مع كل اقتراب لشهر رمضان المبارك يتم طرح موضوع تجسيد «الرسل» والأنبياء في السينما وفي التلفزيون، ويكون الرفض لأسباب منطقية منها لعدم ارتباط صورة النبي أو الرسول بصورة الممثل الذي قام بتجسيده آي لكي لا تصبح الصورة العالقة بالذهن لهذا النبي هي صورة الممثل، والبعض الآخر يبرر أن أخلاقيات الفنانين وأهل الفن بعيدة جداً عن تصوف وورع الأنبياء والرسل، والبعض الآخر يرى أن مسألة تمثيل الرسل والأنبياء فيها تشويه لسيرهم لحاجة الدراما الفنية إلى صراع يتم تجسيده على الشاشة وبالتالي تأليف هذا الصراع يعتمد على مصادر غير موثوق بها من تأليف البشر. ومن غرائب السينما يذكر الممثل جميس كافيزال الذي قام بتأدية دور عيسى عليه السلام في فيلم «آلام المسيح» للمخرج ميل جبسون، وقت تصوير الفيلم كان الممثل كافيزال يرتدي زي المسيح ليبدأ تصوير لقطات من الفيلم عن معاناة المسيح قبل صلبه، وقبل أن يقول المخرج «آكشن» ضربتهم عدة عواصف رعدية وبرقية تسببت في وفاة أحد أفراد طاقم الكادر، وإحدى الصواعق قامت بضرب هذا الممثل مباشرةً مما تسبب في إغماء الممثل الذي قام بتأدية شخصية عيسى المسيح، فكانت ردة الفعل من الصحافة الغربية بأن هذا عقاب لتجسيدهم شخصية نبي، وبعضهم قال إن هذه صدفة من صدف الحياة الذي يتجمّع فيها السبب والنتيجة ليسهل ربطها بتفسيرات غير معقولة، وقال مخرج الفيلم بأن هذه الأحداث هي معجزة ربانية ليستشعرون معاناة المسيح قبل موته. موضوع حياة المسيح عيسى ابن مريم أو يسوع الناصري أصبح نوعاً مستقلاً في السينما، أفلام كثيرة، ومخرجين كبار خاضوا ضمار الدخول في تفاصيل حياة المسيح مما تسبب في أمرين: أولاً ضياع القدسية النبوية عن شخصية المسيح. ثانياً الزيادة في تأليف وتأويل شخصية المسيح بما لا يتطابق مع قصص كل الكتب السماوية. قدمت صحيفة الإيكونومست دراسة عن تجسيد صورة المسيح في الأفلام الجديدة، وهي دراسة رائعة تتوافق مع رؤى المسلمين في أن الإنجيل محرف، وتقدم لنا دروساً وعِبراً فيما يخص تجسيد الأنبياء والرسل في الأفلام، لنرى كيف أصبحت صورة المسيح عندهم، وهذا نص الدراسة: احْتَلَّ المسيح يَسوع الناصري اهتماماً كبيراً من صُنّاع الأفلام حتى تَكَدَّسَت بتجسيد سيرته السينما. في عام 1906 ميلادي كانت النشأة الأولى لهذا النوع من الأفلام عن طريق فيلماً روائياً طويلاً؛ ومع ظهور المخرج سيسيل دي ميل ذو الشعبية الكبيرة والذي يعتبر أكثر من تناول الشخصيات الدينية المقدسة ومن أبرزها فيلماً حول حياة يَسوع المسيح بعنوان: «ملك الملوك» عام 1927 ميلادي؛ خلال هذه الفترة الزمنية القصيرة منذُ الفيلم الأول حتى فيلم «ملك الملوك» تم عرض 39 فيلماً عن حياة يَسوع الناصري. عدد كبير من المؤلفين السينمائيين قام بالتعامل مع شخصية يَسوع الناصري باعتبارهِ السيد «المسيح» كشخصية مقدسة، ولكن البعض الآخر قام بالتعمق في استكشاف هويته