في الأسبوع الماضي شاركت في مناقشة تلفزيونية حية على شاشة التلفزيون الأردني مذاعة دولياً في برنامجه الأسبوعي السياسي، وكان الموضوع هو عدم الانحياز، تعليقاً على القمة الثانية عشرة لدول عدم الانحياز التي استضافتها حاضرة الشاطئ الشرقي لجنوب افريقيا "دوربان" في مطلع الأسبوع الأول من هذا الشهر. ولم أفاجأ بالخط الذي اتخذه المتحدثان معي في البرنامج، وأحدهما رئيس وزراء عربي سابق والثاني استاذ للعلاقات الدولية، إذ كان هذا الموقف متوقعاً من جانبي، وهو لا يخرج عن ان حركة عدم الانحياز تعاني من مشكلات كثيرة ولكنها - اي حركة عدم الانحياز - ضرورية للدول الاعضاء. واختلفت شدة نقد الحركة بين متحدث وآخر، لكنني اخذت الموقف المختلف في النقاش والمتلخص في ان هذه الحركة فات زمانها وهي ولدت لأغراض ماضية، وفي زمن مختلف عن زماننا، ولم تعد الأغراض قائمة بينما تغير الزمن، ثم وصفتها بأنها تشابه تجمع المحاربين القدماء الدوري لالتقاط الصور التذكارية، والمفاجأة التي سرّتني ان العديد من المتداخلين المشاهدين للبرنامج والذين اعتقد ان تدخلهم عفوي قد وافقوني الرأي بدرجة او بأخرى، ما يؤكد ان بعضاً وربما كثيراً من السياسيين، والاكاديميين العرب يبحرون في تشكيل مواقفهم وآرائهم بعيداً عن التيار العام والشعبي في عالمنا العربي. وهي ملاحظة ان صحت على مناقشة دور عدم الانحياز فهي قد تصحّ على قضايا كثيرة سياسية واجتماعية وفكرية يرى فيها المثقف والسياسي رأياً ويرى فيها الجمهور العام رأياً آخر، الا ان ما يكبل الرأي الآخر ويمنعه من الخروج الى سطح المناقشة هو الاحتكار ولا أريد ان أقول الهيمنة التي يفرضها اهل "الحل والعقد" من المتكلمين، وما ان يظهر تيار او رأي آخر حتى يقوم الرجل العادي المكبوت بتأييده بحماس من يرى انه القول الفصل والصحيح. تاريخياً تشكل هذه القضية في تراثنا العربي الفكري بعامة عقبة كأداء في النقاش العام وتطوير الأفكار، إذ نجد ان من يريد ان يؤكد خطه في المناقشة تأكيداً لا يقبل الشك يعود دائماً الى اقوال السلف والقادة لتأكيد هذه الفكرة او تلك في الوقت الذي تتطور فيه الافكار الانسانية نتيجة المعاناة والخبرة. وبالعودة الى موضوعنا حول حركة عدم الانحياز فإن الملاحظ انه حتى في العلاقات الدولية تموت الافكار القديمة ببطء حيث ان حركة عدم الانحياز قد فقدت اسباب وجودها كما تخيلها وسعى الى تحقيقها القادة التاريخيون للحركة، ففي نهاية الخمسينات وبداية الستينات والمعركة السياسية والفكرية في العالم محتدمة بين الشرق والغرب، والشعوب تتطلع الى تحقيق حرياتها. كانت فكرة الحياد الايجابي اولاً ثم عدم الانحياز تعني شيئاً لبعض هذه الشعوب، ولو ان الحركة اخذت بعد ذلك في خضم الصراع تميل الى المعسكر الاشتراكي، الا ان عقد الثمانينات والتسعينات - خاصة - قد افقدها، الكثير من زخمها، حيث انتصر فكر المعسكر الرأسمالي وسقط الفكر الآخر وتجاربه سقوطاً مروعاً يكاد يذهب بأكبر بلدانه وهي روسيا الى الفوضى. ذهب القوم