ترى الكاتبة المغربية فاطمة المرنيسي في كتابها "السلطانات المنسيات - نساء رئيسات دولة في الإسلام"، أن الخيزران أتت الى العالم حرة في منطقة من اليمن تسمى "جورش"، ووصلت الى بلاط بغداد بصفتها جارية، مشيرة الى أن الشريعة الإسلامية لا تسمع باسترقاق المسلم للمسلم، لأن ذلك يعتمد على عنصرين هما: أن يكون مشركاً بدنياً. وأن يشكل جزءاً من غنيمة، وتنفي المرنيسي ذلك عن الخيزران معتمدة على مسقط رأسها ومنشأها الذي هو اليمن حسب المراجع التاريخية التي اعتمدت عليها، منها: الطبري وكتاب "الأغاني" وغيرهما من كتب التراث. غير أنني أذهب الى أن التحليل السابق للمرنيسي يشوبه القصور، ذلك لأن الخيزران وهي واقفة أمام الخليفة المنصور متحرياً عن اصلها قالت: "لقد ولدتُ في مكة لكنني ترعرعتُ في جورش في أرياف اليمن". وللعلم وهذا هو نفسه ما اعتمدت عليه المرنيسي نافية أن تكون الخيزران أمة، معللة ذلك بأن اليمن كان من أوائل البلدان التي أسلم سكانها في العقد الأول للإسلام. والملاحظ أن الخيزران لم تخف أصلها عن الخليفة المنصور، وهو أقدر وأعلم بالفقه الخاص بالجواري والعبيد آنذاك لقرب عهده بالرسالة، وإجابة كتلك من الخيزران كانت ستهدم تخطيطها للوصول الى السلطة ولتغيير واقعها الذي أراه هو المبرر الوحيد لإدعائها الرق. يلاحظ أن كثيراً من كتب التاريخ والتراث تجمع على أن الخيزران إدعت الرق لكونه السبيل الوحيد الذي يمكنها من الوصول الى أهدافها، وربما يكون أول تحليل قريب للاقناع في هذا الشأن هو أن الفقه الإسلامي بعد أن كانت له نصوص تخص الرق وكيفية معاملة العبيد وتحريرهم وغير ذلك. غُيبّت تلك النصوص وتجمد العمل بها، واقتصر الفقه في شرحه وتفصيله لطبقة الأحرار دون العبيد، وخلت كتب الفقه بعد ذلك من الإشارة الى طبقة العبيد التي شكلت جزءا عددياً مهماً في الحياة التي كان المسلم يعيشها سواء في العصر الأموي أو العصر العباسي على وجه الخصوص. إذن فالساحة التي يمكن للخيزران أن تتحرك في دائرتها وصولاً الى أهدافها لم تكن سوى الاسترقاق، لكنه كان وسيلة وليس هدفاً، فما أن حلت بالقصر حتى أصبحت محظية، انجبت بعدها للخليفة المهدي ولدين، وتحولت بذلك الى زوجة. ولم تقتنع بهذا، بل أصرت على أن تنافس ريطة بنت السفاح - مؤسس الدولة العباسية - بصفتها حرة وليست أمة، وبذلك أحدثت انقلاباً، على حد تعبير الكاتبة فاطمة المرنيسي، تمثل في حصولها من المهدي على تعيين ولديها موسى الهادي وهارون الرشيد وليين للعهد، واستبعاد أبناء النساء الآخريات كورثة شرعيين. واحتل ولداها موسى الهادي وهارون الرشيد مكانة عالية لدى والدهما، ولم تكن أختهما البانوقة أقل قدراً وعزة منهما، إذ يشير ابن حزم في كتابه "رسالة في أمهات الخلفاء" إلى أن المهدي كان شديد التعلق بالبانوقة الى درجة أنه كان يصحبها معه في رحلاته. وبعد وفاتها وجد كبار الضباط أنفسهم مجبرين