لا خلاف على أن المرأة ككائن اجتماعي مغيبة بشكل عام من الخطاب التاريخي العربي - الإسلامي، خصوصاً في العصور الوسطى. التي اصطلح - زوراً وبهتاناً برأيي - على تسميتها بعصور الانحطاط. ففي هذه العصور، التي تمتد عموماً بين القرنين الحادي عشر والثامن عشر، لا نجد أي صوت نسائي مستقل على الإطلاق، ما عدا ذلك الصوت المحاجج والرائع في عالم القصص: صوت شهرزاد التي لم تعادلها أية امرأة في البلاد. ولكن بلاد الخيال بالطبع. والأمر نفسه يتكرر في مجال الحياة الاجتماعية: فالقضاء المدني لا يمكن وصفه إلا بأنه قضاء ذكوري مطلق لا دور فيه يذكر للمرأة إلا في بعض النواحي الخيرية، التي ساهمت فيها بعض نساء الطبقة الحاكمة ببعض ثرواتهن في دعم المؤسسة الدينية عن طريق إقامتهن لأوقاف خيرية للصرف على مدرسة أو زاوية أو خانقاه، غالباً من خلال وكيل ومن دون أن يظهرن على الملأ، أو في الزوايا التآمرية المعتمة، حيث نسمع همسات، حانقة وغاضبة ومنذرة، عن تدخل بعض نساء أو جواري الحكام في الحكم وتلاعبهن برجاله. هذا عن نساء الطبقات المسيطرة والمرفهة، أما عن وجود المرأة العادية في المجتمع فنحن كثيراً ما نطالع في المراجع التاريخية إدانة النساء عموماً بسبب من استعدادهن للاستهتار والتبرج في كل مناسبة، مثل الأعياد والاحتفالات السلطانية بصعود عرش أو القضاء على منافس أو تدمير عدو. وأحياناً تطالعنا أيضاً تحذيرات وتوعدات عن العلاقة بين الكوارث التي أصابت المجتمع. مثل الطواعين المتكررة أو الجدب أو الفيضانات أو الغزوات المغولية المدمرة، وبين فساد العامة الناتج من السماح بخروج النساء الى المحلات العامة واختلاطهن بالرجال في المناسبات الاحتفالية اختلاطاً فاحشاً على رأي مؤرخينا. وتبقى الشهادات الإيجابية بحق أية امرأة قليلة، وهي في غالبيتها تنصب على التنويه بورعها وعبادتها أو صونها وعفافها وطاعتها لزوجها ومساعدتها للفقراء والمحتاجين. ومن النادر جداً أن نجد أي معلومات أخرى عن أي امرأة، ما عدا بعض الحالات الاستثنائية الخاصة بالزاهدات المتعبدات أو المحدثات اللواتي اشتهر بعضهن في القرون الوسطى، لعل أهمهن الدمشقية عائشة الباعونية ت.1516 المؤلفة الوحيدة - على حد علمي - لكتاب ذي صبغة تاريخية دينية، وهو كتابها في مدح النبي "المورد الأهنى في المولد الأسنى". الذي حققه ونشره أخيراً فارس أحمد العلاوي ولؤي غنام. ولا يختلف الأمر كثيراً عندما ننظر الى مجال الحياة الخاصة. فهنا أيضاً يندر أن نجد تمثيلاً وافياً لوجود المرأة في المضمار الوحيد الذي تمكنت فيه من الحركة بحرية نسبية، أي البيت. فعلى الرغم من رواج الكتابة التاريخية الذاتية في القرون الوسطى، وعلى الرغم من وجود المئات من كتب التراجم التي أرخت لكافة طبقات الفاعلين في المجتمع القروسطي من أمراء وقضاة وعلماء وفقهاء ومحدثين وأدباء وشعراء وأطباء وحتى بخلاء وعميان ومغفلين، فنحن لا نعثر إلا على القليل النادر من الإشارات لحياتهم العائلية، أو لأمهاتهم وأخواتهم وزوجاتهم وبناتهم وسراريهم. ولا يطالعنا عموماً إلا بعض الملاحظات العابرة عن نمط سلوكهم في محيطهم العائلي، وأقل من ذلك عن علاقاتهم بالنساء في حياتهم وعواطفهم تجاههن. كيف عاملوهن؟ هل نظروا اليهن كرفيقات حياة أو ككيان أسروي منفصل لا علاقة له بحياتهم إلا في شؤون الجنس ورعاية البيت والذرية والحفاظ على السمعة والشرف، أو بين هذا وذاك؟ هل أحبوهن أو كرهوهن؟ كيف عبروا عن ذلك الحب أو تلك الكراهية؟ تلك أسئلة تبقى معلقة من دون أجوبة في عموم الأحوال حتى عندما يطالع القارىء الحديث ذلك النوع الأدبي الذي ينتمي لأكثر مظاهر الذات خصوصية في الأدب العربي: السيرة الذاتية، التي ينتظر منها أن تتعاطى في بعض هذه الشؤون الخاصة والعائلية. ومن هذا المنطلق فإن أي سيرة لشخصية قروسطية تتعرض لبعض هذه المظاهر جديرة بالاهتمام والاحتفال لندرتها واختلافها عن المئات غيرها من السير التي تقتصر على النواحي المدنية والمهنية العامة وتقدم لنا صوراً باردة، محايدة، ووحيدة البعد لأصحابها. وأما السير غير العادية والتي تتطرق للحياة الخاصة فهي تضفي على أصحابها أبعاداً إنسانية تجعلنا نشعر معهم. نتعاطف مع آلامهم، نسر لنجاحاتهم، ونحزن لمصائبهم على الرغم من مسافة الزمن التي تفصلنا عنهم. وهي كذلك تفتح لنا نوافذ على عقليات ومشاعر كانت ستبقى مجهولة تماماً بالنسبة لنا، بل وتسمح لنا - وربما كان هذا أهم ما فيها - بالتعرف بعض الشيء على علاقاتهم العائلية وبشكل خاص على صلاتهم بالنساء في حياتهم. واليوم سأعرض لسيرتين صريحتين ومعبرتين لعالمين من أكثر علماء العرب شهرة في القرون الوسطى: الحافظين، المؤرخين. المحدثين شهاب الدين عبدالرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة 1203 - 1267 وتقي الدين أحمد بن علي بن عبدالقادر المقريزي 1364 - 1442. ولا أظن أن أحداً ممن تعاطى في التاريخ القروسطي لبلاد الشام ومصر يجهلهما أو يجهل قيمتهما. فالأول هو صاحب "الروضتين في أخبار الدولتين الثورية والصلاحية، أكمل كتاب بين أيدينا عن حياة وجهاد نورالدين ابن زنكي وصلاح الدين بن أيوب. والثاني صاحب المؤلفات التاريخية العديدة التي لعل أشهرها هو تاريخه لمدينته القاهرة "كتاب المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار". لم يكتب أي من أبي شامة أو المقريزي سيرة ذاتية بالمعنى الصريح للعبارة وإنما بث كل منهما قصة حياته ضمن مؤلف آخر تحرجاً وتعففاً - بعضه بحكم المهنة والعادة - عن التركيز على النفس. فالأول أرخ لحياته من ضمن تأريخه لحوادث دمشق، مسقط رأسه ومحل وفاته. والثاني قدم نتفاً من حياته ضمن عرضه لسير حياة معاصريه في كتابه الصغير "درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة". والإثنان يخالفان العادة في عصريهما ويقدمان لنا صوراً معبرة وحساسة عن اثنتين من النساء المهمات في حياتهم. الأول يتحدث بإسهاب وعاطفة عن زوجته، والثاني يسطر سيرة أمه بأسلوب حاول أن يجعله رصيناً ولكنه أتى يذوب رقة وحناناً. وهذين المثلين، وإن كانا لا يكفيان لتكوين صورة متكاملة عن الأم والزوجة في عقلية علماء العرب القروسطيين إلا أنهما يضيئان بعض الجوانب الإنسانية المؤثرة عن علاقة عالم بزوجته وآخر بأمه. صاغ أبو شامة مشاعره تجاه زوجته شعراً وضمنها كتاب اليوميات الذي كان يكتبه عن تاريخ دمشق طوال حياته المعروف بالذيل على الروضتين. وهذا تصرف جد نادر، خصوصاً بين العلماء، وهو يدل على عاطفة جياشة وحب زوجي صريح قل مثيله في ذلك العصر وتلك البيئة. القصيدة طويلة نسبياً. فهي مكونة من ستة وأربعين بيتاً، ومتكلفة لغوياً وإيقاعياً نوعاً ما، ولكنها