لم تسنح الظروف للحديث عن فيلم المخرج الفلسطيني الأصل ايزادور مسلّم "الجنة قبل موتي" **** من خمسة بما يستحقه من تعليق، تم تصويره قبل عامين تماماً، وشوهد للمرة الأولى قبل أكثر من عام بقليل وسعت الشركة المنتجة PM Entertainment توزيعه على نطاق واسع وطرحته في سوق الفيلم في لوس انجلوس ثم في ميلانو، وباعته الى أكثر من منطقة بالفعل. لكن وجه الصعوبة في هذا الفيلم الذي صُور في كندا هل ان الشركة المنتجة، التي يرأسها عربيان هما يوسف مرعي وجورج شامية سوري وفلسطيني معروف عنها انتاجها أفلام "الأكشن" والترفيه السريع. و"الجنة قبل موتي" لم يكن كذلك. لذا بدا مثل الحمل وسط قطيع من الذئاب، أو وردة في بستان من الشوك. رقيق، شاعري، فني وجميل. المهم أنه لم يعرض تجارياً في أوروبا ولا في الولاياتالمتحدة بعد، لكن مهرجان قرطاج الذي يفتتح أبوابه في الثالث والعشرين من الشهر المقبل انتبه اليه والتقطه على الفور. ومن المحتمل جداً أن يدعو اليه لا المخرج فحسب بل أحد ممثليه الأساسيين وهو جيانكارلو جيانيني. ايزادور مسلّم ولد في فلسطين ورحل الى كندا شاباً وحقق هناك فيلماً سابقاً لكنه يعتبر هذا الفيلم كما لو أنه العمل الأول الحقيقي له. لا يقدم فيه حكاية ذاتية، لكن بطله يعقوب الكندي أندي فيلاسكيز فلسطيني أيضاً ولد هناك ورحل باكراً الى كندا وحط في تورنتو. حتى ولو كان هناك تشابه بين المخرج وبطله. فإنه ينتهي عند هذا الحد. البقية، لجهة الأحداث، ملك يعقوب وحده. يبدأ الفيلم بمسحة ساخرة ويحافظ عليها طوال الوقت بنجاح. المشهد الأول لطفل صغير في حفل عائلي يتابع راقصة شرقية. هي تهز وهو يتابع. بعد قليل نراه أصبح شاباً جاذب الشكل باستثناء أنه يمشي بقدمين مفتوحتين. واحدة تتجه الى اليمين كثيراً والأخرى تنحو الى اليسار كثيراً. في السياسة من يفعل ذلك لا يصل الى شيء. انه يريد ان يكون هنا وهناك لكنه في النهاية يجد نفسه باقياً في مكانه. وربما الرمزية هنا، مقصودة أو غير مقصودة، هي أن يعقوب كان يمكن له أن يبقى في فلسطين ولا يصل الى شيء. عوض ذلك، يحمل عاهته التي تفرض عليه مشية تشبه مشية شارلو، كما أداها تشارلي شابلن، ويرحل الى كندا حيث "الناس مولودون سواسية". بما أن يعقوب يعلم أن ليس كل الناس يمشون كما يمشي. فإن المقصود بالعبارة هو وضع سياسي. هذا على الرغم من أن المخرج لم ينطلق ليحقق فيلماً سياسياً على الإطلاق. لكن كيف تمنع ارهاصات المرء من أن تعبر عن نفسها في أقرب فرصة؟ في اسرائيل، يقترح فيلم مسلّم: الناس ليسوا سواسية. اشارتان كندا بالنسبة ليعقوب، هي حيث "الناس مولودون سواسية". هذه هي إشارة من إشارتين فقط تحملان غمزاً سياسياً في الفيلم. الثانية هي عندما يقول بطل "الجنة قبل موتي" عن وضع بلاده "... ثم جاء السلم ومزيد من الناس ماتوا". اشارتان صغيرتان لكنهما مثل مفتاح صغير يفتح باباً كبيراً. يصل بالتهريب وتلفظه السيارة في قلب المدينة ليلاً. يتعرف عليه اللص الظريف جيانيني. يفهمه فوراً ويأخذه كأخ صغير أو حتى كإبن. يستقبله في بيته ويعرّفه على عائلته من رفاق المهنة وساهري الليل. في الليلة