ينزل بشير من قطار الضاحية الشمالية في محطة سيدي بوسعيد أشهر المنتجعات الصيفية التونسية. يملأ رئتيه بالهواء النقي الآتي من البحر، وهو ينزل درجاً طويلاً يقوده إلى الشارع الرئيسي. ينفث ما في صدره كأنما يريد التخلص من احتقان الدرس واختبارات آخر السنة التي شدت أعصابه أسابيع طويلة. يتجه بشير إلى محل لبيع المشغولات التقليدية في الشارع العتيق المزدحم بالسياح حيث اعتاد أن يعمل في فصل الصيف. وبشير واحد من الشبان الذين يعززون سوق العمل في فصل الاجازات بعدما تنتهي السنة الدراسية، فهم يأتون من المدن الداخلية إلى المنتجعات إما باتفاق مسبق ما صاحب عمل، أو بحثاً عن مصدر عيش يؤمن مصروف الجيب. إلا أنهم يختلفون عن الشبان العاطلين عن العمل الذين تركوا الجامعة أو المدرسة نهائياً، إذ أن عملهم وقتي وبعضهم جاء لتوه من قاعات الامتحانات مفتشاً عن نسيم البحر الذي يرد له توازنه وهدوء أعصابه بعد أسابيع ظلت خلالها مشدودة بسبب المراجعة والاختبارات. إلا أن الشبان الزاحفين إلى المنتجعات لا يكونون دائماً مدفوعين بالحاجة المادية، فكثير منهم يمل الفراغ خلال الاجازات التي تستمر نحو ثلاثة أشهر. فسامية ماجر، مثلاً، سليلة أسرة ميسورة الحال تملك محلات لبيع الألبسة النسائية، لكنها "تقتل" الفراغ في الصيف بمساعدة والدتها التي تدير أهم محلات الأسرة في مجمع "البحيرة" التجاري المطل على بحيرة تونس. وفي مدينة سوسة، أكبر المنتجعات التونسية على ساحل المتوسط، "يزحف" شبان من القرى الكثيرة المنتشرة في المحافظة على "حضرموت" الاسم التاريخي للمدينة بحثاً عن عمل صيفي في المنشآت السياحية، تشجعهم على ذلك سهولة التنقل بالباصات أو القطار بين قراهم ووسط المدينة. ويقول الباحث الاجتماعي حاتم جرفال إن ظاهرة العمل الصيفي لدى الشبان تشكل تفاعلاً بين حاجتين تتكاملان في الغالب، هما الحاجة المتزايدة للعمالة الاضافية لدى المنشآت السياحية والخدمية في فصل الصيف بسبب وصول الاستهلاك إلى الذروة، وكذلك حاجة الشباب إلى عمل وقتي إما للتوفير استعداداً للعام الدراسي الآتي، أو لتفادي الملل والفراغ، أو لهدف ثالث هو استعجال فئات من الشباب ولوج الحياة الاجتماعية لكسب الخبرة والتجربة باكراً. وعلى الكورنيش الممتد على طول ساحل سوسة، حيث تتلاصق الفنادق الفخمة، تكثر مكاتب السفر وشركات الخدمات السياحية التي تستقطب أعداداً كبيرة من الموظفين الوقتيين في الصيف. تقول فاتن بيوض التي باشرت العمل في مكتب سفر مطلع الصيف إن كثافة عودة العمال التونسيين من المهاجر الأوروبية في الصيف يضاعف حجم العمل في وكالات السفر. وتوجد في المكتب فتاتان وشاب يعملون كامل السنة، إلا أن صاحب المكتب ينتدب طالبتين في الصيف لمجابهة تزايد حجم العمل، ولإتاحة الفرصة للموظفين الدائمين للحصول على اجازة صيفية لا تتجاوز مدتها أسبوعين. وتستدل فاتن على كثرة الشغل صيفاً بأن مواقيت فتح المكتب تتغير، إذ كان يفتح من التاسعة صباحاً إلى الواحدة، ثم من الثالثة ظهراً إلى السادسة، "إلا أننا نعمل الآن من الثامنة إلى الواحدة، ونعاود فتح المكتب من الرابعة إلى الثامنة، لكننا نبقى عادة إلى التاسعة في ذروة الموسم السياحي". تقول إن صاحب العمل دعاها هذا العام للالتحاق بالمكتب في وقت أبكر من المعتاد بسبب كثافة طلبات السفر إلى فرنسا لحضور مباريات كأس العالم والتي يشارك فيها المنتخب التونسي. ويختلف عمل فاتن الطالبة في معهد اللغات عن عمل زميلها منير الرواتبي الطالب