صادقة ومعبرة، وإن كانت ساذجة أحياناً. وهي تتضمن في سردها وصفاً مطولاً لأخلاق الزوجة وعاداتها وطبائعها، ست العرب ابنة شرف الدين محمد بن علي العبدري الأندلسي المرسي، وتأريخاً لعلاقة أبي شامة بها. وتبدأ القصيدة بتعابير جد رزينة وموافقة لحرمة وصون امرأة شريفة المحتد وكريمة الأصل، فأبو شامة يقول: مكملة الأوصاف خلقاً وخلقة / فأهلاً بها وسهلاً بها سهلا ثم ينتقل أبو شامة الى أوصافها المحببة لنفسه فهي ولود ودود حرة قرشية / مخدرة مع حسنها تكرم البعلا وياذلة نظيفة ولطيفة / من أظرف إنسان وأحسنهم شكلا مطاوعة للبعض يقظى أديبة / موافقة قولاً وفعلاً فما أعلا أي أنها كما يختار ويشتهي من ضمن عقليته ومن ضمن وجهة نظر طبقته ومحيطه. ولكن أبا شامة لا يتوقف عند هذه الأوصاف النمطية الباردة والجامدة نسبياً وإنما يسمح لنفسه بالانجراف مع عاطفته بعد أن ثبت موقعه وموقع زوجته في الإطار المحترم المحافظ، فهو يمدحها لخصالها الإنسانية السمحة لأنها مدارية للأهل ان عتبت وإن / أحبت فلا عقد لديها ولا غلا رقيقة قلب مع سلامة دينها / فلست ترى شبهاً لها في النساء أصلا وبعد بضعة أبيات على هذه الوتيرة، يصف فيها أخلاقها وسكونها وعقلها وقناعتها بما قسم لها، يصل أبو شامة لوصف حاله معها ويبلغ في تعبيره الى أقصى درجات الصراحة وأرقها بالنسبة لموقعه وزمنه، فست العرب سيدة ولا كالسيدات، وهو يبوح بعاطفته تجاهها صراحة ومن دون أي مواربة. فهو يحبها وهذه هي المرة الوحيدة التي عبر فيها عالم قروسطي عن حبه لزوجته على حد علمي. وهو قد تزوجها وهي صغيرة، غرة، عاشت معه عشر سنين وصفاتها الجميلة والأصيلة تتبلور وتنجلي: وأحسن من ذا كله أن هذه / الخصائل طبع لم تكلف لها حملا تقل نظير في نساء زماننا / فلا تعذلوني في محبتها عذلا بنيت بها بنتاً لأربع عشرة / وهذه الخصال الغر في ذاتها تحلا وأوصافها في كل عام تزايدت / ولم تتغير قط سيرتها الأولى وحسبك عشر من سنين لها انقضت / معي لم أقل أف لديها ولا كلا لقد جملت لا غير الله ما بها / عشيرتها والأمر من بعد ذا أعلى وهنا تتوقف مخيلة كاتبنا عن التصريح وان كانت عاطفته ما زالت تدفعه للتعبير عن تعلقه بزوجته وحبه لها. ولكنه كما يقول ويكتفي "الأمر من بعد ذا أعلى". مسكين أبو شامة، فلا الوقت ولا التربية ولا الوقار المفترض فيه أن يحافظ عليه تسمح له بالذهاب أبعد مما ذهب وهو كثير كما هو. وإن دل ذلك على شيء فهو لا يدل على أي تفتح في محيط أبي شامة المحافظ سمح له بالاندفاع في وصف محاسن زوجته ومحبته لها، وإنما على فرادة أبي شامة بالنسبة لعصره. فأبو شامة كان من دون أدنى شك إنساناً شديد الحساسية وسريع التأثر، بل وربما كان أيضاً نموذجاً سابقاً لعصره بنزعته الإنسانية الرقيقة والشاملة. ولدينا أمثلة أخرى من حياته تؤكد هذه الفرادة. فهو الوحيد من بين مؤرخي عصره الذي صادفته في قراءتي الذي توقف أمام منظر تعذيب لمحكوم بالصلب وتألم له وحاول أن يبرر جريمته ويدين شدة العقوبة، بل أنه ذهب أبعد من ذلك للتأكيد على أن السماء نفسها رأت رأيه وأن الشاب المصلوب قد كف عنه عذابه بتدخل إلهي وأنه لاقى وجه ربه وهو يبتسم لأن أبواب الجنة فتحت له غفراناً ورحمةً. أما المقريزي فهو لا يذكر أبداً زوجته، أو زوجاته، وإن كان يخبرنا عرضاً انه اشترى يوماً جارية للتسري ولامه