الى "دوربان" وقلوبهم شتى، منهم من فهم حركة العصر وشروطها في التعددية والشفافية والمشاركة السياسية وإعلاء حقوق الانسان وسيادة القانون الموضوع طوعاً من الشعب، وتمكين قوى السوق في الاقتصاد، ومنهم - وهم الحرس القديم - من ذهب لاستخدام الحركة كمظلة ومشجب مرة اخرى بعد مرات عديدة للتغطية على الخلل الفادح في سياساتهم الداخلية القائمة على القمع واحتكار السلطة وسيادة الحزب الواحد بل الزعيم الواحد الحاكم وتشريد الشعب وحرمانه من ابسط حقوقه. كان لنقطة الجذب معناها التاريخي وكانت سبباً في هذه الضبابية فقد ذهب الجميع الى رجل يرأس القمة ويرأس بلدا له مغزى، إنه نيلسون مانديلا المناضل الصلب، كما ان دوربان المطلة على المحيط الهندي هي من بين مدن جنوب افريقيا مدينة كل الألوان وكل الأعراق، وذات نفحة مختلفة عن بقية مدن جنوب افريقيا الاشهر بريتوريا - العاصمة - ذات النفس الافريكاني الأبيض، او جوهانسبورغ العاصمة الاقتصادية التي سيطر على اقتصادها الغني البيض دائماً سواء كانوا من الانكليز "البريتان" او من الهولنديين الذين تأفرقوا، دوربان هي مدينة مختلفة، فهي مدينة كل الأعراق في جنوب افريقيا ذوي الجذور المختلفة من القبائل صاحبة المكان او الهنود او الانجليز او الهولنديين او الألمان وغيرهم، مدينة يموج شاطئها بكل ألوان الطيف من قارات العالم الثالث القديمة افريقيا وآسيا وأوروبا. ذروة، تاريخ هذه البلاد وتاريخ بطلها الذي يشابه في نضاله احد ابطال الاغريق صار رمزاً للانفتاح الانساني الذي تولد من معاناة في سجون الفصل العنصري وأثمر قبولاً بالتعددية والتسامح الانساني الذي يعرف شروط العصر. وقد توجه الجمع الحاشد المكوّن من اكثر من مئة وعشر دول، لهذا البلد، وفي ضيافة هذا الرئيس الرمز وكنت وربما آخرون غيري يتوقع قمة مختلفة ليس عن سابقتها فقط ولكن مختلفة حتى عن قمة الميلاد الأول، كنت أتوقع ان ما رآه عبدالناصر ونهرو وتيتو وسوكارنو وشوان لاي في ذلك العصر قبل اكثر من اربعة عقود قد يراه القادة او بعضهم على الأقل اليوم مختلفاً عن الواقع والعصر، ففي عصر العولمة وثورة المعلومات والسقوط الذريع والمدوي لتجربة قهر الانسان وسلخه عن ادميته وانسانيته تكون الرؤية غير ما كانت عليه منذ اكثر من أربعة عقود، وتوقعت ان ما شهدته دول كانت مؤسسة لعدم الانحياز من متغيرات كان كافياً لولادة حركة جديدة في رؤاها على الأقل والتي لا تتشكل كرد فعل لما يحدث خارجها ومن منطلق محاسبة دقيقة وناقدة لما جرى ويجري داخلها. اعد نيلسون مانديلا وبعض قادة الدول الاخرى لهذه القمة اجندة تتفق مع العصر وشروطه الجديدة، ولكنه فشل مع رفاقه المعتدلين في ان يحقق ما أراد لأن "الحرس القديم" في الحركة، وهم مجموعة من الدول لا تزال تمارس العنف والقهر الداخلي ضد شعوبها، أرادت ان تستخدم علم الحركة وزخمها التاريخي لنزع تأييد لممارساتها تحت شعار "حرب الآخر" استمراراً لسياسة ردود الفعل لما يجري في الخارج وابتعاداً عن مواجهة الحقائق. ودعونا نتأمل