تفجر الوضع في ألبانيا فجأة، ولعلع دوي القذائف وازيز الرصاص، وبدت العاصمة تيرانا ساحة قتال بين القوى المتصارعة، والسؤال الذي يتردد: هل ان ما يحدث هو ازمة سياسية فعلاً، ام مجرد تصفية حسابات وأخذ ثأر؟! جميل روفائيل يلقي الاضواء: اتسمت حدة الاوضاع في ألبانيا بالتوتر الذي تفاوتت شدة تأججه، من دون ان يخمد، منذ آذار مارس من العام الماضي، عندما اندلعت اضطرابات شعبية ناقمة دامية، ناجمة عن ردود فعل مباشر على الاضرار الجسيمة التي احدثها اعلان انهيار الشركات الهرمية الالبانية بمئات آلاف المستثمرين الذين ضاعت مدخراتهم فيها، وأسرعت المعارضة آنذاك الى استغلال الاستياء العام والفوضى التي خيمت على البلاد للانقضاض على رئيس الجمهورية صالح بريشا وارغامه على القبول باجراء انتخابات اشتراعية مبكرة، اسفرت عن تقدم كبير للحزب الاشتراكي بزعامة فاتوس نانو الذي كان غادر لتوه السجن الذي زجه فيه نظام بريشا وتسلّم السلطة، بينما تحول بريشا الى معارض آملاً في الانتقام عاجلاً ام آجلاً. وعلى رغم ان الاشتراكيين، ونانو بالذات، ، هم من المحسوبين على بقايا عهد انور خوجه وتنظيمه الشيوعي حزب العمل الالباني فإنهم في عودتهم الى السلطة، عملوا على نفض ماضيهم والظهور بنهج جديد لا يختلف في لونه العام عن الشكل الذي ظهر به حزب بريشا الديموقراطي سواء في نظامه الداخلي أو الالتزام بالخط الغربي في ممارساته الخارجية. مسنداً وزارة الخارجية الى زعيم الحزب الديموقراطي الاشتراكي باسكال ميلو الاكثر قبولاً اوروبياً، ما جعله يكسب ود الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الاوروبي ودعمها. وفي المقابل شكل بريشا تحالفاً بين حزبه الديموقراطي وكل الفئات والجماعات المناهضة للحزب الاشتراكي بما فيها حزب "الحركة الشرعية" الساعي الى عودة النظام الملكي الى ألبانيا من خلال ليكا ابن الملك الراحل زوغو الذي عُزل بعد الحرب العالمية الثانية. وانقسمت الساحة السياسية الى حكومية ومعارضة، خالية من اطراف وسطية يمكن ان تشكل حلقة وصل بين الطرفين، وانصبت المعارضة التي تبناها بريشا على الدعوة المستمرة الى تظاهرات صاخبة ضد الحكومة واعداد انصاره للضربة القاضية، وعندما تكون الظروف مواتية وفق تقديراته، ما فُسرَ بانه محاولة لاسقاط الحكومة الاشتراكية بالشكل الذي ازاحه الاشتراكيون عن الحكم، وأثار مقتل أمين عام الحزب الديموقراطي ازيم حيداري، الذي كان يلي بريشا في قيادة المعارضة، مشاعر غاضبة لدى الناقمين على الاشتراكيين، كانت كافية لتحريك انتفاضة عنيفة شبيهة بتلك التي سببتها الشركات الاستثمارية المنهارة العام الماضي، وبالمطالب نفسها "استقالة الحكومة واجراء انتخابات تشريعية مبكرة تحسم الازمة القائمة في البلاد". وتكمن مخاطر التحدي المتصاعد في ان يقسم البانيا جغرافياً وسكانياً الى نصفين متساويين تقريباً يقطعهما نهر "شكومبينيت" المتجه الى الجنوب من تيرانا بحوالي 40 كيلومتراً، والفاصل بين الألبان المتكلمين باللهجتين: الشمالية "الغج" وهم مؤيدون لكل من صالح بريشا وليكا زوغو اللذين ينتميان مع غالبية رموز