البشرية ومدى معرفة يسوع الإنسان بنفسه. على سبيل المثال، في السبعينات الميلادية اشترك المخرج آندرو لويد ويبر مع الكاتب تيم رايس في فيلم كوميدي غنائي ممزوج بموسيقى الروك وبأسلوب مسرحي بعنوان: «يسوع المسيح، سوبر ستار»؛ الفيلم يطرح إشكالية تأثير الحواريين على قائدهم المسيح، وأن الأصدقاء المقربين يتدخلون بطرق غير مباشرة ومباشرة في تحديد مصير وأهداف قائدهم. امتداداً لتلك التجربة وعلى مستوى أعمق، في مثال آخر، في الثمانينات الميلادية قَدم المخرج المعروف مارتن سكورسيزي فيلماً بعنوان: «الإغواء الأخير للسيد المسيح» - مُنع عرضه في عدة دول أوروبية وتمت مقاطعته على مستوى عالمي- الفيلم يقوم بالتركيز التام على أنَ المسيح يَسوع بشراً طبيعياً، ويعاني من صراع داخلي في إحلال التوازن النفسي بين قدراته الإلهية وغرائز نفسه البشرية. وبعد ذلك بسنوات تطورت السينما، وتطورت الصناعة، وزاد عدد هذا النوع من الأفلام. إن المواصلة في الاعتماد على خيال البشر في تجسيد وتصوير حياة يَسوع الناصري يثير استياء بعضاً من المتدينين. في الحقيقة؛ مَنْهَل هذا النوع من الأفلام هو نفسه مصدر الإلهام البشري المستخدم في تأليف النسخ المتعددة من الروايات الإنجيلية والمصادر المسيحية المختلفة. بالتالي؛ الأفلام ونسخ الإنجيل كليهما من تواتر وتأويل البشر. مؤخراً، ومع بداية هذا العام تمت إضافة ثلاثة أفلام جديدة عن حياة يَسوع الناصري في القائمة، وهي: فيلم «المسيح الصغير»، وفيلم «بَعث»، وفيلم» آخر أيام الصحراء». جميع هذه الأفلام تصير على نفس النهج، مخالفةً لبعض أسلافها، ودافعة لهذا النوع في السينما إلى مستوى أبعد، حيث إنها تروي قصصاً ليست مقتبسة بطريقة مباشرة من النسخ الإنجيلية الشهيرة على الرغم من ادّعائها أنها تأتي من نسخ معروفة من العهد الجديد الجديد من الإنجيل. في كل الأوضاع، تُعبر هذه الأفلام الثلاثة عن محاولات فنية لأجل إظهار وتفسير واستكشاف الفجوات الزمنية الموجودة في كُتب الإنجيل المتعددة. فيلم «المسيح الصغير» يَتّبعْ يَسوع الناصري وعائلته وهم يسيرون في هجرتهم من مصر إلى الناصرة، ويتخيّل الكيفية التي ستكون عليها حياة المسيح وهو ابن السابعة. يَسوع (من تمثيل الطفل آدم جيرفيتس نايل) ينشأ ويترعرع في عائلة يهودية متدينة تحت ظل اضطهاد الدولة الرومانية. نشاهد العائلة تعاني لأجل شرح معنى «الإله» للطفل يَسوع محاولةً إخفاء عنه أسرار مولده. الفيلم من إخراج سيروس نورسته ذو الأصول الإيرانية (ويجب التذكر أيضاً أن إيران قدمت هذه السنة فيلماً طويلاً عن طفولة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم بعنوان «محمد رسول الله» للمخرج الإيراني الشهير مجيد مجيدي). الدقة التاريخية الموجودة في «المسيح الصغير» مذهلة والتخيلات اللاهويتة تأسر المتفرج، سيناريو الفيلم مقتبس من رواية وهو من تأليف المخرج السيد