التالية لوصوله يطلب اللص من يعقوب مراقبة الطريق ويتصرف مع مساعد له لعمله فهو لص خبير بسرقة آلات البطاقات وسحب ما تحمله من مال. في يوم آخر يصطحب اللص يعقوب الى مركز الهاتف لكي يتصل بأهله ويواسيه عندما يعلم بأن أباه مات. يعقوب الساذج يجد في اللص صديقاً حقيقياً، لكن كل الأشياء لها نهاية وبينها بقاء اللص في المدينة. القرار يأتي مفاجئاً - على المشاهد - وغير مبرر بما فيه الكفاية ولكن يمكن ارجاع السبب الى وقوع يعقوب في حب المرأة نفسها التي كان اللص وقع في حبها ثم وقوعها هي في حبه أيضاً. بقليل من الخروج عما يورده الفيلم في هذا الصدد، يمكن للمرء تفسير انسحاب جيانيني على أنه قرار بأن لا يستطيع البقاء في مدينة يخسر فيها. لقد سرق آلاتها المصرفية بنجاح، لم يخسر على هذا الصعيد بل خسر على صعيد آخر ولشاب طيب لا يستطيع أن يصده أو يكرهه بسبب فوزه عليه. خلال ذلك أيضاً، يحقق يعقوب ثروة. مشيه الشبيه بتشارلو يلفت اليه أنظار شركات اعلانات فتبيعه الى شركة تجارية مشهد صفير لبيرت يونغ، الممثل الذي ظهر في دور شقيق المرأة التي يقع سلفتسر ستالون في حبها في "روكي" والذي لعب في أجزاء "روكي" الأخرى قبل أن يخف حضوره تستغله في الدعاية فيحقق منها ثروة ويبدأ بالتغير. سلمى، الفتاة التي تحبه عودة أيضاً لجوانا باكولا تمنعه من ذلك وتعيده الى الأرض. ثم يأتي مشهدان مهمان ينتهي الفيلم بعدهما: تعرفه سلمى على مكان عملها حيث يلتقي هناك بشخصيات سبق أن ماتت، مثل سيمون دي بوفوار وسارتر وجبران خليل جبران الذي يؤديه عمر الشريف. انه مدخل رمزي آخر ليعقوب في مرحلة ما بعد تأسيسه نفسه. الآن يستطيع، يمكن أن نستنتج، أن يعيش عالماً آخراً من اللاواقع. عالم تلك الشخصيات التي، بالنسبة الى الفيلم واليه، دخلت فردوس الخلود من خلال ابداعاتها الثقافية والأدبية. المشهد التالي لذلك، هو إبحار إضافي في هذه الفانتازيا: عند مقبرة نجد رجلاً يزور قبر فقيد له. يخرج بهدوء كمانه ويبدأ بالعزف. يعقوب الذي يرى ويسمع يتقدم صوب الرجل ثم يبدأ بالرقص في اندماج شاعري رائع بين الحياة وما بعد الموت. أي شيء بعد الموت... هناك فيلم آخر عن الجنة وما بعد الموت بعنوان "ما قد تصبح عليه الأحلام" نتناوله خلال أسبوعين أو ثلاثة للمخرج فنسنت وورد ومع روبين ويليامز في البطولة وأنابيلا شيورا وشاهدته قبل حين ولم أعقد بينه وبين "الجنة قبل موتي" الى هذه اللحظة. فيلمان جيدان كتنفيذ في محيط كل منهما وحجم انتاجه، لكن عمل ايزادور أبسط وأكثر بهجة وشفافية. والمهم هنا هو أن سخريته الضمنية لا تنقلب مطلقاً الى مرارة. مسلّم يحب بطله يعقوب لكنه أيضاً يحب كل الآخرين في الفيلم وينجح حيث تخفق أفلام كثيرة لا أشرار فيها: يتجنب السذاجة والعاطفية السطحية. فيلاسغيز في دور يعقوب جيد، لكن الممثل الإيطالي جيانكار لو جيانيني، بطل مجموعة مميزة من أفلام لينا فرتمولر في السبعينات، يسرق النظر بأداء رائع مكتنزاً في عينيه كل ما يريد أن يعبر عنه. محترفان في ورطة أخذت فرصة من أفلام مهرجان تورنتو هذا الأسبوع وحضرت فيلماً بوشر بعرضه تجارياً قبل يومين من انتهاء