في بعض نتائج وتوصيات قمة عدم الانحياز الاخيرة وما كان ينبغي ان تكون، صحيح ان هناك شبهات هيمنة من الاغنياء في الغرب، وارهاباً محلياً ودولياً وحروباً اقليمية طاحنة، ولكن الاخطر ان هذه الحروب تخاض في اغلبها بين دول اعضاء في عدم الانحياز، والارهاب كثير من منابعه مصدرها العديد من دول عدم الانحياز، والراعي الحقيقي وغير الرسمي لكل ذلك هو "الكوارث" السياسية والاقتصادية الداخلية في معظم هذه الدول المكونة لهذه المنظمة، الاستبداد السياسي والقهر الانساني وإهدار كرامة المواطن وحقوقه الطبيعية والفساد المستشري وحسابات المصالح الضيقة هي السائدة، لذلك فإن شعوب الكثير من هذه الدول تبكي على جثة الانفتاح الفكري، والتسامح الديني وقبول التعدد العرقي، بينما القاتل لكل هذه القيم النبيلة حي يرتع ويعربد على كراسي الحكم في كثير من دول عدم الانحياز. على رغم أهمية التوصيات التي صدرت عن قمة دوربان الاخيرة الا انها تظل توصيات "ردود افعال" غلبت عليها الاصوات العالية للحرس القديم، اما الفعل الحقيقي الذي عجز هذا الحرس عن مواجهته فهو مواجهة الذات ومواجهة متطلبات العصر وفهم شروطه والنظر الى ما حققته الشعوب او ما لم تحققه بعد هذه المسيرة الطويلة من المعاناة والألم. ان معظم الشرور التي عالجتها توصيات قمة دوربان كالحروب الاقليمية والصراعات العرقية ومواجهة الارهاب كلها او معظمها هي نتائج شريرة لشر اساسي في عالم نام يفتقد الديموقراطية بمعناها الحقيقي، واحترام حقوق الانسان والقبول بالتعددية وترك هامش للاجتهاد والاختلاف، ومن المفارقات ان مانديلا كرمز وجنوب افريقيا كمثال هما نموذجان لفهم العصر وشروطه، وفات على بعض المجتمعين ان يفهموا هذه الشروط الماثلة بين ايديهم. كان ينبغي الا تنحاز مجموعة عدم الانحياز بالتجاهل والصمت الى ما تبقى من قمع الشعوب على يد الأنظمة الحاكمة اللاديموقراطية داخلها، وكان ذلك الموقف كفيلا بجعلها تولد ولادة ثانية جديدة ومحترمة وفاعلة، لكن هذه الولادة اجهضت، ومن ثم يصير السؤال الآن: هل لحركة عدم الانحياز مستقبل؟ للاجابة عن هذا السؤال نعود الى ما بدأنا به من عرض لاستجابة المشاهدين في ذلك البرنامج التلفزيوني الذي وصفت، فقد اتفق معظمهم، وعلى غير سابق معرفة او اتفاق، ان شكل وبرنامج هذه الحركة لم يعد له موضع في خضم التغيرات الدولية الهائلة وقد فاتها كجماعة دولية ان تأخذ بأدوات العصر، لذا فانني اعتقد ان دول عدم الانحياز ستنقسم الى فريقين، فريق سيأخذ بشروط العصر وينخرط في سياق الدول المتحضرة، وآخر سوف يتخلف عن هذه الشروط فيخرج من الصيغة الحضارية الى الصيغة البربرية، ولعل القادم من الأيام يشهد بأن موت القديم وإن حل ببطء هو مصير محتوم وإن كان فادح الثمن، وكان يمكن ادخار هذا الثمن الفادح بمحاولة للولادة من جديد لم تتم لأنه لم يكن مرحباً بها لدى كثيرين من رموز الأنظمة البالية والتي تقاطرت بثياب جديدة وأقنعة جديدة على دوربان حيث عقدت قمة عدم الانحياز الاخيرة. * كاتب كويتي