نورسته وزوجته بيتسي نورسته. في نهاية الفيلم نشاهد مريم وهي تشرح لطفلها يَسوع أنه هو «ابن الإله» مع التلميح الضمني أنه ثاني أهم شخصية في الثالوث المقدس. بناءً على بعض نسخ الإنجيل؛ يَسوع الناصري يدرك جيداً الأبعاد المروعة لعبارة «ابن الإله» رغم استخدامه كوصف مفضل للإحالة لذاته. مشكلة الفيلم في خطابه المعقد والذي يحاول أن يجعل المتفرج يعيش الصراع الجوهري حول حياة وموت المسيح - وهل سينجو يَسوع المسيح الصغير من استبداد الرومان العسكري؟ - النتيجة: كثير من الجمهور يعرف نجاة يَسوع من الموت في طفولته. فيلم «آخر أيام الصحراء» واحد من أبرز الخيالات الجمالية التي تقدمها السينما عن حياة يسوع المسيح ويذكرنا قليلاً بفيلم «يسوع من مونتريال». يصور «آخر أيام الصحراء» فصلاً متقناً عن النبوة وعن الإغواء وعن الإغراء وعن الرغبات. في طريق الخروج من الصحراء البرية يقع يَسوع في أزمة وجودية شائكة ثم يتبعها صراع وجداني عميق ضد الشر. يقوم الممثل إيوان مكريغور وباخترافية عالية بتجسيد شخصيتين وهما: شخصية يسوع الناصري وشخصية الإغواء الشيطاني، والتي نتج عنهما هذه الرسالة الممتعة والمروعة: هل يسوع هو أعظم خصم ضد نفسه؟ البطل مكريغور وبذكاء في دورين اثنين يدعونا إلى النظر في أزمة مواجهة الشكوك البشرية عند يسوع المسيح؛ الفيلم يقدم نموذجاً على روعة الفن في أنسنة الشخصيات الغموضية والمقدسة والأساطير. فيلم «بَعث» هو أضعف الأفلام الثلاثة الجديدة. الفيلم يصور مرحلة تاريخية نشاهد فيها قائد عسكري روماني اسمه «كالفيوس» ( يقوم بتمثيله جوزيف فينس) يُكلّف بالبحث عن ما جرى في حادثة اختفاء جسد المسيح بعد واقعة صلبه مباشرةً. فيتحرك «كالفيوس» للقيام بعدة إجراءات بحثية وتفقدية مع حراس ضريح المسيح ومع الحواريين؛ يقوم الفيلم بفرض النظرية الغامضة عن قيام الرب «المسيح» من بين الأموات وبعثه إلى السماء. في النهاية يتم استخدام وسيلة السينما في هذا الفيلم منبراً لأجل تقديم خطبة وعظية مملة مبنية على التصورات الإنجيلية البروتستانتية. فيلم»بَعث» لا يصل لمستوى الإبداع السينمائي الجمالي كما في فيلم «آخر أيام الصحراء» وفيلم «المسيح الصغير»، ولكنه أيضاً لا يخلو من اللحظات السينمائية اللطيفة وخصوصاً في أداء الممثل (جوزيف فينس). محاولة «بَعث» في قراءة الأحداث التاريخية من الإنجيل كانت في غاية السطحية. في إحدى اللقطات؛ نشاهد الحواريون يؤمنون أن قيام المسيح من بين الأموات تذكرة وضمان للخلود في الجنة، بالمقابل؛ يأتي الإيمان متأخراً في التسلسل الزمني للقصة، ومسألة وجوب الإيمان المطلق بقيام المسيح أتت من اللاهوتيين بعد تداعيات اختفاء جسد المسيح من داخل القبر، ولم تأتي من قبل. ببساطة الفيلم يسير بأسلوب تبريري كتفسير للأحداث الغيبية آي بمعنى أنَ الفيلم يريد من المتفرج أن يؤمن بالمسيح بنفس الطريق الذي اختاره شخصية «كالفيوس» بالفيلم. الخطاب الوعظي المباشر في القصة نتج عنه فقدان المصداقية التاريخية وخراب الفيلم، والسبب يعود لدعم صناع الأفلام والمنتجين والناشرين لفئة متحمسة من المبشرين التنصيريين. تُجسد الأفلام الثلاثة صوراً مختلفة لشخصية المسيح يَسوع الناصري. في فيلم «بَعث» شخصية يَسوع (من تمثيل كليف كورتس) لا تثير الفضول، ولا تدفع المتفرج إلى التأمل الروحاني، ويكشف الفيلم عن دور المُخرج في المحاولة الجادة للتركيز على تصوير الجانب الإلهي فقط،. وفي كثير من اللقطات يكتفي المتفرج بمشاهدة يسوع الإله. أما في فيلم «آخر أيام الصحراء» وفيلم «المسيح الصغير» نشاهد تجسيد يسوع الإنسان متجرداً من كل المميزات الإلهية، نعم هو المسيح التقي والقادر على فعل المعجزات، ولكن تركيز صناع الفلمين اهتم أكثر باستكشاف الجوانب البشرية والطبيعة الإنسانية عند المسيح يَسوع الناصري. على خلاف فيلم «بَعث» ممثلين شخصية يَسوع في الفلمين الآخرين قاموا بتجسيد القلق، والشك، والريبة، والوجع، والخوف، والتعرض للأذى. ربما يشعر المُتدين والمُتدينة بالعبُوس والاكفهرار من الرخصة الفنية التي تقدمها السينما في تجسيد وتصوير شخصية المسيح يَسوع الناصري، ولكن يجب على من تصيبه هذا النوع من الأفلام بالتكشير أن يتذكر جيداً أنَ الإنجيل نفسه هو مجرد اقتباسات إبداعية من خيالات البشر لبعض الأحداث التاريخية، وفي حالة التعامل مع نسخ الإنجيل المقروءة يحتاج القراء الاستعانة بالخيال لإدراك مقاصد المؤلفين. لا يعني ذلك أن نسخ الإنجيل غير جديرة بالاعتماد عليها، لكن في جميع الحالات لا بد من توظيف الخيال البشري في الفهم أو في التدوين. المؤلفون بشر يخطئون ويصيبون وبناءً على تصوراتهم يكتبون؛ بالتأكيد أفضل كُتب الإنجيل هي النسخ التي من تأليف القدماء، أما مؤلفون الإنجيل الجدد يكتبون معتمدين على ما يتم اكتشافه حديثاً من حقائق تاريخية، بالتالي عمليات التحديث حولت نسخ الإنجيل الحديثة إلى كتاب تاريخية. مؤلفون الإنجيل في كثير من الحالات الجديدة والقديمة لا يكتفون فقط بذكر مالذي حدث في الماضي ولكن يسعون لتبرير الغايات والوقائع والأحداث التاريخية. في نهاية القول؛ الهدف من هذه المحاولات كلها هو إقناع الجمهور والقراء أن الخلاص لا يأتي إلا بالإيمان المطلق بالمُخلّص يسوع المسيح. قد تبدو للبعض أنَّ هذه الأفكار مجرد هرطقة وابتداع في الدين. لكن ما يقوم به صنّاع الأفلام هو امتداد لما فعله مؤلفو الإنجيل من قبل آي أنهم يقومون بعرض وتفسير وتأويل وتصوير حياة يَسوع الناصري لأجل تعبئة الثغرات الزمنية بالاعتماد على الخيال البشري في كتابة نسخهم الإنجيلية بوسيلة سينمائية مسموعة ومرئية. لن يصل أتباع المسيح لخُلاصَة تامة ومطلقة عن كينونة يَسوع الناصري، ولكن جزءاً من الحقيقة يجري ضمنياً وبصورة غير منتهية داخل كل فيلم سينمائي وداخل كل نسخة من نسخ الإنجيل.