على مواساة الخليفة، وذلك بتقديم التعازي مع كل المراسيم اللازمة، الى درجة أن السلطات الدينية بدأت ترى أن هذا كثير جداً من أجل امرأة، فموتُ هذه، حتى لو كانت أميرة كان ينبغي أن يعبر عنه بصورة خفية، لا سيما أن أمها الخيزران جاءت عبر طريق الرق، وإن كان المؤرخون اختلفوا حول ذلك الأمر الأخير، وفي مقدمهم الطبري. واضح إذاً أن الطريق الذي اتخذته الخيزران كان مكلفاً، لكنه كان ضرورياً لها، على الرغم من أن كتب التاريخ تروي قصتها بأنها اقتيدت من قبل بدوي وباعها في مكة. ومن نخّاس الى آخر وجدت نفسها في قصر الخليفة المنصور والد المهدي، وأنها استرعت انتباهه عندما تحرى عن أصلها، فبعد أن كشفت له أنها من اليمن، أجابت عن سؤاله أما يزال لك أهل هناك؟ كلا، لم يكن لوالدتي أحد سواي، وأضافت بعد توقف عبارة أثّرت في الخليفة وهي: "أنني وحيدة، وليس لي في هذه الدنيا غير الله"، ما جعل الأخير يأمر بإعطائها الى ابنه المهدي قائلاً: خذوها الى المهدي، وقولوا له إنها أهل لإنجاب الأولاد، وبالتأكيد فإن الخليفة عرف ذلك من فراسته، لكن الذي غاب عليه هو أنها كذبت عليه في ما قالت. إن الخيزران في حقيقتها لم تكن الابنة الوحيدة لأسرتها، وليست من دون عائلة كما أدعت، وإنما تنتمي الى عائلة على قيد الحياة مكونة من أمها واختيها وأخويها، وظهر ذلك جلياً وبالممارسة حين ضمنت مستقبلها، فبعد أن ولدت ولدين للخليفة جاءت بعائلتها، التي كانت تعيش حياة عوز في اليمن، وعوضتها عن بؤسها بسعة بعد. وحسب ما يبدو فإن إغراء الرجال الكبار كان من اختصاص اسرتها، فإحدى اختيها المسماة اسماء حاولت أن تخطف منها زوجها المهدي، وأستأثرت شقيقتها "سلسل" بأمير آخر فتزوجته وهو جعفر شقيق الخليفة، وأخيراً عُين شقيقها الغطريف حاكماً على اليمن. عموماً فإنها أصبحت بعد ذلك من ربات السياسة والنفوذ والسلطان، ولعبت دوراً عظيماً في خلافة ولدها الهادي واستبدت بالأمر حتى شاركته في شؤون الدولة، وكان في بداية عهده كثير الطاعة لها، مجيباً لها في ما تسأله من الحوائج، وكانت المواكب لا تخلو من بابها، غير أنه حين أمضى من خلافته أربعة أشهر، وانثال الناس عليها وطمعوا فيها سألته أن يولي خاله الغطريف اليمن فوعدها بذلك، لكنه ما فتئ أن اختلف معها. ويتحدث بعض المصادر عن محاولات بينهما لقتل أحدهما الآخر، وحين جاء ابنها هارون الرشيد الى الحكم كان متأثراً بها ومطيعاً لها، وهناك من يقول إنها هي التي أوصلته الى الخلافة. ويصفها عمر رضا كحاله في كتابه "أعلام النساء" بأنها أديبة وشاعرة أخذت العلم عن الأوزاعي. واضح أن هناك معطيات نستشفها من عمق التاريخ تؤكد أن الخيزران كانت حرة واختارت طريق الرق لتحقيق أهدافها، والصعود بعائلتها نحو الأعلى، يمكن ذكر بعضها على النحو التالي: 1- إنها في لقائها الأول مع الخليفة المنصور قالت إنها من مكة، وبما أنها مسلمة فإنه لا يجوز استرقاقها لأن مكة بعد الفتح لم يعد هناك مجال للاسترقاق فيها. 2- إن حياتها الشخصية تبين أن التحاقها بالقصر لم يكن معتمداً على الصفات التي تميزت بها الإماء ولا حتى الاخلاق الخاصة بهن مثل الغناء أو الرقص، وإنما اختيرت لسببين: الأول، أنها جميلة، والثاني ملامحها الدالة على أنها امرأة ولود حسب فراسة الخليفة. 3- سرعة الوصول الى التأثير في الخليفة، إذ تمكنت في مرحلة وجيزة من تحقيق صعود واضح في السلم الأسري داخل قصر الخلافة، فمن محظية الى أم ولد الى سيدة صاحبة نفوذ سياسي، ثم صاحبة القرار السياسي الأول في البلاد سواء لحظة اختيار ولي العهد، أو لحظة وفاة الخليفة، أو حتى لحظة التمكين لهارون الرشيد عند وفاة أخيه. 4- مكانتها الادبية، تبين أنها اصبحت شاعرة وأديبة حين جاءت الى القصر ولم تكن قبل ذلك، ونحن نعرف أن حفظ الشعر والتفقه في اللغة والدين من سمات الجواري، وبما أنها لم تكن كذلك قبل التحاقها بالقصر فهذا يفيد أنها كانت حرة. 5- صحيح أنها تنتمي الى اسرة فقيرة، لكن لم تكن تلك الوضعية سببا في اختيارها طريق الاسترقاق، وإنما كانت تهدف الى تحقيق حرية أوسع لنفسها أولاً وللعائلة بعد ذلك الدافع الأساسي لاختيار ذلك الطريق. من كل ما سبق يتضح لنا أن الخيزران حرة اختارت طريق العبودية لأمرين: أولاهما: الخروج من دائرة السلطة الرجالية في ما يتعلق بفقه الحرائر - إن جاز التعبير. - وثانيهما: أن المشاركة في العمل السياسي يمثل بالنسبة لها إرثاً حضارياً وانتماء بيئياً، ولتحقيق ذلك لا شك أنها كانت تتمتع بذكاء حاد يصل بنا الى اعتبارها نموذجاً فريداً في التاريخ العربي الإسلامي، ويدفعنا هذا الى التساؤل عن اختيارها السابق، وتبدو الإجابة في قضايا جوهرية ثلاث. اولها: أن التضييق في الحريات بالنسبة الى المرأة المسلمة جعلها تتمرد بأسلوب السرية التي أقرها الإسلام. ثانيها: أن توسيع دائرة الحرية للاماء جعلهن نماذج يقتدى بهن. ثالثها: أن الحركة الاجتماعية في تلك العهود غلب عليها التأثر بأفعال الأغلبية ممن دخل الإسلام ضمن الفتوحات أو أجبروا على الاسترقاق. هكذا إذن تبدو الخيزران حالاً من التمرد على وضع لم تقبل به لثقافتها الدينية الخاصة التي ترى فيها الحرية من خلال الشريعة. وطبقاً لما ذكر فإنها حرة أصلاً لجأت الى قناع العبودية لتحقيق ما تصبو إليه. وبالطبع فإن الوصول الى السلطة وإلى تغيير الحياة بشكل عام ليس بالأمر الهين، بدليل الطريق الذي اتخذته سبيلاً، لكن يكفيها أنها حققت نتائج مكّنتها من تحقيق أهدافها. ومن تغيير العالم من حولها، وإن كانت ظلت مطاردة بقناع الرق في كتب التاريخ، ولا أعتقد أن ذلك يهمها ما دامت اختارت بوعي طريقها، وهو ما يتطلب منا إعادة النظر في كثير من المسلمات في تاريخنا العربي الإسلامي، حتى نتمكن من تأسيس قضايا معرفية على أسس بحثية سليمة. * كاتبة جزائرية مقيمة في مصر