المعارضة الى الشمال، والمتكلمين باللهجة الجنوبية "توسك" وينحدر منهم معظم الشيوعيين القدامى والاشتراكيين الحاليين اعتباراً من انور خوجه ورامز عليا ووصولاً الى فاتوس نانو وباشكيم فينو، وهو ما رسخ الاعتبار بأن الوضع القائم في ألبانيا مند انهيار النظام الشيوعي، اخذ يشكل "شد الحبال" بين الشمال والجنوب. واللافت ان ألبان كوسوفو يصنفون في خانة الشماليين بحكم الجوار والارتباطات العشائرية والعلاقات المتينة بينهم. وازاء هذا الوضع، يبدو ان اي نزاع مسلح بين المعارضة والحكومة سيقود سريعاً الى حرب اهلية خطرة على وحدة ألبانيا، يكون من الصعب السيطرة عليها بسبب الاحقاد العميقة بين الطرفين وتعادل قوتهما نتيجة انتشار كميات كبيرة من مختلف انواع الاسلحة بين ايدي افراد الشعب الذين استحوذوا عليها باقتحام المستودعات العسكرية اثناء اضطرابات العام الماضي، اضافة الى فقدان امكانات قوات الجيش والشرطة في فرض النظام، لأنها غدت في حالة ضعيفة منذ الاضطرابات السابقة، كما اصبحت جزءاً من النزاعات القائمة في البلاد. وفي هذا الخضم، يبدو تهديد الحكومة على جمع الاسلحة باستخدام القوة غير مجد، لوجود اكثر من مليون قطعة سلاح متنوعة في حوزة السكان، وهي من الانواع العسكرية، كما ان العصابات والجماعات الخارجية على القانون تكثر في ألبانيا الى حدّ العبث كما تشاء، وهي تسيطر على مناطق بكاملها، وبحيث ان طرقاً رئيسية لم تعد صالحة للحركة بسبب هذه العصابات التي تقوم بأعمال السلب والنهب والتجارة الممنوعة دولياً مثل المخدرات، وتعجز الحكومة في السيطرة عليها، ناهيك عن الحال التي ستحصل اذا نفّذت المعارضة تمرداً مسلحاً. ومع اندلاع الاضطرابات الاخيرة سرت المخاوف في اوساط الاوروبيين من حدوث موجة نزوح الى بلدانهم، كما هي الحال مع كل صراع في منطقة البلقان، خصوصاً في البانيا التي هي افقر دولة في اوروبا. ولا تزال ايطاليا تتحسب لما عانته في العام الماضي من الالبان، ولذا سارع الاوروبيون ومعهم الاميركيون هذه الايام الى الضغط على الاطراف باتجاه السعي الى وقف تفاقم الاوضاع "وايجاد تسوية سلمية للأزمة الراهنة". ورغم ذلك فإن فرص الحل لا تزال غائبة بين طرفي النزاع الالباني، لأنهم يعتمدان في مواجهتهما على اقصى المطالب والمتمثلة في ابعاد الطرف الآخر عن الساحة، باستخدام اساليب استغلال الفوضى السياسية والشعبية للامساك بالسلطة. وبسبب الروابط السكانية بين كوسوفو والبانيا، فان المراقبين يعتبرون ان الاحداث الحالية يمكن ان تؤثر سلباً على الحركة الوطنية الالبانية في كوسوفو، سواء معنوياً ودولياً، او لجهة الفوضى الحاصلة التي تستفيد منها القوات الصربية في عملياتها للحدّ من الامدادات الآتية عبر البانيا الى كوسوفو. ويبقى التدخل الخارجي في ألبانيا محفوفاً بالمخاطر ما لم يقبل الطرفان به ويوافقا على الهدنة والحل كما حصل في العام الماضي، وسيتركز هذا التدخل، ان حصل، على النواحي الانسانية، للوقاية من الهجرة التي تخشاها اوروبا، في وقت تحاول التخلص من اللاجئين البوسنيين وتسعى الى معالجة مشكلة النازحين عن ديارهم في كوسوفو.