خال أمه على ذلك، لأن الجارية "مهر غالٍ وقرش خالٍ، وابن بلا خال" على حد تعبيره. ولكنه، أي المقريزي، يفرد لأمه ترجمة شيقة وغير عادية في كتابه "درر العقود الفريدة". يبدأ المقريزي بأن يخبرنا بإسم أمه، وهو تصرف نادر بين الطبقات المتزمتة أساساً، فهي أسماء بنت محمد بن عبدالرحمن المعروف بابن الصائغ الحنفي، أحد أشهر علماء الحنفية في عصره. ويعطينا لمحة عن حياتها، فهي قد تزوجت ثلاث مرات، الأولى عندما كانت طفلة في الثانية عشرة، ثم تزوجت بأبي المقريزي، علي بن عبدالقادر، ليخلفها عليه آخر بعد وفاته يهمل المقريزي اسمه، وربما للأمر دلالة ما ولكن المقريزي لا يظهر أي استهجان لزواج أمه من آخر بعد أبيه. ثم يقول عنها أنها كانت "من أفضل نساء زمانها: ديناً وعفةً وصيانة وعقلاً ومعرفةً وصبراً وخبرةً". كلها صفات مستحبة في النساء، وخصوصاً منهن نساء وأمهات العلماء الوقورين الجادين كالمقريزي. ولعل المقريزي يذهب بعيداً حتى بالنسبة لعصره في التأكيد على سمو أخلاق أمه، إذ أنه يخبرنا بأنها كانت لا ترفع النقاب عن وجهها إذا ذهبت لزيارة قبر أبيها لأن "الأرواح"، برأيها "بإزاء القبور". ويؤكد المقريزي على هذه الفكرة بأن يزيد بأنها قالت له مرة "ما رأيت قط وجه أجنبي". ثم يكر لنا سبحة التزامها الديني الورع والشديد، فهي كانت "تديم قيام الليل وصيام الإثنين والخميس، وتواظب على الأوراد من الذكر والقراءة. وتديم الإحسان للأيتام والأرامل والفقراء، وحجت مع الرجبية أي الذين يذهبون للحج مبكرين في رجب فأنفقت مالاً كثيراً في وجوه البر. ثم، بعد برهة يستجمع فيها أنفاسه، يظهر المقريزي حقيقة عاطفته تجاه أمه: "وبالجملة فقل ما كان في عصرها مثلها". هذا هو بيت القصيد، ولكن المقريزي لا يسمح لعاطفته بزعزعة وقاره، فهو لا يتعرض لتلك الأشياء الصغيرة والخصوصية والعادية التي جعلته قطعاً يحب أمه ويحترمها، بل ويقدسها، كما لا بد وأننا كلنا نشعر، ولكنه ينزع لسرد القصص التي تثبت ندرة مثال أمه على الصعيد الأخلاقي الديني والإنساني في آن لتبرير عاطفته التي لا تحتاج لتبرير من وجهة نظرنا المعاصرة. فهي صابرة مصابرة، "أقامت بالحمى إحدى وعشرين سنة وبها ماتت غير جازعة ولا متسخطة"، وهي. فوق ذلك، كانت ذات جلد خارق للعادة، فهي عندما ابتليت بداء في عينها اقتضى قطع جفنيها بالحديد - من دون مخدر بالطبع - لم تحتج الى مسك يديها بل ثبتت لقص جفنيها ولم تتأوه أو تئن، بل ما زادت على أن كانت تنفخ. ويعلق المقريزي باندهاش "فكان أمراً مهولاً لم نكد - هو وخاله - نثبت لرؤيته، وصبرت هي لعظيم ما بليت به". وهي كذلك ثابتة الجأش في مواجهة المصائب، ذات نزعة تأملية وحتى فلسفية بعض الشيء، فهي عندما فقدت ولداً وعزيت فيه قالت "ما أحسن الصبر لولا يفني العمر". وكان لها الكثير من الحكم المروية التي اشتهرت نساء بلادنا منذ القديم بتناقلها من جيل لجيل كمستودع شفهي للحكمة الشعبية التي حفظت للمجتمع طابعه ولحمته. فهي مثلاً تعطي وصفات طبية شعبية مجرية لا تخيب. وهي كذلك أخبرت ابنها عن عقوبة الشماتة القدرية، "أنه ما نزلت بأحد مصيبة فعمل جيرانه فرحاً إلا وأصيبوا عن قريب"، أو عن الاعتقادات السائدة عن علاقات خفية بين دلالات الفعل وتأثيراته كما في قولها مثلاً "أنه ما عمل عرس وختان معاً إلا وانتفض العريس وافترق