مهرجان فانيسيا. انه "المقامرون" *** من خمسة فيلم ذكي من المخرج جون دول، لكنه ليس ذكياً بما فيه الكفاية. العنوان بالإنكليزية هو Rounders والكلمة تعني أولئك الذي يجلسون الى طاولات اللعب المستديرة من المصابين بآفة اللعب لدرجة الإدمان. بطل الفيلم هو مايك مات دامون الذي رأيناه في "غود ويل هانتينغ" وحالياً يلعب شخصية رايان في "إنقاذ العريف رايان" مقامر محترف في لعبة معينة من البوكر تكساس بوكر يخسر كل ماله عندما يدخل نادياً يديره روسي مهاجر لديه علاقات قوية مع المافيا الروسية اسمه كي.جي.ب يؤديه جيداً جون مالكوفيتش. يعلن توبته لصديقته فامكي جانسن ويقرر الانصراف الى دروسه القانونية والعمل سائقاً لشاحنة بضائع صغيرة يملكها صديقه كينيش جون تورتورو. لكن خروج صديقه وورم ادوارد نورتون من السجن يقطع عليه خطته البقاء بعيداً عن الطاولات الخضر. فالصديق لاعب محترف مثل مايك، وان كان أسلوبه قائماً على الخداع والمخاطرة. وهو تحت دين كبير لغراما مايكل ريسبولي وهذا شرير شرس يعمل تحت إمرة كي.جي.بي. غراما يريد ماله هذا الأسبوع وللتأكيد يضرب وورم بقسوة حتى لا ينسى. إذ يحاول مايك مساعدة وورم، يخسر صديقته، ويخسر مستقبله في دراسته القانونية ويجد نفسه وقد عاد الى طاولة القمار حتى يجمع من عليها خمسة عشر ألف دولار التي على وورم اعادتها. بلا مبررات لكن وورم ليس من النوع الذي يمكن مساعدته. وسريعاً ما تبدأ بسؤال نفسك عن السبب الذي من أجله يتحمل مايك مثل هذا الصديق. صحيح أن الفيلم، وهو مروي من وجهة نظر مايك، يذكر أن صداقة الاثنين قديمة وأن وورم عانى من سلطة الآخرين وقهرهم له، لكن هذا ليس مبرراً كافياً بل نقص في كتابة كلتا الشخصيتين لناحية بنائهما. من أجل صديق يتصرف عكس صالحه، يضطر مايك الى تحمل تبعية ما سيحدث إذا لم ينجح في وضع المبلغ كاملاً على طاولة غراما. ويمضي الإثنان يوماً كاملاً ينتقلان من ناد الى آخر. لكن وورم ينسف كل شيء برعونة عندما يدخل الى لعبة طلب منه مايك البقاء بعيداً عنها. يجلس وورم كما لو كان لا يعرف مايك لكنه يبدأ بالتصرف على نحو من الشراكة الخفية. وعندما يكتشف أمره يُضرب ومايك ضرباً مبرحاً ويخسران كل ما جنياه في نهاية اليوم. تنتهي الصداقة بينهما عند هذا الحد وينطلق مايك لمنازلة كي.جي.ب. فهو الغريم الأكبر ولن يستطيع مايك التخلص من كل ورطته سوى بجولة واحدة فاصلة بينهما. هذا فيلم رئيسي عن لعبة بشعة. والفيلم لا يؤازرها ولا يحوط مساوئها بأي هالات. فهو ليس "روكي" حيث الملاكمة القاسية مبررة. انه أقرب الى تأثير "انهم يقتلون الجياد، ألا يفعلون" لسيدني بولاك حيث يموت الناس على أنغام الموسيقى في حلبة رقص لا يتوقف. التصوير، من الجديد نسبياً، جان ايف اسكوفييه فيلمان صغيران ثم "العُقاب 2" المصنوع تجارياً يمنح نيويورك صورة قاتمة تناسب قتامة ما يقع. ثمة مشهد يعبر عن ذلك يقع عندما يلتقي مايك بأستاذ للقانون اسمه أيب بتروفسكي مارتن لانداو خارج حانة. لاحظ كيف أضاء الشارع. أين وضع مصابيحه وبأي قوة إنارة ولأي غرض... وكيف علق إشارتي سير خضراوتين طيلة المشهد الذي