في معهد التكنولوجيا في مدينة نابل. فمنير اتفق مع مدير فندق في الحمامات، التي تبعد عشرة كيلومترات فقط عن نابل، على العمل في غسل الصحون في مطابخ الفندق، وهو واحد من تسعة عشر عاملاً موقتاً استقطبهم الفندق هذا الموسم، لكنهم ليسوا جميعاً طلاباً. وقدر منير أعداد الموقتين بالمئات، وقال: "لو احصيتنا لوجدتنا نشكل ثلثي العاملين في الفنادق والمطاعم السياحية في فصل الصيف". وقال زميله عباس الدويري: "أعمل منذ ثلاث سنوات في هذا الفندق كل صيف، واشتغل مناوباً في قسم الاستقبال خلال الفترة الليلية. وعلى رغم كوني أدرس الهندسة، تدربت على اجادة بعض اللغات التي احتاجها في العمل. وعندما أعود في الصيف من العاصمة إلى مدينتي الحمامات أجد عملي ينتظرني. أما شقيقي حبيب الطالب في كلية الحقوق فيعمل صيفاً في محل لبيع السجاد في الشارع الرئيسي في الحمامات، وهو يجيد التحدث بالفرنسية والانكليزية اللتين تعلمهما في الجامعة، إلا أنه اضطر لتعلم مبادئ الألمانية لكون الألمان يأتون في المرتبة الأولى بين السياح في تونس". ويخصص كل من عباس وحبيب قسطاً من دخلهما الصيفي لمساعدة أسرتهما فيما يوفران الباقي لفترة الدراسة. ويستذكر عبدالرزاق الجمالي الذي يعمل في الصيف معاوناً لأحد الحرفيين في الحمامات، كيف كان يسافر مع زملائه الطلاب إلى فرنسا للعمل في مزارع العنب والخوخ والتفاح. وقال عبدالرزاق: "كنا نمتطي السفينة من ميناء تونس إلى مرسيليا، ومن هناك نتوزع على مدن الجنوب مثل أفينيون ونيم حيث نشارك في جمع المحاصيل تحت أعين مراقبين ايطاليين يعملون رؤساء فرق لدى أصحاب المزارع". وشدد على أنه وأصدقاءه كانوا يذهبون للعمل ثلاثة أشهر في فرنسا أو السويد أو أي بلد أوروبي آخر لتوفير ما يكفيهم طيلة السنة الجامعية التالية. إلا أن قوانين الهجرة الصارمة التي باتت تلتزمها البلدان الأوروبية أدت إلى ايقاف موجات الهجرة الدائمة والموسمية على السواء. وباتت المنشآت السياحية ومكاتب الخدمات اليوم أهم مستقطب للشبان والشابات العاملين في الصيف وبعضهم لا يعمل سوى ثلاثة أشهر في السنة فقط. ففي المقهى السياحي الذي اقيم على أرصفة الميناء الترفيهي في سيدي بوسعيد، أجمل ضواحي العاصمة تونس، تسأل النادل عبدالله عن عمله فتشعر أنه غير مرتاح كونه يبقى شبه عاطل بعد انتهاء الصيف. يسرّح عبدالله نظره في التلة الخضراء خلف الميناء التي تتسلقها البيوت البيضاء الناصعة والقباب الدائرية، ويقول واضعاً خاتمة لحديثه: "عليّ أن أجد عملاً دائماً". ويضيف في ابتسامة مخاتلة كأنما يحاول اخفاء سر: "لديّ مشروع زواج. لا يمكن أن أعيل أسرة بعمل ثلاثة أشهر في السنة فقط". أما زميله عبدالمجيد فمن الصعب ان تظفر منه بحوار، فهو دائم الحركة بين الزبائن الذين يتدفقون على المقهى من العصر إلى ساعة متقدمة من اليوم التالي. وفي سيدي بوسعيد تنتشر المقاهي العتيقة حيث يحب الزبائن تدخين النارجيلة وشرب الشاي الأخضر المعطر بالنعناع. وتفهم من عبدالمجيد بعدما تخطف منه أجوبة متقطعة أنه يعمل في مدينة تونس القديمة شتاء حيث يقبل الناس على النارجيلة في المقاهي وينتقل صيفاً إلى سيدي بوسعيد. ومع مجيء أولى نسمات الخريف الباردة تعود الأحجار إلى مكانها الأصلي، فيغادر عبدالمجيد المقهى السياحي الذي يتفيأ ظل الجبل ويطل على البحر عائداً إلى أزقة المدينة القديمة وعالمها الحميمي، فيما يسحب زملاؤه الموقتون دفاترهم وأقلامهم التي تركوها مطلع الصيف ويعودون إلى مدرجات الجامعة.