الزوجان سريعاً لأنه فيه قطع ووصل". ولكن أرق ما يثبته المقريزي عن أمه هو اخبارنا بأنها كانت تحب الإنشاد وأنها كانت تنشده مقاطع صوفية عشقية مرهقة، حفظتها عن أبيها، لعل أجملها: قل للذي نقض العهود وخانا / وأمال نحو العاذل الآذانا ان الذي خلق المحبة قادر / من بعدها أن يخلق السلوانا أو أيضاً: عودوني الوصال والوصل عذب / ورموني بالصد والصد صعب زعموا حين أزمعوا أن ذنبي / فرط حبي لهم وما ذاك ذنب لا وحق الخضوع عند التلاقي / ما جرا من يُحِب إلا يُحَبُّ فكيف وأين كانت أسماء تنشد ابنها هذا الشعر؟ هذا ما لا يخبرنا إياه المقريزي. ولكنه يضيف تعليقاً على الأبيات التي يبثها أنها أبيات اشراقية تصوفية. فهل يقصد المقريزي من تلك الملاحظة أن يخبرنا أن أمه كانت متصوفة؟ لا أظن ذلك، ولكن إنشاد مشاعر الحب صراحة أمر غير مستحق في أوساط العلماء، خصوصاً إذا كانت المشاعر آتية من شخصية لا تمس، بل ويفترض فيها أنها الحاوية لكل الأخلاق الحميدة، كالأم. وأما التواري خلف مشاعر العشق الإلهي فممكن بل ومحبب، لأن التصوف بعاداته وأشعاره كان قد دخل ضمن المجال العلمي المحترم منذ القرن الثالث عشر ولاقى قبولاً في أوساط العلماء والفقهاء. فهل كانت أسماء تعني أحداً معيناً في إنشادها؟ أبو المقريزي مثلاً أم ذلك الزوج الثالث المجهول. أم أنها فعلاً كانت تتغنى بالذات الإلهية أو المعشوق الأزلي المترفع؟ هذا هو ما يتركنا المقريزي معه في نهاية ترجمته لأمه، ربما لأنه لا يريد الإفصاح أكثر، أو ربما لأنه لا يعرف كيف يفصح أكثر، فلا اللغة ولا الكوابح الاجتماعية ولا المواضعات المتبعة ولا الرزانة المفترضة تسمح له بالانطلاق في تيار التعبير الذاتي بحرية وعفوية. ولكننا لا نملك في نهاية قراءتنا لترجمة أسماء من أن نرى فيها إنسانة ذات أبعاد فردية، متميزة وليست فقط أم عالم. أي أن المقريزي أيضاً، كأبي شامة، تجاوز حدود السيرة العادية ليصوغ لوحة واقعية بعض الشيء - على أقل تقدير من ضمن المتخيل المتاح له - لأمه قربها منا وأفادتا عن درجة محبته واحترامه لها. وها نحن الآن من موقعنا المعاصر ننظر لهذين الفردين الفذين اللذين تفوقا في مجتمعهما العلمي من خلال التقيد بقيوده والالتزام بضوابطه والانتهاء عن نواهيه. وحازا هما الإثنان على اعتراف معاصريهما ولاحقيهما بالسبق في العلم وفي التاريخ. ومع ذلك، فهما الإثنان متعاليان أيضاً عن محيطهما الوقور والرزين والمتزمت في نهاية الأمر ومخالفان له بعض الشيء، لأنهما يفصحان عن نفسيهما في سيرتيهما إنسانيين بالمعنى الأوسع للكلمة. وهما كذلك يحاولان في كتابتهما طرق تعبيرات لم تكن ضمن المنهج كما يقال وإشراع مجالات جديدة لأنسنة عواطفهما بطريقة شخصية، حميمية ربما، ولكنها تبقى في نهاية الأمر مترددة، وجلة، وساذجة لأنها غير معهودة وغير داخلة ضمن السياق الأدبي السائد الذي تعاملا مع الكتابة من ضمن إطاره. ومن هنا جمال هذه العواطف وحساسيتها ودفئها بالنسبة لنا اليوم لأنها تخاطبنا نحن بلغة نفهمها وإن كانت على الأغلب غريبة على أسماع ومفاهيم معاصريهما، وتزيح لنا الغطاء بعض الشيء عن المرأة، ذلك الكائن الإنساني الصامت عموماً وربما المكمم أحياناً، كما ظهرت كزوجة وكأم في حياة أبي شامة والمقريزي. *استاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا