجربتك الجهادية مثال رائع، وإن الناس ليتطلعون إلى قراءتها، فهلا نشرت مذكراتك. وفي كل مرة كان يجد مخرجاً للتهرب من الجواب، مرة يقول: إن شاء الله، ومرة يجيبني: حينما يحين الوقت بإذن الله، وكنت سمعت أنه كتب مذكرات يحكي فيها قصة حياته وجهاده، ولكنني لم أظفر بجواب قاطع عن الأمر من أولاده أو من أخيه وهو أقرب الناس إليه، وأعرف بخبايا نفسه وأسرار حياته، ولكن كان بين البطل وأولاده وأخيه سياج من الهيبة يقفون عنده فلا يتجاوزونه، فهو بينهم شخصان: الأب والأخ والمرجع وصاحب الكلمة العليا في كل شأن من شؤونهم، وهو الصامت على ما لايريد أن يعرفه أحد أو يسأل عنه، فهو مع وحدته وأسرار نفسه وخفايا هواجسه وعواطفه الدفينة. وكما احتفظ بكثير من العوائد والطبائع في ملبسه ومأكله وحياته اليومية كما كان في بلده، فقد احتفظ بسجايا وطبيعة القائد المقاتل المسؤول عن حياة ومصير الآلاف من المقاتلين حوله يقودهم في معركة محفوفة بالأخطار، تحتاج أول ما تحتاج إلى أكبر قدر من الانضباط والسرية والاحتراز، يخطط لها في انزواء وصمت بعيداً عن العيون والأضواء. فهل كان يحذر، لو قرر نشر مذكراته، أن يكشف أسراراً قد تفيد العدو الذي كان لايزال جاثماً على أرضنا منتشراً في أجوائنا؟ أم أنه كان يخاف أن يؤذي من حيث لا يقصد هذا أو ذاك من رفاق جهاده؟ لا هذا ولا ذاك، فإني وقد عرفت الرجل عن قرب وسبرت الكثير أو القليل من أغوار نفسه ومعتقداته وايمانه، أعتقد ان بن عبدالكريم الخطابي كان يؤمن ايماناً عميقاً أحاط بجوامع نفسه بأن الجهاد لله، وقد قام به لوجه الله لايريد من ذلك جزاء ولا شكورا، ولذلك عزف عن نشر مذكراته في حياته حياء حتى لايقول أحد: انه يريد بها الدعاية لنفسه، وكسب صيت أو مال، وإن هذا لمما تعف عنه نفس المؤمن الصادق الذي نذر حياته لوجه الله. ولكنني أكثرت عليه من السؤال، وألححت عليه إلحاح الواثق من سماحة نفسه ومن كرم محبته لي. وكانت لي إذ ذاك علاقة قوية بجمعية الاخوان المسلمين في مصر، وكانت خير معين ومؤازر لكفاحنا، وحينما عزم صديقي شفاه الله الاستاذ سعيد رمضان على اصدار مجلة "المسلمون" التابعة لجمعية الاخوان حرضته على أن يطلب من البطل الخطابي نشر مذكراته بالمجلة، فتحمس الرجل وسعى إليه برغبته ملتمساً الطريق الى موافقته بما يعرفه عن عبدالكريم الخطابي من عاطفة دينية لايستطيع مقاومتها، فقال له: إن المكافحين المجاهدين المسلمين يقتدون في مواقفهم وأعمالهم بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهي معروفة ومكتوبة ومحفوظة، وبسيرة الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين وأعلام المجاهدين، فلا أحسبك تضن عليهم بنشر المذكرات التي تحكي جهاد المجاهدين وتعطي المثل للمكافحين. وفعلاً رضخ الخطابي لهذا الضغط الذي لايستطيع مقاومته وسلمه بعض الحلقات بواسطة ابنه المرحوم ادريس الذي كان يصطفيه من بين أولاده ويحضره في جلساته ويشاركه محاوراته. ونشرت بمجلة "المسلمون" حلقات لا أذكر عددها، وآسف أنني لا أحتفظ بنسخ منها، ولكن توقف نشرها، ولعل البطل الخطابي قرر إيقاف النشر. ولبى ابن عبدالكريم داعي ربه بعد ذلك بسنوات وتساءل الكثيرون عن مذكراته... أين هي؟ ومن يملكها من أولاده أو أبناء أخيه أو غيرهم؟ ومتى يماط اللثام عنها؟ لا أعرف شيئاً عن الأمر. وما أعرفه عن المذكرات أنها لو نشرت في يوم ما ستقطع دابر الذين جعلوا من حياة وجهاد بن عبدالكريم الخطابي مجالاً لتساؤلات وتأويلات تضفي الغموض والتشويش على حلقات من حياته ومواقفه، وتظهر ما خلفه الحقد الاستعماري على بن عبدالكريم في النفوس الضعيفة. وإذا كانت تلك المذكرات قمينة بأن تشفي غليل الباحثين والدارسين، وقد تكشف عن تفاصيل مجهولة، فإن مواقف الخطابي الثابتة وقناعاته والخط المستقيم لأفكاره ومبادئه، تظل معروفة، ليس فقط على مستوى الروايات المتواترة عنه، بل وعلى مستوى وثائق لا يرقى الشك الى صحتها. وقد أسعدني الحظ أن أكون واحداً من الشهود، شهود إثبات بعض الحقائق التاريخية عن أفكار الرجل ومواقفه، وها أنا أدلي بما حفظته الذاكرة من شهادات. أنا قاض شرعي ومطوق البيعة في لقاء مع المجاهد ذات مساء في بيته، قلت له: - تحدث البعض فقالوا أنك كنت تريد أن تقيم جمهورية وأن تبسط سلطانك على المغرب بدل السلطان المبايع. ابتسم وقال: قالوا عني هذا حتى وأنا في حرب ضروس معهم، وها أنتم الآن تكافحون الاستعمار وأنتم مجردون من كل سلاح، وتواجهون الاستعمار وبأقلامكم وخطبكم، تقاومونه بالسياسة، ألم يقولوا عنكم بأنكم ضد السلطان، ألم يفعلوا كل ما يستطيعون للوقيعة بينكم وبين السلطان؟ وأنا أقول لك إن الحركة الوطنية التي أنت واحد من رجالها لم تنجح ولم تصمد إلا حينما استطاعت أن تقيم بينها وبين الملك الجسور وأن تتوثق علاقاتها به، وأن تخطط وتنفذ بمعرفته وباتفاق معه، وإنني أؤكد لك ان هذا العمل المنسق بين الحركة الوطنية والملك هو الكفيل بالقضاء على مؤامرات الاستعمار وألاعيبه الشيطانية، إن هدف الاستعمار هو التفرقة، هو عزل القادة عن شعوبهم بإخافتهم من شعوبهم ليبسط سيطرته ويحكم قبضته. إن الحماية الفرنسية والاسبانية التي نصبت نفسها على المغرب ضداً على إرادته، نفذت الى المغرب عن طريق التفرقة، تفرقة الصفوف وبث الوهن في النفوس وإشاعة البلبلة بين الناس وتجنيد المرتزقة والعملاء والجهلاء في القبائل لايهام الملك بالفتنة ضده. والاستعمار استمرأ هذه اللعبة اللعينة، وقسم المغرب الى مغربين: المغرب الذي ينعم بالأمن، وما يسميه بلاد السيبة. وحينما قمنا بالجهاد في الريف عمد الاستعمار الى نفس اللعبة. وأنا أريد أن أقول لك: إنني كنت عارفاً بهذه المؤامرة الدنيئة، ولقد بعثت كثيراً من الرسل ليجتمعوا بجلالة الملك مولاي يوسف ليبينوا له حقيقة جهادنا ويجددوا له بيعتنا ويطلبوا منه العون والمساندة لنا، ولكن الاستعمار الذي ضرب حول الملك حصاراً منيعاً حال دون أن يتصل رسلي بجلالة الملك، بل انه أمعن في الادعاء له بأننا خارجون عن سلطته ليوغروا صدره علينا. ثم قال لي: يابن سودة إنني عالم من علماء القرويين، وأنا قاض شرعي ومطوق بالبيعة لأمير المؤمنين، وأعرف واجباتي كمسلم مؤمن وكوطني مخلص غيور. وأضاف: - كنت أريد أن أقضي على الاستعمار وأطهر منه بلدي، وفعلت ذلك كجندي من جنود أمير المؤمنين وحامي حمى الملة والدين. وأنا أعرف قدري وأعرف الحقيقة المغربية، وأعلم ان المغرب حباه الله نظاماً أسس على البيعة والرضوان، وعرشاً أقامه وأرساه المولى ادريس الأول فجمع حوله المغاربة على اختلاف انتماءاتهم واتجاهاتهم، ولن يستطيع مغامر أن يقوض صرح الوحدة المغربية حول العرش، لأنه يجمعنا جميعاً ويحمينا ويوحد كلمتنا. وأتابعه في صمت وأسجل كلماته لأنشرها في حديث بجريدة "الرأي العام" وهو يتدفق، ويتكلم، وكأنه يخاطب جمعاً من الناس: - لم أكن ضد الملك ولا ضد العرش، حاشا معاذ الله أن أكون كذلك، ولو كنت أريد الحكم لنفسي لنلته، ولسلَّمني الاسبان الرئاسة ومكنوني من حكم المنطقة الخليفية كلها، ولبارك الاستعمار الفرنسي ذلك، أليس غرضهم هو تمزيق المغرب وتحطيم كيانه وتفريق وتشتيت شعبه؟ ولست أنا الذي يركبونني مطية لهذا الهدف. ما كنت أريد إلا الصلاح والإصلاح كمسلم وكمغربي يدين بالبيعة لملكه فهو جندي من جنوده، فهل حاربت جيش الملك؟ هل أشهرت السلاح على المغاربة أبناء ملتي؟ حاربت الاستعمار، وراية الاستعمار، وعندما ربحت المعركة ضد الاسبانيين لأوجهها ضد الفرنسيين تحالف الاستعماران ضدي، وكان ما كان، كنت أجاهد من أجل الجهاد لأنني عالم وأعرف ان أكبر عبادة في الاسلام هي الجهاد، فالله سبحانه وتعالى يقول: "أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله"، ولكن الاستعمار إنما يخاف من الذين يجاهدون في سبيل الله حق جهاده، يخاف من الذين وهبوا حياتهم لله لا لجاه ولا لمكسب ولا لمغنم. ورمقني بنظرة كأنه يقرأ في ملامحي إن كنت قد اكتفيت بما سمعت، ومن غير أن ينتظر مني جواباً أضاف: إن هذا الأمر كان يهمني أن يعرف الناس فيه كلمتي بوضوح، فلطالما أشاع البعض وردد أنني كنت أطلب الأمر لنفسي واستدلوا على ذلك بأشياء لا تقوم حجة لما يدعون، لو كنت طالب حكم لفزت به، ولكنني قاومت وجاهدت في ساحات المعارك ولم أستسلم أو أذعن أو أخف، وها أنا كما تراني أقضي بقية عمري مبعداً عن وطني كان هذا الحديث سنة 1951، لقد أديت ما علي ما استطعت، وكان أملي أن أعيش في وطن حر كريم، فالله سبحانه وتعالى يقول "ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا". * تنشر المذكرات، بالاشتراك مع صحيفة "الاتحاد" الظبيانية، على حلقات، أربع مرات في الأسبوع: الاثنين، الثلثاء، الخميس، والسبت