يستغرق نحو دقيقة ولأي غرض أيضاً. الى ذلك، فإن في "المقامرون" تمثيلاً ممتازاً من دامون ونورتون وهما يتباريان على خطف الاهتمام وينجحان في إبقاء المشاهد بينهما ساخنة ومتوترة. والمخرج دول يوفر كل ما يحتاج اليه الفيلم من أجواء ومن تتابع سرديّ على نحو مشوّق ومتكامل. وكل شيء يبدو أنه سائر في درب عمل محكم الى أن يتبدى كيف أن الكاتبين ديفيد ليفين وبرايان كوبلمان تعثرا في مواصلة الزخم الذي بدأ به لمجرد أنهما افتقدا منح أي من شخصيات الفيلم الرئيسية المبررات الفعلية. ما يفعلانه هو تقديم غطاء يصلح لتمهيد مبرر، لكنهما ليسا في وارد تطوير الشخصيات على أي نحو متصل بذلك المبرر حتى ولو كان المبرر نصف مقبول. ما ينجحان فيه هو توفير كل ما يحتاجه الفيلم اليه من مصطلحات اللعب. انهما ملمان وربما لاعبان جيدان. ثم تأتي شخصية آيب بتروفسكي. انه يهودي، وهذا لا بأس به أو بغيره. لكن الكاتبين، يجعلانه ملاكاً منقذاً. يمد يده الى دفتر مصرفه ويكتب حوالة بعشرة آلاف دولار ليساعد مايك على دفع دينه ولا يخطر له أنه لا يعرفه وأنه لا يمكن الوثوق بأحد، وهذا إذا لم يكن هذا الأحد مقامراً. وآيب كان أمطر، في مشاهد سابقة، مايك والمشاهدين بسيل من الحكايات عن أبيه وماذا علمه وعن أمه وماذا قالت له. وبالنتيجة ان اليهودي الحكيم هو من أنقذ حياة الإيرلندي. لقد ظهرت الطيبة اليهودية الفائقة في أفلام لا تحصى حتى في "روكي" فإن المسؤول عن نجاح البطل مدير يهودي عجوز. والكثير منها مكتوبة من قبل وكلاء اعلان لمجرد انهم يهود أيضاً وسواء أكانت يهودية الشخصية لها ضرورة درامية نادراً ما هي كذلك أم لا. كأنما هذا الكاتب لا يستطيع أن يرتاح وينام ليلته هنيئاً إلا إذا قام بواجب الدعاية لشخص تتوقف كرة الحياة عنده ليعيدها من جديد متيحاً للبطل انقاذ نفسه والعالم والفيلم معاً. مهرج في الكلية في النهاية، لمحة عن فيلم قد يُستقبل في المنطقة العربية ككوميديا، لكن هذا هو إطراء لا يستحقه. الفيلم هو "ميت في الكلية" * من خمسة لمخرج اسمه آلان كوهن، والبطولة لتوم ايفريت سكوت ومارك بول غوسلار. الأول دخل الكلية مُجِدَّاً لكن سوء طالعه فرض عليه مشاركة طالب مستهتر غرفته. عندما تتراجع علامات الأول ويكاد يخسر المنحة التي دخل الكلية بها لإخفاقه في تحقيق مجموع جيد، يتفق والرفيق المستهتر على مساعدة ثالث قتل نفسه اعتقاداً منه أن ذلك سيرفع من علاماتهما في الامتحان المقبل! لا يحاول الفيلم دحض النظرية بل يحولها الى أرضية كافية لسلسلة من الأحداث التهريجية التي عادة ما يتم الخلط بينها وبين الكوميديا فتسيء الى فن راق لا علاقة له هنا بما يقع. الفيلم يدفع المشاهد لطرح أسئلة ما على نفسه. أسئلة مهمة، مثل: ماذا أفعل أنا في هذا الفيلم؟ وماذا يهمني لو رسب كل طلاب الكلية في امتحانهم المقبل؟ شخصياً أتذكر عبارة جاك نيكولسون في فيلم "شروط المودة" 1980 عندما سألته شيرلي ماكلين أن يخرج معها فقال: "أفضل أن أنتف حاجبي على الخروج معك". الفارق طبعاً هو أن جاك نيكولسون يستطيع أن يختار ألا يشاهد مثل هذا الفيلم، لكن الناقد عليه أن يشاهدها جميعاً.